بين أبرز ما قدمه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد أثناء قمة الدول المطلة على بحر قزوين في طهران هذا الاسبوع هو انتشاله من التطويق لإعادة تأهيله صديقاً استراتيجياً وإرسال صورة لهما معاً في بطاقة تحية وتحذير الى الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش في واشنطن. انما هذا الاخراج للعلاقة الروسية - الايرانية لا يعكس أبداً تلك الكراهية اللدودة نحو الولاياتالمتحدة التي تميّز عاطفة التحالف بين محمود أحمدي نجاد وهوغو شافيز، رئيس فنزويلا الغاضب على كل ما هو أميركي. فشافيز ليس بوتين لأن بوتين رجل دولة حتى وان كان ديكتاتوري النزعة. وبالتالي فهو ليس اعتباطياً ولا عشوائياً بل إنه يحسب كثيراً حسابات العلاقة الروسية - الأميركية ويزنها بدقة حتى عندما يصعّد من طهران. الاعتباطيون من السياسيين الذين يقرنون الغضب بالكراهية العارمة خطيرون على بلادهم وعلى الآخرين. عمدة نيويورك السابق الذي يحلم بترشيح الحزب الجمهوري له لمنصب الرئيس، رودي جولياني، بات ينتمي الى زمرة الكراهية الاعتباطية والكراهية المدروسة على السواء. فهو يتباهى بطرده الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات عام 1995 من قاعة"لنكولن سنتر"أثناء حفل ديبلوماسي للاستماع الى سمفونية لبيتهوفن ويقول إن ذلك كان ضرباً من ضروب"القيادة". وهو يقطر سماً ضد الفلسطينيين والعرب عامة ويحيط نفسه بمتطرفين من المحافظين الجدد وبرجال شيمتهم الكراهية. فكما هوغو شافيز، ان رودي جولياني ليس بفلاديمير بوتين. صحيح أن وجه بوتين، كما قال السناتور جون مكاين الذي يسعى أيضاً وراء الترشيح الجمهوري للرئاسة، له معالم"كي جي بي"في اشارة الى تاريخه على رأس الجهاز الاستخباراتي في العهد السوفياتي. لكن بوتين ليس اعتباطياً ولا عشوائياً أو مهووساً كما الرئيس الايراني. انه رجل له حنين الى الحرب الباردة لأنها وضعت روسيا الأمس في خانة العظمة فكانت هناك دولتان عظميان فقط في حينه. روسيا اليوم تحاول أن تستعيد هيبة الأمس وبوتين يقوم بإحياء بعض التحالفات الماضية وبعض العداءات السابقة. خطأه الكبير أنه يقوم بإحياء السوفياتية فيما مقوماته اليوم تجعله ليس في حاجة الى ذلك وانما تجعله قادراً على قيادة نوعية جديدة تضعه وروسيا على الخريطة. فأدوات وضع روسيا في الاعراب دولياً عديدة، وعلى بوتين ان يفكر بها، مثل إحياء حرب باردة بتحالفات مؤذية جداً للعالم الجديد ولروسيا ايضاً. بالطبع في وسع بوتين ان يصبح زعيم الغاضبين في العالم وراية حزب الكراهية الدولي للولايات المتحدة. قد يقال إن ذلك سيأتي على روسيا بشهرة كبيرة وعلى رئيسها بشعبية عالمية. انما السؤال الذي على بوتين أن يسأل نفسه هو ان كان يعتقد حقاً ان ذلك يليق به وبطموحاته لبلاده؟ هل يفيد روسيا ان تتزعم موجة الغضب والكراهية؟ وماذا سيفعل عندما يرتد الغضب عليه إزاء سياساته نحو الشيشان والأقلية الاسلامية في روسيا؟ ماذا ستحصد له تحالفاته إذا خلفت وراءها انهيار فرص الديموقراطية في مناطق مثل الشرق الأوسط ورافق ذلك الغضب العارم من شراكة روسية - ايرانية في هيمنة اقليمية. في هذه الفترة تبدو روسيا في صدد تهذيب مصالحها ببراغماتية باردة وعلى رأس هذه المصالح شراكة روسية - ايرانية على الصعيد النفطي بصورة تضمن لروسيا مكانة الدولة العظمى لا سيما وأن علاقتها الاستراتيجية مع الصين نفطية الأساس، وأن لا مانع عندها من انضمام فنزويلا الى الحلف النفطي عبر عشق شافيز للنظام في ايران بسبب كراهيته للولايات المتحدة. يريد فلاديمير بوتين في هذه الحقبة