دخل سركون بولص اخيراً في ذلك المستطيل الدامس من العدم، الذي نسميه الموت، والذي كان يقول عنه انه الحقيقة الصلدة الوحيدة في الوجود. قبل أيام كان يتحدث على التليفون الى فاطمة بصوت واهن، وبدا لها، بسبب تقطع الجمل، بين غيبوبة ووعي. رضخ اخيراً لحكم الاجساد الهشة، اقفاص الفناء المحكمة، دون اعتراض، وغاب في مشفى برليني. هي ذي بيروت تحتفي به، حياً أو ميتاً. وهي ذي بغداد تنساه، حياً او ميتاً. هي ذي مسافة بين المدنية والبربرية. ينتمي سركون بولص الى ما اصطلح عليه في الرطانة الشائعة بجيل الستينات، جيل التمرد واللايقين، جيل قصيدة النثر ومجلة شعر، والثورة الطلابية، عصر الهيبيز والبيتلز، والثورة الجنسية. شاعت موضة الاجيال في العراق شيوعاً مزرياً، فراحت كل زمرة تضع على صدرها شارة جيل السبعينات فالثمانينات، فالتسعينات، حسب تواريخ الميلاد، ظانة ان الروزنامة دالة ما اكثر القرون الخلو من أي مائز على الابداع ناسية ان المدرسة الادبية أو الفكرية الجديدة هي التي تعطي للروزنامة معناها. وهذا قدر"جماعة كركوك"الستينية: سركون بولص، فاضل العزاوي، انور الغساني، مؤيد الراوي، جليل القيسي، صلاح فايق، وآخرين. لعلّي أضيف اليهم الآشوري الاخير: جان دمو. لم يكتسب جيل"الستينات"أحقيته إلا بصناعة تيار ادبي جديد. الكل قرض الشعر، عدا القيسي الذي اتجه الى المسرح. الكل ارتحل، عدا القيسي. جان دمو وضع ديوانا واحداً أسماه: أسمال؟ وكان في حياته، وملبسه، ومأواه، ومأكله، يشبه أسمال ديوانه حتى مات في استراليا مهاجراً، مفقراً ابداً، فقد اسنانه كلها قبل بلوغ الخمسين. وبقي قطعة مصفاة من براءة طفولية لازمته حتى الكهولة ومن صراحة عفوية، جارحة، تبغض الرياء، والتصنع، وضروب"الداندية". وكان سركون يقول عنه:"قرأ روايات دستويفسكي كثيرا حتى صار جان يشبه شخصيات هذه الروايات". مؤيد الراوي قرض الشعر هو الآخر. وضع ديوانا واحداً بعنوان: احتمالات الوضوح. ولما وجدها غامضة كفّ عن القريض، وراح يمارس الشعر في الحياة اليومية، في عيشه التفصيلي، في مكاتب صحيفة معارضة ببغداد، أو مكاتب صحف محاربة ببيروت، لينتهي اخيراً في برلين، محتفظاً بتلك السخرية الشفيفة، وبقايا تلك النزعة الدونجوانية من شبابه. صار"الختيار"مختار برلين وكان سركون يقول عنه: برلين مدينة اسمنتية بحاجة الى شيء من شعر دافىء". لعل سركون بولص وفاضل العزاوي هما الوحيدان اللذان جمعا الشعر بالقصة، بالرواية، بالترجمة. وكان انتاج الثقافة عندهما معنى الوجود ذاته. وكانا يحققان هذه الصبوة بأساليب متعارضة تماماً. فالعزاوي معتكف دوما في مكتبه، منكب دوما على اوراقه، بالكاد يرى النور. سركون بولص، بالمقابل، جوّال، جوّاب، بلا مستقر، ولا قعود، هائم دوماً، هائم ابداً. ترعرع سركون بولص في مدينة النفط كركوك، لعائلة آشورية، مسيحية بالتعريف، عائلة مفقرة تماماً، في المدينة القائمة على بحر النفط. نما سركون في مدينة اختلاط الاثنيات والثقافات: التركمان، الآشوريون، الكرد، العرب، والانكليز نعم، الانكليز، اصحاب وموظفي شركة النفط متقناً فن التعايش، مدركا نوائب الاختلاف، وحالماً بفرص التعرف على اللغة والادب. شركة النفط العراق في كركوك أسدت اليه، بذلك، صنيعاً دون قصد، فهي اكبر مؤسسة تعنى بالترجمة لسدّ حاجاتها، وبالأدب، فأصدرت مجلة"العاملون في النفط"بإشراف جبرا ابراهيم جبرا. نشرت الشركة النفطية في المدينة، عفو الخاطر، ذلك التوق لتعلم الانكليزية الذي تلقفه سركون، وجل جماعة كركوك، مدخلاً الى رحاب عالم كوزموبوليتي بلا حدود. بعد انقلاب 1963 تقاطر اعضاء مجموعة كركوك على بغداد الواحد بعد الآخر، وكانت هذه"الهجرة"الى بغداد نوعا من فتح او انسحاب. فالانتقال من مدينة الى مدينة، بالنسبة الى العراقي الهياب المتردد، مأثرة. ومن محاسن الحظ ان بغداد الجماعات العصبوية المغلقة كانت، وقتذاك، تتآكل وبغداد الكوزموبوليتية تعلن عن حضورها. إنخرط سركون، شأن أقرانه، في اكثر الجماعات كوزموبوليتية، المثقفين، حيث اللامبالاة شبه التامة بالإثنية او الدين او المذهب كدّالة على الهوية. ومن ألطاف المصادفات ايضاً، ان المناخ السياسي في عهد الاخوين عارف، بدأ يفقد قسوة اليمين القومي بعض الشيء، ويفكر في خلع البزة العسكرية عن جسد الدولة، فلاحت بشائر ليبرالية مدنية، إتضح انها مؤجلة، بل مقبلة على الهلاك. في كرنفال"الحرية"الشحيح ذاك أسس سركون بولص، هو وفاضل العزاوي، لقصيدة النثر بفرعها العراقي بقي الفرع اللبناني امتياز يوسف الخال بلا منازع. كان سركون، النحيل، الحليق دوماً، يتأبط اوراقه: دواوين وروايات بالانكليزية، مما كانت تجود به مكتبة المركز الثقافي البريطاني، ليوطد مسار ثقافته المنفتحة، وليتحول بعد عقدين ونيف الى ايقونة للشعراء الشباب. وبإزاء سخرية مؤيد اللاذعة او الهازلة، ونقد العزاوي، المحتدم او الشكّاء، كان سركون ميالا الى ذلك الصمت المهذب، المشوب بحذر دفين، حاملاً اعتداد وقلق الاشوري"المريب". وكان يسفح قلقه، أحياناً، في النصوص. ثمة مقالة صفحة كاملة في جريدة على ما اظن وضعها عن"زوربا اليوناني" احتفى فيها سركون بعاشق الحياة، زوربا، المبتل برذاذ الارض، بازاء سيده المثقف اليابس، البائس. كان سركون يكتب عن خيار وجود سيلازمه حتى النهاية: عشق الحياة، والابتلال برذاذ الارض. وثمة قصة قصيرة لا اتذكر عنوانها نشرها سركون في مجلة العاملون في النفط، يصف فيها مظاهرة سياسية يرقبها البطل من الرصيف، مواكباً اياها بوجل، متأرجحاً بين الانخراط الحميمي او الانصراف اللامبالي. وسيظل سركون وفيا لبطل الرصيف. لعلنا نجد في هاتين القطعتين من نثره مفتاح شخصية تختزن الرهبة من ارتيابات الهويات الصغيرة التي تنخر جسد المجتمع العراقي اليوم، والرغبة في المشاركة ولكن عن بعد. جاء سركون الى بغداد حاملاً موهبته الشعرية واجادته اللغة الكونية الانكليزية باحثاً عن موئل نشر وزاوية عمل، للخلاص من اللاجدوى، ومن العوز في آن. كان عالمه الاول كوزموبوليتيا، شأن كل مثقف، ابطاله ديستويفسكي، وفرويد، بلزاك وفوكنر، سارتر وكامو، عزرا باوند وكافافيس واليوت، رامبو وبودلير. وكان له شغفه الخاص باللغة: صفاء العربية، ودقة الانكليزية. هو عالم الادب الكوزموبوليتي بضوابط الجمال الصارمة الكونية، المفعمة بتلك الاخوة الانسانية. لكن حكم التوتاليتارية اعاده من هذا التحليق في الفضاء الكوني المتخيل الى اشواك الارض، انقسامات الدين والاثنيات، ووجد، وهو الباني لقصيدة عربية جديدة، والمبتدع لنشر عربي جديد، نفسه بازاء العروبة التوتاليتارية المتسيّدة. حاول وهو المعتاش على الترجمة ان يجد وظيفة مترجم في وكالة الانباء العراقية وهي من اتفه مؤسسات الدولة دون جدوى. همس أحد حراس الحزب الحاكم في اذنه"الآشوريون لا يدخلون المؤسسات الحساسة". ثمة تاريخ دفين من الريبة مسدد الى صدره. بعد أشهر عبر الحدود الى لبنان، ثم غادر مهاجراً الى الولاياتالمتحدة، ملتحقاً بربع مليون عراقي. الاحساس باستلاب الهوية لازمه مثل ندوب جرح غائر. بعد عقدين من نقل الشعر العربي الى الانكليزية، تلقى لطمة اخرى اميركية هذه المرة. بعد حرب الخليج 1991 ادرجت سلطات أعتى بلد في العالم الآشوريين الاميركان شأن كل العراقيين من حملة الجنسية الاميركية على اللائحة السوداء كمشبوهين محتملين في التواطؤ مع "العدو" العراق في حرب النفط تلك. قال لي سركون مستذكرا:"قال الآشوريون المهاجرون لأنفسهم: نحن عراقيون اذاً!". بحثوا عن نحات ليصنع تمثال آشور بانيبال، رمزا لهوية مزدوجة: آشورية ? عراقية. لعل تلك هي رحلته الباطنية، في مسالك الانتماء الوعرة، هو الباحث عن اخوة كونية، ومستقر محلي، هو العراقي القادم من آشور، ابن كركوك، وزائر برلين، المرتحل في دروب الشعر، الحامل لكل هذه الهويات. لكن معنى الهوية في عالم السياسة يربأ بالتعدد. فالمبدأ الاسمى في مملكة القسوة هذه هو ان الهوية واحدة، موحدة، لا تتجزأ، فالألف هو الألف، وليس الباء. الهوية هي ما هي. وقوة التحديد للصفة الواحدة هذه هي قوة نفي الصفات. فألف في التحديد الخالص، ليست باء ولا جيماً، ولا تاءً... وهذا النفي المتسلسل يمضي الى ما لا نهاية. وحين يطبق هذا النفي اللامتناهي على الوجود، يلقيه في مهاوي اللاتعيّن. عاش سركون هذا اللاتعيّن في المكان، في الترحال المتصل، في العودة الى الماضي، وتجاوزه في ابداعه النثري والشعري، هو القاطن في"مدينة أين؟"، والمغتذي على "قوت الأرض".