راغوصة أو راغوزة في اللاتينية كما اشتهرت في المصادر العربية العثمانية، أو دوبروفنيك في السلافية كما اشتهرت في القرن العشرين بعد ان أصبحت ضمن يوغسلافيا، كانت من المدن/الدول الصغيرة في مساحتها والكبيرة في انتشارها في حوص المتوسط بفضل تجارتها واسطولها. وكان العرب المسلمون بعد فتح صقلية اقتحموا البحر الأدرياتيكي وحاولوا فتحها بعد أن حاصروها لمدة خمسة عشر شهراً خلال 866-867م ولم تسلم آنذاك الا بوصول الأسطول البيزنطي. وحصلت راغوصة بعدها على اعتراف بيزنطة بحكم ذاتي وتحولت خلال 1358-1808م الى مدينة / جمهورية تجارية مزدهرة بفضل اسطولها الكبير في حوض المتوسط. وخلال قرون الازدهار كانت سفن راغوصة تجوب المتوسط شرقاً وغرباً وتصل حتى أنفرس ناقلة البضائع من طرف الى آخر. وفي ذروة هذا الازدهار والمجد للجمهورية وصل عدد السفن العائدة لها في المتوسط الى نحو 200 سفينة كبيرة، بينما وصل عدد القنصليات الى ست وثلاثين منها سبع في الطرف الجنوبي للمتوسط حلب وعكا ودمياط والاسكندرية وطرابلس الغرب والجزائر ووهران. وترافق قيام هذه الجمهورية مع اندفاع الأتراك العثمانيين نحو البلقان، حيث وصل الدور الى راغوصة بعد وصول العثمانيين الى البوسنة المجاورة في 1440م. وبعد سنتين من الضغوط وافقت راغوصة في 1442م على دفع خراج سنوي للسلطان العثماني مقابل تمتع تجارها بحرية الحركة في الموانئ والأراضي العثمانية، ما أعطى امتيازاً مهماً لراغوصة في الوقت الذي كانت فيه الدولة العثمانية تخوض الحروب مع الدول المجاورة المجر والبندقية الخ.... ومع معاهدة 1442م دخلت راغوصة في علاقة خاصة مع الدولة العثمانية استمرت حوالي 350 سنة وحفلت بالمراسلات الدائمة سواء مع السلاطين او مع الولاة العثمانيين، ما أدى الى تجمع آلاف الوثائق العثمانية في مركز الادارة. وجمعت هذه الوثائق في وقت مبكر في ما سمي ب"المكتب التركي"في بلاط الحكم. ونظراً لأهمية العلاقات مع الدولة العثمانية فقد كان هذا المكتب يضم مترجمين متخصصين يعرفون عدة لغات ومنها العثمانية. ويبدو أن مع الزمن تكاثرت هذه الوثائق وأصبحت الحاجة ماسة لتصنيفها للوصول بسرعة الى أية واحدة منها، وهو ما طالب به مجلس الشيوخ مرات عدة. وفي 1724م جرت أول محاولة لتصنيف الوثائق السلطانية بحسب مواضيعها، بينما طلب مجلس الشيوخ في 1749م بتصنيف كل الوثائق العثمانية. وطلب في 1780م من المترجمين ايفان مرغيتش وميهو بوجوفيتش بأن يقوما بتصنيف كل الوثائق العثمانية في نسختين. وقام المترجمان المذكوران حتى 1785م بتصنيف الوثائق السلطانية أولاً باعتبارها من أهم الوثائق العثمانية في ثلاثة مجلدات. والى جانب ذلك أخذ المترجمان في تصنيف الوثائق الواردة في البونسة المجاورة، ولكن هذا العمل لم يكتمل. ففي 1808م احتل نابوليون بونابرت راغوصة وقضى على هذا الكيان. وقام الفرنسيون بوضع تصنيف للسجلات الموجودة عن الوثائق، ومنها الوثائق العثمانية. ولكن مع الاحتلال النمسوي للمنطقة، حيث أصبحت راغوصة جزءاً من الامبراطورية، تم في 1833م نقل حوالى نصف الوثائق السلطانية الى أرشيف الدولة في فيينا. أما النصف الآخر الذي بقي في راغوصة فقد تم تصنيفه في 1933م على يد فهمي افنديتش بعدما أصبحت راغوصة دوبروفنيك، أي بعدما دخلت في إطار يوغوسلافيا الجديدة 1918-1991م. وخلال العهد اليوغوسلافي كان هناك اهتمام كبير ب"أرشيف الدولة في دوبروفينيك"، حيث أصبح هذا الأرشيف يستقطب الباحثين من كل صوب. وفي هذا الاطار نشر الباحث البوسنوي المعروف بسيم كركوت الوثائق العربية التي وجدها، والتي تتحدث عن علاقات راغوصة/دوبروفنيك مع العرب المسلمين في جنوب المتوسط خلال الحكم المملوكي ثم خلال الحكم العثماني. ونشرت هذه الوثائق في سراييفو خلال 1960م، وكان من المأمول أن تصدر في القاهرة عن المجلس الأعلى للثقافة خلال 2007م. ومع استقلال كرواتيا، التي كانت تضم دوبروفنيك، أصبح لدينا الآن اهتمام متجدد بالوثائق العثمانية التي يقدر عددها ب 15 ألف وثيقة، منها حوالى ألفين سلطانية أو صادرة عن السلاطين أنفسهم. واهتمت بهذا الأمر الباحثة الكرواتية فسنا ميوفيتش التي أصدرت أخيراً 2005م مجلداً ضخماً وفخماً بعنوان"جمهورية