"احتمالات الوضوح" كان ديوان مؤيد الراوي الأول، صدر في العام 1977 في بيروت، اليوم لا أتذكره تماما، في تلك الأعوام كنا نشتغل ونعيش في بيروت. ذاك الديوان كان بمعنى من المعاني تأسيسي للشاعر وللكتابة الحديثة لقصيدة النثر أيضا، اليوم يبدو وكأنه ُكتب سرا، وبالخفية عن الشاعر ذاته، فلم يطبع الديوان ثانية، وقد كانت هذه فرصة ثمينة لو أعيدت دار الجمل بإصدار الأول وهذا الثاني - ممالك - الذي صدر في نهاية العام المنقضي. يجوز أن الراوي ينتشي بصمته، وفي الغالب، أظن أن عملية النشر بالذات ترهبه بسبب الزهد بالدرجة الأولى، وبرغبة قاتلة في طاعة الشعر الرقراق. وبسبب هذا، فمن يعرف الشاعر شخصيا يدري أنه يشتغل على قصيدته كالصائغ أو النحات فهو يعمل عليها كثيرا، يترجم على الخصوص من الشعر الأمريكي ويدرب ذائقته ومزاجه على خشوع الحذف، المحو، الصقل، التجريب ثم الانفصال عن نصه تماما وبالكامل لكي لا يقع في فخ هواه وهوى نفسه، آه، ما أشد نرجسية شعراء الأرض قاطبة، بعضهم لا يستحق متعة التوحد مع الشعر وبعض، وهم ندرة وعلى مر تاريخ الشعر في العالمين العالمي والعربي، يصيبنا ببلبلة وبروق روحية ونحن نقارب قصائده. الكتابة تعذب مؤيد الراوي فيخاطبها بورع الناسكين، لا يبّسط ، ولا يستسهل. النص، ومنذ التعارف أول مرة في نهاية السبعينات من القرن الماضي، كان كبرياؤه يتصفى في الشعر فغدا صوتا متميزا خفيض النبرْ كثير التروي والتقصي على ما يدون: "ضجرا يحفر في بئره الناضبة باحثا عن الحدث/ والحدث في غيبة يتململ". 2 بعض الكتب تؤسس افتراقا حتى عن مؤلفها وعن ما يجاورها من مؤلفات، لا أقول أسماء فلست في صدد التعداد. أسرني ديوان ممالك، في ثلثيه كانت النصوص تبرق كالذهب من عيار أربعة وعشرين قيراط، فلم يتسامح الشاعر معها وهو يحذف بقسوة وكرم فجاءت كعقد اللؤلؤ، لكنني شعرت أن الثلث الأخير بدا عبئا على الديوان حين ترسبت بعض الشوائب في قعر الشعر. لعل أرقى ما يمثله هذا النوع من النصوص، أن لغته غير متعالمة، لغة معتنى بها وبدون فذلكة، قوية بما توصلنا إليه، وعميقة بما تريد أن تؤسس له فهي ثمرة الانحناء التام على كل فقرة فلم أشعر أن الشاعر يتشاوف أو يصور نفسه كخبير مفرقعات لغوية بائتة. هو الراوي هكذا، أطلقنا عليه في الوسط الثقافي والصحافي حين عملنا سويا في بغداد ب؛ الكسول الرهيب، الشاعر والناثر المنذور للشجارات بسببه ومن اجله وأمام أنظارنا. كان محبوبا ونائيا جدا فيمقت البعض فظاظة صمته الطويل ونومه الأقل: "ماذا تصنع في هذا الوقت من الليل/ تمشي وئيدا/ ضاربا قدمك في النوم/ يدك بأوراق الصحف/ مريضا بالصحو" /. ممالك ديوان يحشر فيه الشاعر أنفه وبطريقة نموذجية في كل ما يعنينا؛ صيد البشر كطرائد وهم يحاولون العبور بين قارات الرفاهية وسموم الفقر. ممالك للأنبياء، للعشاق وهو يتوارون في الهجران الطويل، في سيرة الوجود والخلق، الطبيعة، ممالك من حجر وياقوت وزعفران، من أساطير وأوغاد وغشاشين: "مضخة من الشك/ ومن الوقت/ ومن مضّي العمر/ تخضٌب الذاكرة: أشباح تجول/ مرة أليفة / وأخرى في هيئة قاتل وتوجس بالقتل المرتقب". 