تضم مكتبات أوروبا وجامعاتها ملايين المخطوطات العربية والإسلامية في جميع التخصصات والمعارف. وهي كنوز علمية لا تقدر بثمن، والعجيب أن العرب والمسلمين لم يطلعوا على أكثرها ولا توجد أي نسخ منها في الرقعة العربية! وثائق جمهورية راغوصة (كما اشتهرت في اللاتينية) أو دوبروفنيك (كما اشتهرت وعرفت في السلافية) أعدها الباحث محمد الأرناؤوط في كتاب «الوثائق العربية في دار المحفوظات في مدينة دوبروفنيك» ، أصدره ونشره الباحث البوسنوي بسيم قرقوت (1904 – 1975). صدر الكتاب للمرة الأولى بالعربية عن المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة عام 2008 في 305 صفحات، من القطع الصغير، وهو يضم خمساً وأربعين وثيقة، عن علاقات هذه الجمهورية مع مصر والجزائر وتونس والمغرب وطرابلس الغرب. ظهرت راغوصة – دوبروفنيك في منتصف القرن الرابع عشر (1358م) كجمهورية تجارية أو كنموذج للدولة – المدنية، التي عرفت كيف تستفيد من موقعها المناسب للتجارة الإقليمية، وكيف تحمي نفسها من دون جيش وسط الصراعات الإقليمية الحادة بين الأطراف المختلفة (المجر والنمسا والبندقية ونابولي وبيزنطة والدولة العثمانية) سواء على حوض الأدرياتيكي أو على حوض المتوسط. وفي الحقيقة أن أهمية راغوصة – دوبروفنيك برزت كوسيط تجاري ناجح بين إقليمين، كان يحتاج كل منهما إلى الآخر، أي شبه جزيرة البلقان وحوض المتوسط. كانت راغوصة – دوبروفنيك تنقل من أعماق البلقان المعادن (الذهب والفضة والرصاص والنحاس) والفراء والعسل والعبيد، إلى موانئ طرابلس الشام وعكا ويافا ودمياط والإسكندريةوطرابلس الغرب وتونس والجزائر ووهران ومليلة وتطوان، كما كانت تنقل من هذه الموانئ الملح والقهوة والحبوب والأقمشة إلى داخل البلقان. وكان لراغوصة عدد من القنصليات في الدول الأخرى، تحمي جالياتها ومصالحها المختلفة. ففي مطلع القرن السادس عشر كان لها 22 قنصلية في شبه الجزيرة الإيطالية، وواحدة في الإسكندرية، وسبع في حلب وعكا ودمياط والإسكندريةوطرابلس الغرب والجزائر ووهران. كما كان لها «أسطول دائم يتألف من حوالى 200 سفينة كبيرة، وحوالى خمسة آلاف بحار يعملون عليها، ويلاحظ أن بعض هذه السفن كان يستخدم لنقل الحجاج المسلمين من الإسكندرية إلى موانئ شمال أفريقيا». ويستعرض الأرناؤوط مشوار حياة ناشر هذه الوثائق الباحث بسيم قرقوت، فيقول: «وكانت هذه الوثائق قد نشرها في ثلاثة أجزاء المرحوم بسيم قرقوت، الباحث البوسنوي في الدراسات العربية الإسلامية في معهد الاستشراق في سراييفو خلال 1961 – 1969، وكان قرقوت ولد في سراييفو في أواخر 1904 حين كانت البوسنة (المدارة من قبل النمسا / المجر بتفويض من مؤتمر برلين 1878) لا تزال اسمياً تابعة للدولة العثمانية، وبعد إكماله للدراسة الثانوية، التحق بالمدرسة القضائية الشرعية في سراييفو، التي تخرج فيها 1925 ثم ذهب إلى القاهرة لمتابعة دراسته في الأزهر الشريف. وبعد تخرجه في الأزهر 1931 عاد إلى سراييفو، ليبدأ عمله مدرساً للغة العربية، في المدرسة القضائية الشرعية، وانتقل بعد إغلاقها في 1937 إلى المدرسة العليا الشرعية، التي تأسست آنذاك في سراييفو، وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية عمل فترة من الزمن في وزارة التعليم الفيديرالية، ولجنة التعليم العالي (1945 – 1950) وانتقل إلى معهد الاستشراق بعد تأسيسه في سراييفو في ربيع عام 1950 حيث بقي فيه حتى