شعرت بعد يوم في جامعة جورجتاون الأسبوع الماضي، وكأنني أشارك في اجتماع لطلاب صف قديم عادوا الى جامعتهم بعد التخرج وطول غياب ليروا بعضهم بعضاً، ويقارنوا بين ما فعلوا لأنفسهم، أو ما فعلت بهم الأيام. كنت في واشنطن لأمرين، المشاركة في الاجتماع السنوي لمجلس مستشاري مركز الدراسات العربية المعاصرة في الجامعة، وحضور اطلاق كرسي كلوفيس وهالة سلام مقصود للدراسات العربية. المجلس يرأسه السفير روسكو سودارت، ومستشاره الأكاديمي هو الديبلوماسي روبرت بيللترو، وكلاهما نموذج للديبلوماسية الأميركية لم يبق منه كثيرون في وزارة الخارجية، جارة جامعة جورجتاون على نهر بوتوماك. وسرني أن أجد من الأعضاء بعض المحاربين الدائمين، حتى لا أقول القدامى، مثل الأمير تركي الفيصل، وسعاد الجفالي، وعبدالكريم الارياني، وابراهيم دبدوب، وأبو الهدى الفاروقي. وأسفت لغياب غير كردار، رئيس بنك انفستكورب، الذي كانت مساهمته أساسية في قيام المركز كله، وعبداللطيف الحمد، رئيس الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهو من أفضل العقول العربية، لا"العقول الاقتصادية"فقط، وقد خبرت قدراته عندما كنا معاً أعضاء في مجلس مستشاري البنك الدولي للشرق الأوسط وشمال افريقيا. استمعت في مجلس مستشاري المركز الى عرض للعمل على مدى السنة الماضية قدمه الدكتور مايكل هدسون، مدير المركز للسنة 2007 - 2008 وسرني أن أجد معنا الدكتورة بربارة ستواسر، مديرة المركز للسنة 2006 - 2007 وأستاذة الدراسات العربية والاسلامية. كنت أستمع ثم يسرح بي الفكر أحياناً الى أيامي في الجامعة، وأتذكر الصديقين هشام شرابي وحنا بطاطو اللذين رحلا عنا بعد أن علماني في الجامعة الأميركية في بيروت وفي جورجتاون. وعادة ما ينتابني شعور بأننا أمام جيل منقرض من الكبار، ثم أجد ما يطمئنني الى المستقبل. المركز يلقى دعماً طيباً من دول عربية وأفراد، وهناك دعم آخر من وزارة التعليم الأميركية، ومن شركات كبرى، إلا أن الطموحات تظل أكبر من أي دعم، ومشاريع المركز في حاجة الى مزيد. لن أقول هنا سوى أن المركز هو الوحيد"العربي"في الجامعات الأميركية كلها، وأنه جزء من كلية الخدمة الخارجية في الجامعة التي اختيرت هذه السنة أفضل كلية من نوعها في أميركا، وأن كثيرين من خريجي المركز يذهبون للعمل في وزارة الخارجية الأميركية المجاورة، لذلك اعتبر غلاة المحافظين الجدد من أنصار اسرائيل جامعة جورجتاون"أرضاً"محتلة. الحكومة السعودية تبرعت للمركز وكذلك فعل مواطنون سعوديون. وهناك دعم مهم من عمان وقطر والشارقة وغيرها، وكان هناك تبرع كبير من مجهول اختار كتم اسمه. أما اختنا سعاد الجفالي وأسرتها فغطى تبرعها زمالات لثلاثة طلاب حدثوا أعضاء المجلس، وكانوا فلسطينية من رام الله أمها مصرية، ولبنانية من جنوبلبنان، ومصري أبواه طبيبان يعملان في السعودية. وتحدث طلاب آخرون وطالبات بددوا كثيراً من قلقي على المستقبل. وتبع ذلك غداء جمع أعضاء مجلس المستشارين والأساتذة والطلاب. عدت بعد الظهر لأشهد اطلاق كرسي كلوفيس وهالة سلام مقصود للدراسات العربية. وامتلأت مدرجات قاعة كبرى بالحاضرين الذين استمعوا الى أركان الجامعة، والدكتورة فداء عديلي القادمة من جامعة كولومبيا لتكون أول من يشغل الكرسي، والى كلوفيس طبعاً. كان كلام الدكتور مقصود مختصراً وقصيراً على غير عادته، وأطالت الدكتورة عديلي كما هو مطلوب منها كنجمة الحفلة. وكنت أجلس الى جانب الدكتور مروان المعشر، فملت نحوه وسألت: هل تعتقد بأن فداء تقرأ خطاب كلوفيس؟ أخونا كلوفيس لم يقصّر في كلمته ترحيباً بالضيوف على عشاء في المكتبة التاريخية للجامعة. كان ظريفاً كعاته، استرجع ذكريات مع زملاء وأصدقاء، بينهم الدكتور هشام شرابي. وتذكرت وهو يتكلم قول الشاعر عمر أبو ريشة عندما كان سفير سورية في الهند وكلوفيس سفير الجامعة العربية هناك، فقد حذر أعضاء مجلس السفراء العرب قائلاً: لا تسألوا كلوفيس لأنه يشرح. أزيد من عندي ذكرى أشار اليها كلوفيس وهو يتحدث في حفلة عيد ميلاده التي أقامها له الأصدقاء في بيروت السنة الماضية، وهي تعود الى خروج أبو عمار من طرابلس، وتوقفه في مصر قبل أن يكمل الى تونس. كان مجلس القمة العربية قرر مقاطعة مصر بعد اتفاقات كامب ديفيد، وسأل مراسل"الشرق الأوسط"التي كنت رئيس تحريرها السفير كلوفيس مقصود هل خالف أبو عمار قرارات القمة بالتوقف في مصر؟ ورد كلوفيس: هو لم يخالف قرارات القمة، إلا أنه لم يلتزم بها. يومها كتبت مقالاً عن"الكلفة"، فالفلسفة تعريف المجهول، والكلفة تجهيل المعروف. لو ألفت كتاباً من الذكريات لكان لكلوفيس مقصود فصل فيه: فهو من أظرف الناس وأذكاهم، وجوابه"تحت باطه"، كما نقول في لبنان، فهو حاضر دائماً، ولم تفعل الستون سوى أن تشحذ قريحته. راجعت بعض الذكريات عن كلوفيس مع الدكتور مروان المعشر، وهو بعد وزارة الخارجية في الأردن نائب كبير لرئيس البنك الدولي، ولا بد من انه ارتاح لرحيل بول وولفوفيتز، وكانت معنا الدكتورة ريما خلف الهنيدي التي لا تزال تسعى لتمكين المرأة العربية، مع انها لا بد تدرك أن الرجل العربي غير متمكن... الا من زوجته. الشبان والشابات العرب في جامعة جورجتاون أعطونا الأمل بمستقبل أفضل.