راغوصة في اللاتينية ودوبروفنيك في السلافية تعتبر نموذجاً كلاسيكياً للمدن - الدول أو الجمهوريات التجارية مثلها مثل البندقية المجاورة لها والمنافسة الرئيسة لها طوال قرون عدة. وكان العرب المسلمون بعد أن فتحوا صقلية واقتربوا من البحر الأدرياتيكي أدركوا أهميتها وحاولوا فتحها بعد أن حاصروها لمدة خمسة عشر شهراً خلال 866 - 867م، ولم تسلم آنذاك إلا بوصول الأسطول البيزنطي. وحصلت بعد ذلك على اعتراف بيزنطية بحكم ذاتي وتحول هذا إلى شبه استقلال خلال 1358 - 1808، حيث كانت تعترف بالسيادة الاسمية لدولة كبرى مجاورة المجر ثم النمسا إلى أن احتلتها قوات نابليون بونابرت في 1806م وألغت الجمهورية نهائياً في 1808م. وخلال قرون الازدهار والمجد ق 14 - 19 كانت سفن أسطول راغوصة - دوبروفنيك تجوب المتوسط شرقاً وغرباً وتصل حتى انفرس ناقلة البضائع المختلفة من طرف إلى طرف ومحققة الأرباح الكبيرة التي كفلت الازدهار للجمهورية. وفي ذروة هذا الازدهار وصل عدد القنصليات التي كانت لراغوصة - دوبروفنيك إلى نحو الخمسين منها ست وثلاثون على طرفي شبه الجزيرة الإيطالية وسبع في الطرف الجنوبي للمتوسط حلب وعكا ودمياط والإسكندرية وطرابلس والجزائر ووهران. أما عدد السفن العائدة لها في المتوسط فقد كان نحو 200 سفينة كبيرة بينما وصل عدد البحارة العاملين عليها إلى نحو أربعة آلاف بحار. وبسبب هشاشة وحساسية الوضع الذي كان يميز هذه الجمهورية قوة تجارية كبيرة من دون قوة عسكرية موازية فقد نمّت علاقاتها الديبلوماسية مع الدول المجاورة ودول حوض المتوسط، وأقامت العلاقات وعقدت الاتفاقات لكي تضمن مصالحها وتدفق تجارتها. ولأجل كل هذا تجمع في مركز الوثائق في راغوصة - دوبروفنيك عدد كبير من الوثائق في مختلف اللغات التي كانت تعبر عن الحقبة الذهبية لتلك الجمهورية. فمن بين آلاف الوثائق العثمانية في هذا المركز كان لدينا 45 وثيقة في اللغة العربية، التي كانت تعكس علاقات راغوصة - دوبروفنيك مع الطرف الجنوبي للمتوسط، وبالتحديد مع دولة المماليك والولايات العثمانية وسلطنة المغرب. وكان أول من تنبّه إلى أهمية هذه الوثائق بعد أن أصبحت في عداد يوغوسلافيا المستشرق الألماني فرانز بابينغر، الذي نشر واحدة منها مع ترجمتها الألمانية رسالة سلطان المغرب مولاي محمد بن عبدالله الى ديوان دوبروفنيك في 1927. وتابعه في ذلك المستشرق الصربي غليشا إلزوفيتش 1879 - 1960 الذي نشر منها ثلاث وثائق تتعلق بالعلاقات بين راغوصة - دوبروفنيك ومصر في مطلع القرن السادس عشر ونشرها في بلغراد 1940. ومن حسن الحظ أن هذه الوثائق بالذات، التي تعتبر من أقدم الوثائق، نجحت في نشرها آنذاك لأنها فقدت لاحقاً ولا تزال مفقودة حتى الآن. وفي غضون ذلك أُسس في بلغراد قسم الاستشراق في 1926 ثم معهد الاستشراق في سراييفو في 1950، مما دفع الاهتمام بهذه الوثائق إلى الأمام. واهتم بها الدكتور فهيم بايروكتاروفيتش 1889 - 1970، الذي كان يسمى"عميد الاستشراق"في يوغوسلافيا، حيث نشر عن قسم منها دراسة نشرت خلال 1957 في مجلة Der Islam الاستشراقية المعروفة. وفي ذلك الوقت أيضاً كان المستشرق البوسنوي المعروف بسيم كركوت 1904 - 1975، أحد أبرز العاملين في معهد الاستشراق في سراييفو، يعمل في تلك الوثائق العربية دراسة وترجمة لإعدادها للنشر. وهكذا فقد أصدر في 1961 جزءين يتضمنان إحدى وأربعين وثيقة مع ترجمتها، ثم أصدر في 1969 