تقاعده 1967 وفي غضون ذلك كان يحاضر في قسم الاستشراق بجامعة سراييفو، التي تأسست عام 1950. واستطاع قرقوت مع آخرين أن يؤسسوا معالم مدرسة جديدة للاستشراق في سراييفو مختلفة عن مدرسة بلغراد على صعيد يوغسلافيا السابقة، وفي عام 1935 نشر كتابه الأول (مدخل إلى تاريخ الإسلام) وأتبعه بكتاب آخر (قواعد اللغة العربية) عام 1952. وكان متمكناً من العربية فنشر مختارات من «ألف ليلة وليلة» مترجمة عن العربية، وكذلك ترجم «كليلة ودمنة» عام 1953 في بلغراد وسراييفو». ويؤكد الأرناؤوط أن «عمله في معهد الاستشراق الذي أصبح يحوي أغنى مكتبة بالمحفوظات الشرقية والوثائق المختلفة (العثمانية والعربية) التي لها علاقة بأطراف يوغسلافيا السابقة، جعله يتوجه إلى البحث العلمي في المصادر، ويتوج عمله هذا في إصدار (الوثائق العربية في دار المحفوظات بمدينة دوبروفنيك) وعلى رغم القيمة الكبيرة لهذا الإصدار العلمي الذي وجه أساساً للقراء اليوغسلاف، فإن شهرة قرقوت في يوغسلافيا توجت بأهم مساهمة له ألا وهو إنجازه قبل وفاته عام 1975 لأول ترجمة لمعاني القرآن الكريم من العربية، والتي نشرت لاحقاً عام 1977. وخلال القرن الماضي بدأ الاهتمام بوثائق راغوصة – دوبروفنيك على صعيد دوائر الاستشراق الأوروبي، فقط كانت هذه الوثائق قد نقلت إلى فيننا عام 1833 بعد أن أصبحت دوبروفنيك جزءاً من الإمبراطورية النمساوية، نتيجة لترتيبات مؤتمر فيينا، التي أنهت الاحتلال الفرنسي لراغوصة – دوبروفنيك منذ عام 1806 وجعل خضوع البوسنة للإمبراطورية النمسوية – المجرية خلال 1878 – 1908 وضمها إلى الإمبراطورية خلال 1908 – 1918، طليعة الجيل الجديد من المستشرقين البوسنويين (صفوت باش أغيتش، وفهيم بايراكتا روافيتش وغيرهما) يتخرجون في مدرسة الاستشراق النمسوي – الألماني في أوروبا الوسطى. المستشرق الألماني فرانز بابينغر كان أول من درس هذه الوثائق العربية ونشر واحدة منها عام 1927 وتبعه الباحث الصربي غليشا إلزوفيتش (1879 – 1960) الذي نشر ثلاث وثائق تتعلق بالعلاقات بين راغوصة – دوبروفنيك ومصر في مطلع القرن السادس عشر. ومن حسن الحظ أن إلزوفيتش اختار للنشر هذه الوثائق بالذات، التي تعد الأقدم بين كل هذه الوثائق والأهم لمصر، لأنها فقدت في ما بعد، بسبب حرب البوسنة (1992 – 1995). ثم اهتم بهذه الوثائق المستشرق فهيم بايراكتا روفيتش (1889 – 1970) الذي كان يسمى عميد الاستشراق في يوغسلافيا، فنشر عنها دراسة خلال عام 1957 في المجلة الاستشراقية المعروفة (Der Islam) وفي ذلك الوقت كان قرقوت مهتماً بنشر هذه الوثائق أيضاً. ويقول الأرناؤوط إن الجزء الأول من هذه الوثائق أصدره قرقوت عام 1961 وضمنه 27 وثيقة تتعلق بعلاقات راغوصة – دوبروفنيك بالمغرب ثم نشر في العام ذاته الجزء الثاني الذي ضمنه 16 وثيقة تتعلق براغوصة – دوبروفنيك وطرابلس الغرب والجزائر ومصر. وقد تنبه قرقوت لأهمية الوثائق المفقودة التي نشرها إلزوفيتش، فأعاد نشرها، ما رفع عدد الوثائق المنشورة في هذه الأجزاء الثلاثة إلى 45 وثيقة، ومع نشر الجزء الثالث تكون قد اكتملت قيمة هذه الوثائق التي لها قيمة خاصة بالنسبة إلى علاقات راغوصة – دوبروفنيك بمصر، حيث إن ثلاثاً منها تعود إلى مطلع القرن السادس عشر وتتعلق واحدة منها بموافقة السلطان قانصوه الغوري (سلطان مصر والشام) على افتتاح قنصلية لراغوصة – دوبروفنيك في الإسكندرية في أواخر عام 1515م.