استدرج قرار مجلس الشيوخ الأميركي غير الملزم في 26 أيلول/ سبتمبر بإقامة فيديرالية بين ثلاث مناطق في الجنوب الشيعي والوسط السني العربي والشمال الكردي، على أن تتولى حكومة اتحادية ببغداد أمن الحدود العراقية الوطنية، وتوزيع عوائد النفط، وإدارة نفقات الإعمار وخدمة الدين - استدرج شجباً عريضاً من جهات سياسية، خارجية وداخلية، قلما أجمعت على رأي إجماعها على شجب التوصية الأميركية الجزئية. فالكلام على تنظيم سياسي ودستوري يحتسب المنازعات والاختلافات والانقسامات القائمة فعلاً بين الجماعات المحلية أو العصبية أو المذهبية والدينية أو القومية العرقية والثقافية، يستفز"الدول"الإقليمية والمشرقية العربية وقياداتها الرسمية. فالمذهب الرسمي والغالب، في معظم الدول، هذه ينكر حقيقة المنازعات والخلافات، وصدورها عن بنية الجماعات ومصالحها ونزعاتها المشروعة، وعن علاقاتها بالجماعات الأخرى، لا سيما تلك الغالبة على النظام السياسي والمسيطرة عليه. وتصدرت التنديد بالقرار الجزئي أشد الدول، بجوار العراق، ضلوعاً في قضاياه ومشكلاته وحروبه، فخشي رئيس هيئة الأركان العامة في القوات المسلحة التركية يشار بيوك آنيت"تفتت العراق". وحصر خشيته في بروز"دولة مستقلة، وشيكاً، بشمال العراق"، تنهض مثالاً لأكراد جنوب شرقي الأناضول حيث ينشط نشاطاً عسكرياً دامياً"حزب العمال الكردستاني"، وذريته وانشقاقاته المتكاثرة منذ اعتقال منشئه عبدالله أوجلان قبل نحو عشرة أعوام، وتأوي الى جبل قنديل، وشعابه الصعبة والمنيعة على القوات العراقية الوطنية والكردية، وحدات من مقاتلي"الكردستاني"سبق للقوات التركية ان أغارت عليها، وحاولت حصرها والقضاء عليها من غير جدوى. وفي أثناء هبوب العاصفة على قرار مجلس الشيوخ كان وزيرا الداخلية التركي والعراقي"يفاوضان بأنقرة على اتفاق بين الدولتين، وقوات أمنهما. وتريد الدولة التركية إقرار نظيرها العراقي لقواتها بالحق في اجتياز الحدود العراقية، من غير إذن أو إجازة، إذا لجأ المقاتلون الأكراد الى أرض البلد الجار في أثناء تعقبهم ومطاردتهم. وكانت القوات التركية شنت على"الكردستاني"، وأنصاره الكثر في ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته، حملات طويلة. وانتهكت الحملات حرمة الأراضي العراقية. وكان العراق مقيداً بحربه الإيرانية الطويلة والمدمرة على الجبهة الشرقية الطويلة والمختلطة، فلم يسعه الاحتجاج العملي والرادع على الانتهاكات. وتقلصت الغارات التركية في أعقاب اعتقال أوجلان. وتوقفت مع احتلال قوات التحالف فالائتلاف العراق، وتولي إدارة كردية ذاتية شؤون كردستان العراق. فأسبغ العراق المحتل وپ"المفتت"، على قول رئيس الأركان التركي، حصانة على إحدى أشد مناطقه استقلالاً عن"مركزه"، وأكثرها تعرضاً للانتهاك من قبل. وخرج التنديد السوري عن الاعتبارات السورية الوطنية. فعلى خلاف اقتصار الجيش التركي، من دون وزارة الخارجية أو رئاسة الوزارة، على حيثيات وطنية تركية، نصب حزب البعث العربي الاشتراكي السوري الحاكم نفسه ولياً على القانون الدولي. فدان باسم القانون هذا"الخرق الفاضح"الذي ارتكبه قرار مجلس الشيوخ الأميركي غير الملزم، والمستند الى مبادئ الدستور العراقي الفيديرالي والقرار يؤولها تأويلاً كيانياً، قومياً ومذهبياً، على خلاف مفهومها ومعناها"الإداريين"، على ما لاحظ بعض العراقيين. وحمل القرار على قصد مبيت يرمي الى"إلغاء العراق كدولة بكامله وتفتيت شعبه الواحد". وباسم"المنطقة"العربية وپ"الأمن القومي العربي"، هذه المرة، بعد الإدانة باسم القانون الدولي، يدين البيان"استراتيجيات"أميركية، وتالياً صهيونية، تريد"تقسيم العراق كخطوة أولى لتقسيم دول المنطقة". وانتهى البيان الحزبي ? وهو يصدر باسم الهيئة الحاكمة والجامعة"الدولة والمجتمع"السوريين، على ما ينص الدستور السوري في توكيله"القيادة"الى حزب البعث، ولم يصدر باسم جزء من الدولة أو الحكم ? انتهى الى اختصار"الوضع المتأزم في العراق"في"الاحتلال الأميركي". والحكم الحزبي المندد، باسم القانون الدولي والأمن القومي العربي، بإجراء يفتقر الى موافقة مجلس النواب في إطار الكونغرس وإلى قبول"الإدارة"أو الرئاسة، تربطه بالعراق، وبالنظام الأمني العربي علاقات، على أضعف تقدير ووصف، ملتبسة. فهو، منذ 2003، فناء الحركات التكفيرية والسلفية المقاتلة، ومخيم"مجاميعها"من اليمن والخليج والمشرق ومصر وليبيا والمغرب، ومحطتها وممرها الى العراق. وهو مصدر شطر راجح من مجاميع المقاتلين هؤلاء وزعمائهم على شاكلة"أبو القعقاع". والأراضي السورية، علناً أو سراً أو الأمرين معاً، هي ملجأ القيادات البعثية والصدامية الناشطة في تنظيم المقاتلين السنة، وتمويلهم، والتنسيق بينهم، والتخطيط الأمني والاستخباري لعملياتهم. والشطران، السلفي التكفيري والصدامي البعثي هما راعيا أعمال القتل والتدمير والاغتيال التي أدت الى قيام بعض الاهل العراقيين على بعضهم الآخر. فتعمدا، من طريق اغتيال القيادات الشيعية العائدة والمقيمة، وإيقاع الخسائر الفادحة في التجمعات والاحتفالات والأسواق الشعبية، وتفجير المقامات والأضرحة والمساجد المذهبية، إضعاف شيعة العراق، وشقهم وحملهم على القيام على السنّة عموماً، واستصراخ المسلمين السنّة العرب، مجتمعات ودولاً، على"الصفويين"، الأعداء المذهبيين، و"الفرس"، الأعداء القوميين، المزعومين. ولا يتحمل الحكم الحزبي السوري المسؤولية المباشرة عن أعمال الشطرين هذين. ولا عن أعمال الشطر الثالث الشيعي الصدري والميليشيوي الذي تربطه به كذلك راوبط وثيقة، مباشرة أ ومن طريق"حزب الله"بلبنان وجهاز أمنه وتدريبه. لكن سكوته عن أعمال الإرهاب التي تنفذها التيارات الثلاثة هذه وإغضاءه عن قياداتها ومقاتليها، ومقايضته إدانة بعضها بين وقت وآخر بمديح مسؤولين عراقيين سياسته وپ"تعاونه"، وضلوعه العميق في تسويغ استراتيجيتها المناهضة للغرب الأوروبي والأميركي ? هذه مجتمعة تشركه إشراكاً قوياً ومباشراً في تمزيق الجماعات العراقية، وتقطيع روابطها، ونكء جروحها. والى اليوم، لم توفد الحكومة السورية سفيراً الى بغداد، على رغم تعهد يرقى الى السنتين. ولم ينجم عن استئناف العلاقات الديبلوماسية المقطوعة خطوة ملموسة. وفي المفاوضات السورية ? الإيرانية، تسعى السياسة السورية الى اقتطاع الحصة"العربية"، وتخليصها من الرغبة الإيرانية في الهيمنة العامة. وينطوي هذا على إقرار بتقاسم النفوذ في العراق الممزق، وعلى إعداد لپ"ملء الفراغ"المأمول والمرجو إذا اضطرت القوات الأميركية الى الانسحاب من العراق على غرار"الانسحاب"من فيتنام أو الهرب منه، على ما يقول الأميركيون. وعلى خلاف إبداء الخشية التركية، والإدانة الحزبية القانونية والقومية السورية، لم يعلق الساسة الإيرانيون تعليقاً"مركزياً"على القرار الأميركي الجزئي أو فات هذا التعليق الكاتب، على الأرجح. وأياً كان الرأي الإيراني المعلن، فالسياسة الإيرانية الفعلية تُعمِل تقطيعاً وشرذمة في الدولة والجماعات العراقية على أنحاء ومقادير لا تبارى. فهي راعية المنظمات الأهلية والمحلية المسلحة والمتنافسة، وراعية تنافسها واقتتالها، على مثال"الرعاية"السورية العريقة اقتتال الجماعات اللبنانية المديد والمتجدد. وتشمل رعايتها قيادات سلفية مقاتلة سنية، لا تطرح"القاعدة"منها. وهي مصدر التسلح والتدريب والتمويل والخبرة الأمنية والعسكرية. وهي الملوحة بنيابتها عن الشيعة العراقيين في الدائرتين، الإقليمية والدولية، والمستقوية بهم على السياسة الأميركية، وعلى الدول العربية المتحفظة على السياسة الإيرانية، والمحور الإيراني ? السوري. وبينما تتحفظ السياسة التركية عن تولي حق تعقب"ساخن"للمقاتلين الأكراد، وتطلب مفاوضة وزارة الداخلية العراقية، تقصف المدفعية الإيرانية البعيدة المدى، منذ نيف وأسبوعين، مدينة جومان، على 17 كلم داخل كردستان العراق، وقرية دربند ومحي خلان. وهجر أهل هذه قريتهم خوفاً من القصف. وترد وحدات النخبة في الحرس الثوري الإيراني على اضطرابات بأذربيجان الغربية الإيرانية، تنسبها الى حزب كردي،"بيجاك"، ينشط على جانبي الحدود الإيرانية ? العراقية. وترد الوحدات هذه في العراق، سكاناً وأراضي، على اضطرابات تقع بإيران. وفي الأثناء، تعالج السلطات الإيرانية اعتقال القوات الأميركية مواطناً إيرانياً تتهمه بأنشطة استخباراتية وعسكرية وتنفي طهران التهمة، بغلق بوابات حدودية بين إيرانوالعراق، في محافظة السليمانية. فتقتص من الأهالي، وتحملهم المسؤولية المعنوية والمادية عن فعل ارتكبته القوات الأميركية في معرض نزاعها وخلافها مع إيران. ولا يفعل ساسة إيران هذا، أي قصف المدن والقرى المأهولة وغلق الحدود، بجنوبالعراق الشيعي. فإجراءاتهم العقابية تقتص من الأكراد، وترمي الى ردع ميولهم الأميركية المفترضة. واقتصر رد الدول العربية الجارة على اقتراع مجلس الشيوخ، خارج جامعة الدول العربية وبياناتها"القومية"، على تجديد حرصها على وحدة العراق، ودعوة العراقيين الى تحمل مسؤولياتهم عن استقلال بلدهم. وهذا قريب من موقف بعض المسؤولين العراقيين أنفسهم. وهو لا يطرح عن عاتق العراقيين قسطاً من المسؤولية عن تفكك العراق، ولا يلقي بهذه المسؤولية على السياسة الأميركية. وكانت الهيئات العراقية تناقش صيغة جديدة لقانون المساءلة والعدالة الذي ينبغي أن يحل محل قانون"استئصال"البعث، ويرحب معظم المنظمات الحزبية بمشروع"العقد الوطني"الذي أعده نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي. والفرق بين مثالي الردود جلي، وإن كان لا يتستر على اقتتال العراقيين، شيعة وسنّة وكرداً، وعلى تنافسهم الدامي على"الجبنة"العراقية. وينهض