ما الفارق بين الحاضر الاميركي، والماضي؟ عندما وقعت كارثة بيرل هاربر على الاميركيين في العام 1941، توجه الرئيس روزفلت الى الكونغرس لينتزع منه اعلان الحرب على اليابان، بعد أن سمّى يوم الاعتداء بيوم "العار" Infamy. جنّد روزفلت البلاد للحرب التقليدية، حدد العدو ووسيلة قهره رافعاً سقف مطالبه الى الحد الأقصى "الاستسلام غير المشروط"، لاغياً بذلك البُعد الديبلوماسي السياسي الذي يترافق عادة مع الشق العسكري ليسيطر عليه ويستغله. كانت نتيجة الحرب رأس القادة اليابانيين بعد استعمال أقصى درجات العنف والتدمير مع استعمال اسلحة الدمار الشامل للمرة الأولى في تاريخ الانسان. سُرَّ الأميركيون لأن الثمن المدفوع أتى بنتيجة نهائية ملموسة، وسيطرة تامة على مقدرات العالم وصعود الولايات المتحدة من مصاف القوى الكبرى Great power الى مصاف القوى العظمى Super power. نتج عن الحرب العالمية الثانية نظام عالمي ثنائي قام على الاتحاد السوفياتي من جهة، وعلى الولايات المتحدة من جهة أخرى. ما المقصود بالنظام العالمي؟ في مجال السياسة، يُقصد بالنظام Regime مجموعة المبادئ والقوانين التي ترعى العلاقة بين فريقين متنازعين. انه الوسيلة البديلة لعدم حصول صراع معيّن الى حرب. انه المُنظّم، والمرجع لأية حادثة تقع. فبدلاً من اعلان الحرب فوراً والبدء بإطلاق الصواريخ النووية، لا بد من المرور بمراحل متعددة تخفف حدة العداء. ينتج عن هذا النظام مؤسسات ذات طابع دولي تشكل مرجع احتكام للافرقاء. فكانت مثلاً عصبة الأمم، نتيجة هول الحرب الأولى. والأممالمتحدة نتيجة الحرب الثانية. كما تنتج عن هذا النظام مجموعة اتفاقات ومعاهدات في الكثير من الأبعاد، هدفها أيضاً السيطرة على أي توتر قد ينشأ، والعمل على نزع الفتيل العسكري وايجاد البدائل السياسية والتسويات. فعلى سبيل المثال، تبدو كل المعاهدات الدولية التي انبثقت عن الأممالمتحدة وكأنها تصبّ في المجال الذي تحدثنا عنه. كذلك الأمر كل الاتفاقات والمعاهدات الثنائية بين الجبارين تسهم في تثبيت النظام ومنعه من الاهتزاز كل اتفاقات سالت، وال"آي بي أم" مثلاً. ويبدو مفهوم ميزان القوى عاملاً أساسياً في ضبط الأفرقاء الموجودين ضمن هذا لانظام. يعتقد الصينيون ان النظام العالمي ينبثق عن التركيبة العالمية Structure. ويعتقد الصينيون أيضاً ان التحوّل من تركيبة عالمية الى أخرى لا يحصل إلا بعد وقوع حرب كبرى. فخلال ال200 سنة الماضية، كانت هناك أربعة أنواع من التركيبات العالمية، أي بمعدل تركيبة واحدة كل 50 سنة. نتجت عن هذه التركيبات أربعة أنظمة هي: الأول، نظام فيينا الذي أتى عقب هزيمة نابوليون. الثاني، وهو الذي نتج عن المتغيرات الداخلية في كل من، ايطاليا، المانيا، اليابان، ودخول الولايات المتحدة الى الساحة الدولية الأمر الذي خلخل التركيبة السابقة، وعدّل موازين القوى. الثالث، هو الذي انبثق عن معاهدة فرساي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. أما النظام الرابع، فهو الذي انبثق عن مؤتمر يالطا، وقام على مبدأ توزيع مناطق النفوذ على القوى المنتصرة في الحرب. في مطلع التسعينات أعلن انهيار الاتحاد السوفياتي كقوة عظمى. تغيّرت التركيبة العالمية لم تستقر بعد، وبدأ المحللون يحاولون رسم صورة النظام الدولي الذي سيتأتى عن هذا التغيير. ويذكر، وبعكس ما اعتقد الصينيون، أتى انهيار التركيبة العالمية من دون وقوع حرب كبرى كما كان يحصل في السابق. ويقول البعض ان السلاح النووي والخوف من التدمير الشامل والمتبادل، شكّلا الرادع الأهم لمنع حرب عالمية ثالثة. كانت حرب الخليج المناسبة الأولى للرئيس بوش الأب لاعلان قيام نظام عالمي جديد، لكنه لم يُعلن على أي أساس سوف يقوم هذا النظام. ولم يُحدّد أيضاً العناصر المكونة لهذا النظام، وما هي المراحل الانتقالية الى النظام الجديد. اكتفى بإعلان موت النظام القديم، وحدد اميركا كلاعب منفرد مهمته صوغ الأسس الجديدة. اذاً سقط النظام القديم، وكان لا بد من أن تسقط معه كل الضوابط التي كان يقوم عليها، من معاهدات وما شابه. حاول الرئيس بوش الأب