دوبروفنيك في وثائق السلاطين العثمانيين". ويقسم هذا المجلد الى قسمين، حيث لدينا في القسم الأول 1-136 دراسة واسعة تعرف بهذه الوثائق وتستخرج منها أهم المعطيات حول الجوانب المختلفة للعلاقات بين هذه الجمهورية والدولة العثمانية، بينما يتضمن القسم الثاني 137-409 فهرساً مفصلاً لكل الوثائق السلطانية 1990 وثيقة يتدرج تاريخها من 1458م الى 1805م. وخصصت الباحثة الفصل الأول للتعريف بالوثائق السلطانية وأنواعها الامتياز، الفرمان، البراءة، الخط الهمايوني. وعلى رأس هذه تأتي الامتيازات، التي كان يحدد فيها السلطان الخراج الذي تدفعه راغوصة، والذي كان يختلف من عهد الى عهد ومن سلطان الى آخر، والحرية التجارية التي كانت تؤمن لتجار راغوصة في العالم العثماني. ومن هذه الامتيازات بقيت حتى الآن ثلاثة أصلية منها صادرة عن السلاطين: مراد الثالث 1574-1595م ومحمد الثالث 1595-1603م ومحمد الرابع 1648-1687م. وبعد هذا تخصص الباحثة الفصلين الثاني والثالث لاستخراج أهم المعطيات من الوثائق العثمانية، حيث تخصص الفصل الثاني لما يتعلق بمصلحة العثمانيين الخراج السنوي، التجسس على الآخرين لصالح العثمانيين، تبادل الأسرى بين الدولة العثمانية وأعدائها، نقل الركاب والبضائع العثمانية على السفن الراغوصية الخ، بينما تخصص الفصل الثالث لما يتعلق بمصلحة راغوصة حماية السيادة، تأمين التجارة الراغوصة مع العالم الخ.... وهكذا، نظراً الى مكانة راغوصة بين الشرق والغرب وعلاقاتها الواسعة سواء مع الدول الإسلامية أو الدول المسيحية، فقد كان السلاطين العثمانيون يطلبون منها بشكل صريح أن تجمع لهم معلومات عن الدول المعادية كما في الفرمان السلطاني المؤرخ في 1587م، الذي يطالب راغوصة بتجميع معلومات عن الأسطول الإسباني. وهناك في الأرشيف، كما تؤكد الباحثة ميوفيتش، خمسة عشر فرماناً سلطانياً تؤكد استجابة حكام راغوصة لطلبات السلاطين العثمانيين في هذا المجال التجسس لحساب الدولة العثمانية. ومن هذه لدينا عدة فرمانات من السلطان بيازيد الثاني تعود الى سنوات 1492-1512م يؤكد فيها على وصول الأخبار المطلوبة من راغوصة ويطالب بالمزيد منها. أما المجموعة الثانية فتعود الى فترة الحرب بين الدولة العثمانية ودول التحالف المقدس خلال 1598-1540م، بينما تعود المجموعة الثالثة الى الحرب على قبرص بين الدولة العثمانية والبندقية 1570-1573م. ومن الواضح هنا أن راغوصة كانت بين نارين، ولكن الوثائق العثمانية تثبت اخلاص راغوصة للدولة العثمانية كما تقول ميوفيتش. والى جانب ذلك فقد كان موقع راغوصة بين الشرق والغرب، وبالتحديد بين الدول المتمارسة، يساعد على أن تكون مكاناً مناسباً لتبادل الأسرى بين الدولة العثمانية وأعدائها البندقية واسبانيا الخ كما توضح ذلك الوثائق العثمانية. وبدأ هذا الدور بعد حرب قبرص بين الدولة العثمانية والبندقية، حيث جرى في راغوصة أول تبادل للأسرى بين الطرفين 33 أسيراً مسلماً و 39 أسيراً مسيحياً. من ناحية أخرى فقد كانت الدولة العثمانية تعتمد من حين الى آخر على سفن راغوصة، التي كان لها اسطول كبير في المتوسط، سواء لنقل الركاب والبضائع العثمانية حتى تسلم من القراصنة المسيحيين. وفي بعض الحالات كان السلاطين يطلبون من راغوصة بعض السفن من اسطولها لاستخدامها في الحالات العسكرية الطارئة. ففي 1772م كلف والي الباسان /ألبانيا بالذهاب مع قواته الى بلاد الشام لقتال قوات علي بك الثائر على الدولة، وطلب من راغوصة ان تعطيه ما يحتاج إليه من سفن. وتم نزع الرموز الدالة على ملكية راغوصة للسفن، ولكن القوات العثمانية الموجودة على هذه السفن اشتبكت مع الأسطول الروسي قرب الساحل الشامي الذي كان يساعد قوات علي بك ما أدى الى إحراق سبع سفن راغوصية. وبشكل عام يمكن القول أن مع هذا الكشف عن الوثائق السلطانية، التي لا تشكل سوى جزء بسيط من الوثائق العثمانية المحفوظة في أرشيف راغوصة، نجحت الباحثة الكرواتية فسنا ميوتيتش في توضيح الكثير من جوانب العلاقات التي كانت تربط راغوصة/دوبروفنيك مع الشرق والغرب بحكم موقعها ومصالحها التي عرفت كيف تحافظ عليها في خضم الصراع بين الشرق والغرب. * أستاذ التاريخ الحديث في جامعة آل البيت / الاردن