الجزء الثالث الذي يتضمن أربع وثائق مع ترجمتها، ليصل مجموع ما نشره إلى خمس وأربعين وثيقة عربية من محفوظات مركز الوثائق في راغوصة - دوبروفنيك. وفي الواقع ان الوثائق الأربع المنشورة في الجزء الثالث لم يتبق منها في الحفظ والصون سوى الرابعة تصديق للمحكمة الشرعية في الاسكندرية يعود الى 1194 ه/1780م. أما الثلاث الأول التي تعود إلى سنوات 1510 - 1515 كتاب نائب الإسكندرية أمير الأمراء خدا بردي إلى حاكم راغوصة في 1515، وكتاب السلطان قانصوه الغوري إلى حاكم دوبروفنيك في 1515، ومرسوم السلطان قانصوه الغوري في 1515 فكانت موجودة حتى 1833 حين أخذت إلى فيينا بعد أن أصبحت راغوصة - دوبروفنيك تابعة لإمبراطورية النمسا وبقيت هناك حتى 1924 حيث حملت إلى بلغراد عاصمة الدولة الجديدة يوغوسلافيا التي ضمت راغوصة - دوبروفنيك، وحفظت في أرشيف الأكاديمية الصربية للعلوم والفنون. وخلال الحرب العالمية الثانية أخذت سلطات الاحتلال الألماني هذه الوثائق مع غيرها، ولكن حين أعيدت هذه الوثائق إلى يوغوسلافيا ثانية بعد الحرب لم يكن بينها تلك الوثائق الثلاث المهمة. ومن حسن الحظ أن الباحث الصربي المعني بالمصادر العثمانية غليشا إلزوفيتش صوّر تلك الوثائق حين كانت في الأكاديمية الصربية ونشرها مع غيرها في كتابه"الآثار التركية"الصادر في بلغراد سنة 1940. وتمثل هذه الوثائق العربية مصدراً مهماً للتعرف على واقع العلاقات التجارية بين جنوب المتوسط وأوروبا، وبالتحديد بين الدولة المملوكية وسلطنة المغرب وطرابلس والجزائر مع جمهورية راغوصة - دوبروفنيك. وتشكل الوثائق المتعلقة بالمغرب نحو النصف 27 وثيقة تعود إلى سنوات 1779 - 1798، بينما لدينا 4 وثائق تتعلق بالجزائر خلال سنوات 1721 - 1800، و7 وثائق تتعلق بطرابلس خلال سنوات 1779 - 1798، و7 وثائق تتعلق بمصر منها واحدة تعود إلى 8/11/1515 وتتعلق بموافقة السلطان قانصوه الغوري على فتح قنصلية لراغوصة - دوبروفنيك في الإسكندرية. وعلى رغم أهمية هذه الوثائق التي نشرت في سراييفو عن معهد الاستشراق إلا أن نسخها أصبحت نادرة كالمخطوطات نفسها. فقد صدر الجزء الأول والثاني في 1961 والثالث في 1969 ولم توزع هذه الاجزاء إلا على نطاق ضيق، ثم جاءت مشكلات وحروب يوغوسلافيا ومن ذلك تدمير مبنى معهد الاستشراق في 17/5/1992 بقصف صربي متعمد حوله الى أنقاض لتساهم بدورها في شحة وندرة النسخ الباقية حتى أصبحت نادرة كالمخطوطات. وتصادف أن جاء الدكتور عماد الدين أبو غازي مساعد المدير العام للمجلس الأعلى للثقافة في مصر إلى عمان ليلقي محاضرة في"مؤسسة شومان"عن" الوثائق في الحضارة العربية"حيث ذكر في السياق وثائق راغوصة - دوبروفنيك، التي بحث عنها أحد طلبة الماجيستير ثلاث سنوات ولم يجدها. وفي مداخلة لي عرف الدكتور عماد الدين بوجودها لدي في عمّان وأبدى استعداد المجلس الأعلى للثقافة لنشرها بترتيب جديد ومقدمة جديدة عن صلات راغوصة - دوبروفنيك مع العرب المسلمين في جنوب المتوسط. ولعبت المصادفة دورها في ان يأتي اصدار الطبعة الجديدة من هذه الوثائق المهمة في القاهرة من قبل المجلس الأعلى للثقافة، الذي له جهود مشكورة في تبني الإصدارات الثقافية المميزة، متزامناً مع الذكرى الثلاثين لوفاة بسيم كركوت الذى كان درس في القاهرة خلال 1925 - 1931 وبقي متعلقاً بها. أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في جامعة آل البيت/ الاردن.