3 فرسان نزلوا من مدينة كركوك الحارقة والواقعة بين الطبيعة النارية للمدينة وخفر الشعراء المندفعين إلى الأقصى: سركون بولص ، فاضل العزاوي، مؤيد الراوي، أنور الغساني، جان دمو وجليل القيسي القاص والمسرحي. وصل الجميع ما عدا الأخير بغداد وعلى دفعات وفي بالهم انتهاك منطق المدن الكبيرة التي ترددت طويلا في الإصغاء إليهم وبالتالي احتضانهم. كانوا مخلوقات جريئة واستثنائية فسببت نوعا من الزلل لا سابقة له في المناخ الثقافي بدءا من منتصف السيتنات إلى أن فر من فر بعد السجن والترويع. هذا حديث شاق ووعر، وليس هو أوانه أيضا. في ممالك الراوي ندماء الخطر والمسرات القليلة، أصدقاء الفقد الفادح والسحر الذي لا ينتهي إلا بالشعر أو الموت. كان الرثاء يشي في كل مقطع في هذا الديوان، هو مرثية للعمر ذاته الذي ترجل ولوحده. كتب مؤيد عن سركون وقبل موته، فهو قضى في شقة مؤيد ببرلين قبل أعوام، هذه القصيدة الوحيدة التي تحمل تاريخا شباط 1999: "وفي حروب الليل/ بين غفوة وغفوة/ يغرز مخالبه في قلوب الملائكة / ليشم رائحة الدم في يديه". كتب في رثاء الشاعر الجميل جان دمو بما يليق به: "مثل كاهن مشاكس/ من بابل يتهيأ للطوفان. لكننا عرفناك كما نحن/ آشوريا: أطفأ جهارا جمرة الماضي/ فلم يعد يدفئه الرماد/". عراقيون يتبارون في اجتراج الأقصى من ممالك الله الشاسعة لكي يدفن الأخير في استراليا، بولص في الولاياتالمتحدة، أنور الغساني في كوستاريكا، جليل القيسي مات في تركيا ثم أعيد لكركوك. أطال الله عمر فاضل العزاوي ومؤيد الراوي. 4 الأمكنة في هذا الديوان محتفى بها وبدون أسماء وفيرة، ربما ما عدا كركوك وأسماء بعض الساحات وميادين في ألمانيا ولندن. بهجة الكتابة في هذه الممالك، هي الاندفاع داخل برية الكون الذي يعاد الاتصال به عبر الشعر الصافي. منذ زمن لم تعتريني قشعريرة وأنا ألاحق عزلات الشاعر، المستغني الذي لا يتساهل في الكتابة، عزلة الضجر الذي لا يعرف النوم إلا كعدو يتربص به: "ليس كما في الماضي وقد اعتدت أن أنام طويلا / والموت رقدة / في الظهيرة نتمناه / لتَوضح الخسارة ما بين نوم ونوم". أي ربح ولو كان قلامة أظفر يوجع الشاعر فآثر البقاء في تلك المساحة من التواري والتخلي. من الجائز هذا هو الذي يعادل التحقق الذاتي أيضا. ممالك ب 237 صفحة فيه قصائد تسلب اللب كرؤيا إبراهيم : "أنا لا أحلم بذهاب الغمْ / لكن الجنة تبتعد عني بهذا المنفى وباليأس الطويل". يتوجب الكتابة عن نوع من البهاء الذي تمنحه بعض الكتب، بعض الروايات، بعض الأعمال فتبدو الكتابة عنها عملا عبثيا لا يفي بالغرض أبدأً. تأخرت بالكتابة فكلما أهم وأبدأ كانت الثورات تبزغ في مدينة عربية جديدة ومؤيد الراوي من جيل فتوة الثورات الأولى في العالم فعاش في المنافي، بين سجن في بغداد، والعمل في صحافة يسارية فلسطينية في بيروت، وبعدها انتقل لبرلين الشرقية مع أفراد عائلته، لم أكتب ما أشتهي، وما أريد كتابته عن مجموعة كركوك بالذات فهي ظاهرة، وكلهم ربطتني بهم أواصر صداقة ما زالت مقيمة وخالصة: "وأنت مفلس تملك زمام المدينة / تعاف أن تطلب شيئا/ لأنك ممتلئ/ وتتحصن/ بحجاب يسقط بينك وبين العالم". "لكنني مثل الآخرين أرتدي قناعا/ يلبسه الموعودون بجنة منجزة / يرحلون فيها وقد أبيض شعرهم من الانتظار".