يشهد القرن الواحد والعشرون"ثورة مضادة"في الشؤون العسكرية. فالإرهاب، وملاحظة إفضاء نصر عسكري حاسم في غضون ايام قليلة الى لا شيء، أظهرا حدود تفوق تقني كان التقدير ان يحصل على نتائج قصوى لقاء ثمن قليل من الضحايا البشرية والأضرار الجانبية. والرد المتوقع في هذه الحال هو ان يعمد الخصم الضعيف في ميزان التقنية الى حرب غير متكافئة. وترفض الحرب هذه قواعد النزاع: فهي تسعى في تأزيم المنازعات، وتتعمد ضرب ما تبذل القوة المسيطرة والغالبة قصاراها في سبيل حمايته وهو سكانها وممتلكاتها. وتتقصد استراتيجية الضعفاء استدراج القوي الى انتهاك مبادئه الحقيقية أو المفترضة، ومناقضة نواياه، من طريق استعمال أهلهم دروعاً بشرية، والاستدراج الى قمع من غير تمييز. وتؤاتي هذه الاستراتيجية"العقلانية"في ميزان معادلة القوى معتقدات وقيم لا تميز المقاتلين من المدنيين، أو السكان من العدو المقاتل، وتبتهج بتعظيم عدد الضحايا في صفوف المجتمعات"العدوة"، وبعدد قتلى الإرهابيين انفسهم ومن يريدون حمايتهم. والحال هذه، فالديموقراطيات الليبرالية لها الخيار بين أمرين: إما الأخذ بطرائق اعدائها بذريعة الفاعلية، ومنافسة الأعداء في التفريط الفظ بحياة البشر وازدرائها، أو القتال وهي مقيدة اليدين. والعامل الطارئ والراجح هو الشعوب. فهي في الظرف الجديد، ضحية المنازعات ومدارها، والحكم فيها. وعلى هذا، يذهب الجنرال السير ريبرت سميث في كتاب مرجعي،"فائدة القوة: فن الحرب في العالم الحديث"، الى أن المنازعات والمواجهات التي حلت محل"الحروب الصناعية بين الدول"، ويسميها"الحروب في وسط الشعوب"، لا تخاض في سبيل تدمير العدو، واحتلال أرضه والاستيلاء على موارده على قدر ما تخاض في سبيل التأثير في إرادة الشعوب نفسها وكسب ولائها. وهو يقصد بالشعب شعب البلد الذي يحصل القتال على أرضه، أولاً، والرأي العام في محاضرة البلد الذي يجهز الحملة العسكرية، أو في الدائرة الإقليمية، أو في العالم. وليست ثورة الاتصالات أدنى مكانة ولا أقل أثراً من ثورة الشؤون العسكرية. فأعمال التعذيب في ابو غريب، أو ضحايا"القاعدة"من المدنيين، تذاع اخبارها وأخبارهم في أرجاء العالم حال وقوعها. والواقعة الاجتماعية ? السياسية هذه لا تستقيم معها الحسابات الديبلوماسية ? العسكرية على طريقة كيسنجر التي تفترض عامل الوقت ونضوجه البطيء. فإذا لم يكن وقع القصف او الاجتياح، في أوقاتهما الأولى، هو الوجه الراجح الذي تحتسبه العمليات العسكرية والديبلوماسية، بل تطور البلد على الأمد البعيد ونتائج التطور الدولية، رجحت كفة مترتبات استراتيجية حرب الضعيف على القوي، وإعمالها أصداء"الحرب في وسط الشعوب"وأخبارها. وتظهر التجربة ان انسحاباً مبكراً يؤدي الى كارثة محققة ولو غداة مرحلة أولى مظفرة. ولكن أليس تدخل الديموقراطيات، إذا كان لا يرمي الى إنشاء امبراطورية ثابتة، محكوماً بالفشل؟: ويبدو ان الديموقراطيات لا تصنع إلا القليل في وقت قصير، ما يقلص فاعلية صنيعها، ولكنها ترتكب الكبائر وقتاً طويلاً، ما يحمل الشعوب التي تريد تحريرها أو تزعم حمايتها على إنكار هذا الصنيع، على نحو ما يحمل رأي بلدانها العام على إنكاره. وعليه، فمشكلة استعمال القوة هي ضعف مشروعيته، وأبعاد العمل العسكري المتفرقة، مثل"التعقب والتدمير"، وپ"كسب العقول والقلوب"، تقضي الضرورة بجمعها معاً، وتعصى الجمع عملياً. فأمسى فن استعمال القوة سياسياً فوق ما هو عسكري. وهو يقضي بتصريف عوامل مختلفة، وتضمر التناقض، على مقادير تناسب الظروف المتفرقة وينبغي، في كل مرة، تقديرها واحتساب الردود غير المتوقعة عليها. ولعل الأسلحة النووية هي الميدان الأثير للمتناقضات الخطيرة هذه. وربما جاز ايجاز المشكلة في أربع مسائل: 1- يتعاظم خطر الانتشار النووي لأسباب تقنية وسياسية وثقافية. فالأسلحة النووية أيسر متناولاً، وصنعها أقرب الى الذهن واليد. ولا يستهان باحتمال وقوعها بين ايدي متطرفين ومتعصبين يسعون في الانتحار، ولا يقيمون اعتباراً للردع. 