من التاريخ ان يستفيد من ضعف القطب الأوحد في عالم اليوم، أي الولاياتالمتحدة التي تستفرد بمنصب الدولة العظمى. ولذلك قد يرتأي ان إنقاذها من ورطة العراق ليس في مصلحته وأن الشراكة معها في انذار ايران لإيقافها عن طموحاتها النووية تضعه في مقعد المرافق وليس المقعد القيادي. فما يريده الروس في عهد فلاديمير بوتين هو الاحترام والاحترام الفائق. يريدون مكاناً مرموقاً ومميزاً في المراتب الدولية وليس مجرد مرتبة عادية ذات مكانة. يريد روس بوتين ان تؤخذ روسيا ببالغ الجدية والا تفترض مواقفها لتؤخذ بأنها مضمونة. بوتين يريد متعة قيامه هو بالمفاجأة ولا يريد أن يفاجأ على أيدي آخرين. ومن ضمن أهم ما يريده بوتين هو أن تتعامل الولاياتالمتحدة وأوروبا مع ملفاته المهمة لروسيا بما يلائم موسكو والا، انه جاهز لاستخدام الأدوات المتاحة لديه للانتقام إذا لم يفلح في استخدامها للمقايضة. ولأن مجلس الأمن الدولي يتناول مسائل مهمة لروسيا، مثل كوسوفو أو جورجيا، بطريقة لا تعجب بوتين، فإن الرئيس الروسي وطاقمه الديبلوماسي متأهبان لإبراز قدرات موسكو على استخدام صوتها أو امتناعها أو الفيتو الذي لها الحق فيه لمنع المجلس من تبني قرارات للتعطيل أو للرد الملائم على مواقف الدول نحو القضايا المهمة لروسيا. وهذا من حقها. انما واقع الأمر أن روسيا - شأنها شأن أي من الدول الخمس دائمة العضوية - مقيدة بقرارات التحقت بها وأصبحت جزءاً منها وهي غير طليقة للتحرر بسهولة من الالتزامات المترتبة عليها بموجب تلك القرارات. فهذه دولة جدية ومجلس الأمن ليس منبراً للتنفيس هنا أو"فشة خلق"هناك. وكل دولة، لا سيما الدائمة العضوية في المجلس، مسؤولة عن الأمن والسلم الدوليين بما يجعلها غير قادرة على المناورة بهامش مفتوح الأفق. الولاياتالمتحدة دفعت ثمناً باهظاً لاستعلائها على مجلس الأمن الدولي والاستهتار به عندما عارض غزوها العراق. وبريطانيا قررت الانزواء نسبياً بعدما كلفتها غالياً شراكتها مع الولاياتالمتحدة في التمهيد لحرب العراق وفي شنها. فبعدما انزلقت الدولتان في مأزق احتلال العراق، لم يسرع مجلس الأمن لمد يد المعونة وانتشالهما من المأزق. وحتى الآن، ما زالت ورطة العراق أميركية على رغم كل الجهود التي يبذلها السفير الأميركي الحالي، زلماي خليل زاد، لتحويل العراق الى ورطة دولية أو ورشة انقاذ دولية. أثناء الحرب الباردة كانت هناك فترة حروب"الفيتو"في مجلس الأمن. انما في الآونة الأخيرة عملت الدول الخمس الولاياتالمتحدةوروسياوالصين وبريطانيا وفرنسا على قاعدة بذل الجهد المكثف لحشد الإجماع. مؤشرات اليوم تفيد بأن روسيا قد لا تكون في مزاج الإجماع وانما قد تلجأ الى نقيضه. لهجة السفير الروسي فيتالي تشيركين ازدادت حدة نحو مختلف الملفات ورافقتها نكهة الايحاء بأن هناك ترابطاً ما بين المواقف من المسائل المطروحة أمام المجلس، أقله لناحية المقايضات في التفاهات. يخطئ جداً من يفسّر ذلك على أنه تأشيرة لايران أو لسورية لضرب قرارات المجلس بعرض الحائط بحماية روسية تردعهما من العقاب. الرئيس السوري بشار الاسد راهن على فيتو روسي يمنع مجلس الأمن من انشاء المحكمة ذات الطابع الدولي لمحاكمة الضالعين في الاغتيالات السياسية في لبنان والتي تعارض سورية انشاءها. فكان رهانه فاشلاً وخاسراً لأنه أساء قراءة روسيا كما أساء فهم مجلس الأمن وديناميكيته. فروسيا ليست دولة عابرة ولا هي دولة غير مسؤولة. انها تفهم قواعد الالتزامات وهوامش المناورات لذلك انها تفاوض بحدة وتقاوم بشدة، لكنها اما أن تلتحق بالإجماع أو تكتفي بالامتناع عن التصويت