الفرق على معيار راجح هو وجه استعمال الخلافات الداخلية. فالقوى الإقليمية المنخرطة، في الداخل والخارج وهذا يستثني الدولة التركية، في محاربة السياسة الأميركية، تتوسل بالمنازعات الداخلية، الأهلية والسياسية والاجتماعية، الى التمكين لسيطرتها على داخلها هي، وقمع منازعاته، ثم الى تقوية دورها الإقليمي، أو أطماعها الإقليمية في معظم الأحيان. وهي تتنقل بين الدائرتين من غير عسر. وتسوغ محاولة سيطرتها على دول الجوار، بمنازعات الدول الداخلية والأهلية، وبعجز قوى الداخل عن حل مشكلاتها والتحكم فيها. وهذا نهج السياسة السورية العريق في لبنان وفلسطين والأردن، واليوم في العراق. وهو كان النهج الفلسطيني، وهو النهج الإيراني اليوم. وحمل المنازعات على الصفة الأهلية، وعلى الدائرة الداخلية، يسوغ انتهاء المنازعات، أو إنهاءها، على صورة حاسمة تغلب فريقاً على فريق، وتنتزع من الفريق الخاسر أو المغلوب دعاويه في المشاركة. ويقتضي الحسم التام للمنازعات، من وجه آخر، نفي الصفة الداخلية الأهلية عنها، من غير قبول صفتها الإقليمية أي حملها على خلاف بين الدول نفسه. فالخلاف بين الدول، بين العراق وبين سورية، أو بين العراق وبين إيران، إذا جر الى حرب لم تنته الحرب الى استئصال واحدة من الدولتين. وعلى هذا يحارب الحكم الحزبي السوري اميركا في العراق أي الأكراد والشيعة"الإيرانيين" ولبنان الأغلبية النيابية والحكومة وجمهورهما وفلسطين محمود عباس وحكومته، ويحارب"الصهيونية". وهو شأن الحكم الخميني الإيراني. ويأمن النظامان ارتداد التوسل بالقوى الأهلية الداخلية على أنهما من طريق حمايته حماية متشددة. فيقمع جهاز الأمن السوري التيارات السلفية المقاتلة على أرضه على قدر ما يستعملها في أغراضه في الجوار الإقليمي القريب. ويؤوي الحكم الإيراني عناصر من"القاعدة"، ويموّن منظمات سنية عراقية مقاتلة، على قدر ما يسحق الأهوازيين، من العرب السنّة، والبلوش على حدوده مع أفغانستان. فالوحدة الوطنية أو القومية والسياسية التي تزعم سياسات الدول الإقليمية هذه حمايتها ورعايتها بوجه"السياسة"الأميركية، إنما هي على شاكلة الوحدة القسرية التي تصنعها أنظمتها في دولها، أو في الدول التي تسيطر عليها وتخطط للسيطرة عليها. وكأن الوحدة العراقية، على المثال البعثي الصدّامي، لا تتحمل مسؤولية عن انفجار العراق تحت وطأة الحملة الأميركية والدولية، وتفكك العلاقات الإقليمية الناجم عن الحملة. فلا حملة التعريب، ولا حملة"الأنفال"، تسألان عن"الانفصال"الكردي. ولا اغتيالات العلماء الشيعة، ولا قمع الحركة"الشعبانية"، في آذار مارس 1991، اضطلعا بدور في الضغينة الشيعية على"عراق صدام". فإجماع الدول والقوى التي تجمع على حصر المسؤولية على تفكك الجماعات العراقية بالسياسة الأميركية هو، من وجه آخر قريب، إجماع على تزكية الأنظمة الاستبدادية السابقة والقائمة واللاحقة، وعلى تأييد نهجها في بناء"الوحدة"الوطنية، ودوام هذا النهج. والقرار الجزئي والمشكل الأميركي ذريعة إجماعات كاذبة، وإدانات عاجزة. والرد عليه رداً ناجعاً أرضه ومسرحه سياسة عراقية لا تنتهك إرادات العراقيين ولا تتوسل بهم الى قوة تسحقهم. * كاتب لبناني