2- ما في المستطاع هو إبطاء الانتشار، في أحسن الأحوال، وتقليل احتمالاته المدمرة. 3- خسر النظام النووي القائم، على النحو الذي أقرته معاهدة منع الانتشار، مشروعيته وصدقيته في عين العالم غير الغربي. 4- العمليات العسكرية الوقائية على متسلحين محتملين بالسلاح النووي تترتب عليها أخطار بالغة، وهي قد تؤدي الى كوارث، تصيب أولاً القائمين بها، تفوق حظوظها حظوظ الحؤول دون الانتشار. والمسألتان الأولى والثانية لا ينكرهما عملياً أحد، على خلاف المسألتين التاليتين. ولا ينكر إمكان بلوغ احوال تنذر بخطر محدق واستثنائي، وتقضي بضربة وقائية ولا مناص منها. ولكن التغيرات التي طرأت على توازن القوى الدولية، وعلى طبيعة القوة نفسها، تدعو الى انتهاج استراتيجية أطول صبراً، وأكثر حلماً، وأقل إجمالاً وعمومية، وفوق هذا كله، غير مباشرة. والعامل الغالب على هذه الاستراتيجية هو سعيها في حل المنازعات السياسية الإقليمية، أو في تقليل حدتها. وقد ينجم عنها التوافق على إجراءات ثقة، وتتبعها مناطق منزوعة السلاح النووي، فتفضي في نهاية المطاف، الى نظام نووي جديد ركنه المبادلة المتكافئة وإجراءات تعم الأطراف من غير تمييز، ولا تفترض ترتيب من يملكون ومن لا يملكون على مرتبتين متفاوتتين. وفي الأثناء، ينبغي توفير حماية أوسع للدول الصديقة التي تتهددها القوى النووية المحدثة او الطارئة، وانتهاج سياسة تزيد حظوظ القوى المعتدلة داخل الدول الطارئة هذه، على شاكلة إيران. والكفاح في سبيل الديموقراطية والحرية في عالم يتعاوره التفاوت الاقتصادي والتنوع الثقافي وينهشه الإحباط والضغائن والخوف والشكوك، يستدعي استراتيجية معقدة وغير مباشرة. فلا يُهرب من المواجهة جراء الضعف أو الوهم، ولكن يُحذر منها اذا بدا انها تفضي لا محالة الى كارثة. وليس اكثر عقماً من القول على الملأ، إذا أردنا حمل بلد اجنبي على تغيير نهجه، أننا نريد قلب نظامه الحاكم، على نحو صنيع المحافظين الجدد الأميركيين، وأننا في طريقنا الى حرب عالمية ايديولوجية رابعة تقلب الأنظمة ديموقراطيات. ولا ريب في ان الغاية هي مساندة الحركات الديموقراطية المقموعة، واستجابة تطلعات الشعوب الى الحرية والازدهار. ولا شك كذلك في حاجة هذه الشعوب الى الديموقراطية والسوق. ولكن الشعوب قد تميل الى التقاليد والأمة، وتوالي هذه وتلك، على قدر ميلها الى الحرية واحتياجها إليها. والديموقراطية لا تنفصل صورتها عن الحداثة ونتائجها الاجتماعية والثقافية. وترتاب مجتمعات كثيرة الى الحداثة وثمراتها التي تنسب إليها الإفساد، وتحملها على مؤامرة عليها، وعلى تقاليدها ودينها. والقومية مصدر آخر من مصادر مقاومة الاحتلال والنفوذ الأجنبي. ومحاولة"بناء الأمم"لا تبرأ من تهمة الاستعمار الجديد. وقد تلبس المقاومة التقليدية السلفية والقومية لبوس اصولية شاملة تسعى في دمار عالم فاسد، وتريد استبداله بعهد المؤمنين الصادقين. فيقود التحديث الى بعث الثقافات التقليدية. وتنفخ هذه في الحرب الأهلية، وتخلف ربما الإبادة. فإذا بادرت الدول الغربية الى التدخل، وحماية الشعوب المهددة، لم تتردد روسيا والصين في كبح الجهود الغربية، ولا في مساندة الحكومات المتسلطة لقاء منافع وامتيازات اقتصادية واستراتيجية، على ما يرى ويشاهد من اوزبكستان الى زمبابوي، ومن صربيا الى السودان. وعلى خلاف عقد التفاؤل، في تسعينات القرن المنصرم، على الدول الغربية القيام بمفاوضات شاقة، وتنازلات كريهة، ثمناً لرضا خصوم لا غنى عنهم في اتخاذ قرارات حاسمة، خصوصاً في مجلس الأمن، فتضطر الى شراء مساندة بوتين بوجه السياسة النووية الإيرانية بالامتناع في قضايا اوكرانيا وجورجيا وكوسوفو، الى الامتناع في قضية حقوق الإنسان في روسيا نفسها. والمساومات هذه جزء من رهان على مستقبل غير منظور. وليس في مستطاع الغربيين التعويل إلا على المبادلة، والتلاقح والتداخل، طريقاً الى عزل خصوم التسامح وتشجيع التضامن بين الأمم. عن بيار هاسنير،"لوموند"الفرنسية، 3/10/2007