عندما تُزّج في الزاوية. والسبب ليس عائداً الى خوف أو تقاعس أو ملل وانما هو نتنيجة نوعية الملفات المطروحة. فروسيا غير قادرة، وغير مستعدة في الواقع، ان تتخذ مواقف ضد محاكمة ضالعين في اغتيالات سياسية في لبنان صنفها مجلس الأمن ارهابية، بموافقة روسيا. وموسكو غير مستعدة للموافقة على امتلاك ايران السلاح النووي مهما دافع فلاديمير بوتين عن حق ايران بامتلاك القدرات النووية لغايات سلمية كما فعل هذا الاسبوع. بوتين يشتري الوقت لكل من ايران وسورية، وهذا في حد ذاته خدمة كبيرة لهما ومساهمة مؤذية للجهود الدولية الرامية الى ردعهما. لكن بوتين لن يتمكن من أن يكون درعاً يحمي سورية من المحاسبة ومسؤولين فيها من المحاكمة إذا ما أثبت التحقيق الدولي تورط مسؤولين سوريين في اغتيال رئيس حكومة لبنان السابق رفيق الحريري وفي اغتيالات سياسية أخرى يثبت التحقيق ترابطها مع إرهاب اغتيال الحريري. لن يتمكن بوتين من حماية ايران من العقوبات أو من الضربة العسكرية إذا استمر رفض طهران الامتثال لمطلب تعليق تخصيب اليورانيوم والتنفيذ التام لجميع مطالب الوكالة الدولية للطاقة الذرية بلا مماطلة. على رغم ذلك، فإن مجرد تقديم روسيا الى كل من ايران وسورية هدية"الزمن المفتوح"لمساعدتهما على شراء الوقت، يساهم، في نهاية المطاف، في توريطهما. فروسيا لن تحارب الولاياتالمتحدة اذا اتخذت واشنطن قرار توجيه ضربات عسكرية تقضي على البنية التحتية للنظام في ايران. وروسيا لن تقصف المحكمة الدولية في هولندا للحؤول دون تحولها الى محاكمة للنظام في دمشق. الأفضل لموسكو ألا تكرر نصائحها أو المواقف التي تبنتها أثناء العد العكسي الى حرب العراق، فهي بذلك اساءت النصيحة سهواً وتركت صدام حسين عمداً يتحمل وحده مسؤوليات سوء القراءة وسوء الحساب لأنها لم تمتلك خياراً آخر. التاريخ سيكرر نفسه في سورية وايران ما لم تقرر القيادة في موسكو أن تلعب دوراً بناء حقاً من أجل ايران ومن أجل سورية بتقديمها النصيحة الصالحة للنظامين في دمشقوطهران بدلاً من الإيحاء الخاطئ لهما بأنها معهما حتى النهاية. ثم ان على روسيا ديناً أخلاقياً نحو الشعب الفلسطيني لأن هذا الشعب راهن لعقود على الاتحاد السوفياتي ثم على روسيا اعتقاداً منه أنها أكثر عدالة نحوه من الولاياتالمتحدة. اليوم. المطلوب من فلاديمير بوتين ان يفكر ملياً بهذا الشعب تحت الاحتلال عندما يجلس الى طاولة التكتيك والاستراتيجية. عليه مسؤولية ألا يضحي بالفلسطينيين لمجرد أنه يرى أن احتياجاته وتحالفاته في الحرب الباردة المصغرة تتطلب منه التحالف مع دمشق والفصائل الفلسطينية المعارضة للسلطة الفلسطينية. أمامه خيار آخر. أمامه خيار استغلال الفرصة المتاحة في استعداد الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش للدفع نحو انشاء الدولة الفلسطينية ليجعل الرئيس الروسي منها فرصة لممارسة روسيا دورها الطبيعي في رعاية سلام فلسطيني - اسرائيلي وفي أبوة انشاء الدولة الفلسطينية. هكذا يخدم فلاديمير بوتين الفلسطينيين ويخدم روسيا، وليس عبر الاستماع الى الذين يريدون تعطيل السلام الفلسطيني - الاسرائيلي باسم"الشمولية"في المسارات. لسورية كل الحق بالتفاوض مع اسرائيل لاستعادة الجولان المحتل أينما شاءت وحين تشاء. هذا حقها ولا يحق للفلسطينيين أن يطالبوا سورية بألا تتفاوض على استعادة الجولان إلا بعد قيام الدولة الفلسطينية أو بعد الانتهاء من المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية. يمكن لسورية شأنها شأن أي دولة عربية أخرى مدعوة الى"مؤتمر الخريف"الذي يرمي الى إنشاء الدولة الفلسطينية أن تحضر المؤتمر لتقدم الدعم الكامل للجانب الفلسطيني ليتحصن في مفاوضاته مع اسرائيل. هكذا تكون تتصرف كدولة عربية مسؤولة وصادقة حقاً في اعتبار فلسطين لب النزاع العربي - الاسرائيلي. هكذا تساهم في اخراج الفلسطينيين من فك الاحتلال الاسرائيلي. وهكذا تثبت توقفها عن استخدام فلسطين والمعاناة الفلسطينية أداة تخريب ومساومة على حساب الفلسطينيين وعلى حساب لبنان. روسيا مطالبة بالضغط على سورية للكف عن هذا الاستغلال والاستخدام، وإلا فإن فلاديمير بوتين يبعث رسالة من قاع الماضي السوفياتي بأن كل شيء مباح من أجل التمركز في الحرب الباردة المصغرة الجديدة بين روسياوالولاياتالمتحدة في بقع مثل الشرق الأوسط وعلى حساب فلسطينولبنان. روسيا مطالبة بالضغط على اسرائيل لتثبت أنها حقاً مهتمة بخلاص الفلسطينيين من الاحتلال وبإقامة دولة فلسطين بجانب اسرائيل بسلام. وإذا أراد فلاديمير بوتين أن يلعب دوراً ايجابياً في لبنان، فليكلف وزير خارجيته سيرغي لافروف مهمات إزالة الاحتلال عن مزارع شبعا وإزالة الغموض السوري نحو السيادة على هذه المزارع وإزالة مبررات تظاهر"حزب الله"بأن المقاومة المسلحة ضرورية من أجل تحرير مزارع شبعا من الاحتلال الاسرائيلي. فكل المسألة لها نكهة الخدعة فلا سورية قدمت الى الأممالمتحدة الوثائق حول هوية هذه المزارع بما يثبت قولها انها لبنانية، وبالتالي، توجد أمام موسكو فرصة للقول لدمشق: حان وقت الصدق بوثائق وليس فقط بادعاءات. ولا اسرائيل أوصت باستعدادها لوضع هذه المزارع موقتاً في عهدة الأممالمتحدة الى حين الانتهاء من حسم هويتها، لبنانية كانت أو سورية. وعليه، أمام موسكو مناسبة للقول لاسرائيل: منطقياً، حان وقت سحب ذريعة المقاومة من"حزب الله". وعملياً، نحن في حاجة لمثل هذا الانسحاب من مزارع شبعا لأننا نريد أن نلعب دوراً بناء في لبنان يتمثل في دعم بناء الدولة ومؤسساتها وفي تجريد الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية من السلاح. لماذا من المفيد لروسيا ان تلعب هذا الدور؟ لأن الولاياتالمتحدة عاجزة عن لعبه ولأن انقاذ لبنان من الفوضى العارمة هو في مصلحة الاستقرار في المنطقة. ولأن الاستقرار في المنطقة هو في المصلحة الاقتصادية لروسيا. بالطبع، قد يكون في ذهن القيادة الروسية فكر ميكيافيلي بحيث ترى ان تحويل لبنان الى قاعدة ايرانية - سورية يفيد موسكو لا سيما أن اسرائيل شبه قاعدة اميركية في نهاية المطاف. فكل شيء وارد في زمن إحياء معادلة التنافس على العظمة. انما لا يوجد في الأفق ما يفيد بعداء روسي - اسرائيلي لدرجة التحالف الروسي - الايراني - السوري ضد اسرائيل. فهناك علاقة حية وحيوية بين روسيا واسرائيل ومعظمها ليس علنياً. لذلك، قد يخطئ من يقرأ العلاقة الروسية - السورية بأنها استراتيجية ضد اسرائيل. انها علاقة تكتيك في استراتيجية مختلفة. خطورة المواقف الروسية هي في التكتيك أكثر مما هي في الاستراتيجية. فبوتين أوعى من رمي العلاقة الروسية - الاميركية في البحر ارضاء لايران أو لسورية. فهو يدرك ان اعلان الدول المطلة على بحر قزوين بأنها لن توفر المساعدات العسكرية لضربة اميركية لايران ليس سوى موقف سياسي، إذ قد لا تحتاج الولاياتالمتحدة الى هذه الدول على أي حال لضربات كالتي في ذهنها. تكتيك بوتين حتى الآن سوفياتي اللهجة لكن قدراته تمكنه من انطلاقة جديدة في العلاقات الدولية ودور روسيا العالمي إذا اختار التجددية في القيادة الروسية بدلاً من الحنين الى سوفياتية الماضي القديم. فليته يفعل وقبل فوات الاوان لا سيما في فلسطينولبنان.