البدء بتكوين الأسس الأولية للنظام الجديد، فحاول من خلال "مؤتمر مدريد" صوغ نظام اقليمي شرق أوسطي يكون الدعامة الأولى للنظام العالمي المنشود. فكان اللاعب المنفرد اذا صح التعبير. لكن آثار مؤتمر مدريد وما تبعها كانت كارثية على الصعيد السلمي في منطقة الشرق الأوسط. فهي حتماً لم تؤد الى السلم المنشود، لكن الأكيد أيضاً انها قضت على ما أنجز سابقاً في هذا المجال خصوصاً اتفاقية كامب ديفيد الأولى. ويذكر ان حرب الخليج والطريقة التي خيضت فيها، خصوصاً في الوسائل الحديثة المستعملة، أدت الى الاعلان عن قيام ثورة جديدة في الشؤون العسكرية، وجعلت القوى الثانوية الطامحة لاحتلال موقع متقدم تعمل على اعادة درس عقيدتها العسكرية بهدف تطويرها لحروب ما بعد القرن العشرين. أتى الرئيس كلينتون المغمور بعد الرئيس بوش الأب تحت شعار "انه الاقتصاد أيها الغبي"، لامس الرئيس كلينتون النظام، أو تشكُّل النظام الجديد عن بُعد. حاول استيعاب الأزمات في العالم فتدخل كثيراً من دون العمل على تطوير الآلة العسكرية الاميركية في شكل تتناسب مع التحديات الجديدة. فالسلاح اصبح قديماً، والتركيبة العسكرية يلزمها تعديل، واسلحة الدمار الشامل في انتشار سريع على الدول المارقة. توجّه كلينتون الى الصين كحليف استراتيجي، معتبراً ان التورط معها اقتصادياً يؤدي الى ابتعادها عن التسلح المُكلف، والعدول عن الأهداف التوسيعة في المنطقة. واقترح الكثير من الدارسين المهمين على الرئيس كلينتون كيفية التعامل مع كل من الصينوروسيا. فاقترح بريجنسكي في كتابه "رقعة الشطرنج الكبرى"، على الادارة الاميركية العمل على الآتي: عدم السماح بقيام تحالف اوراسي بين الصينوروسيا. توجيه اليابان لتكون جباّراً اقتصادياً عالمياً، وإعطاء الصين دوراً مهماً على الصعيد الآسيوي الاقليمي بهدف ارضاء غرورها. واقترح معهد "راند" للدراسات على الرئيس كلينتون اتباع استراتيجية الاحتواء - التورط مع الصين. الاحتواء لمنعها من بيع أو الحصول على التكنولوجيا المتقدمة لأسلحة الدمار الشامل. والتورط لاقناعها ان الازدهار الاقتصادي مفيد لها أكثر. بالنسبة الى روسيا كانت مقاربة كلينتون أكثر وداً، فهو حاول دائماً مساعدة يلتسن عند الحاجة. فكان الى جانبه عند حادث الانقلاب، وساعده مادياً. كذلك الأمر كانت هناك لجنة مشتركة بين آل غور وتشيرنوميردين، هدفها نزع فتائل الأزمات. لم يحاول كلينتون الغاء أسس النظام القديم والمتمثلة بالمعاهدات والاتفاقات خصوصاً مع روسيا. وقع اتفاق انشاء محكمة العدل الدولية لجرائم الحرب ICC، لكنها لم تُصدّق من الكونغرس. وتخاصم مع الكونغرس عندما لم يوافق هذا الأخير على تصديق معاهدة وقف التجارب النووية. بالنسبة الى ما ورثه من أزمات من سلفه بوش الأب، اعتمد كلينتون استراتيجية الاحتواء المزدوج لكل من ايران والعراق، وتابع سياسة العقوبات على ليبيا، الهند، باكستان. لكنه شكّل كارثة على عملية السلام في الشرق الأوسط. فهو أول رئيس اميركي يقترح تقسيم القدس خلافاً للقرار 181 الذي يضعها تحت وصاية دولية. اعتبر كلينتون ان العملية السلمية "الشرق أوسطية" هي من أولى اهتماماته، فحفظ التفاصيل الصغيرة، وقدّم مقترحات باسمه مخالفاً موقف الوسيط النزيه. وكانت النتيجة كارثية بعد أن أجبر ياسر عرفات على حضور اجتماع كامب ديفيد، الأمر الذي أظهره انه لا يريد السلم. كانت الانتفاضة الحالية مع نتائج دموية كبيرة حتى الآن والله أعلم الى ماذا ستؤدي. اذاً مع كلينتون اقتصاد في الدرجة الأولى، احتواء المناطق الحارة، مغازلة القوى الصاعدة، انحياز تام لمصلحة اسرائيل، وأخيراً وليس آخراً حصيلة كبيرة من الفضائح الجنسية. لكن نلأكيد انه رجل مميز حين يقول عن الطِباع Character: "ان الطِباع رحلة من دون اتجاه معين". أتى بوش الابن من خلال انتخابات كان القرار فيها للمحكمة الاميركية العليا. كان عليه بعدها ان يثبت انه قائد فريد من نوعه بهدف استعادة التفويض الشعبي المهزوز. ماذا فعل بوش منذ انتخابه؟ ورث بوش العالم من سلفه، فحاول تغييره بدل ادارته. اطلق شعار "نحن والعالم". سوّق لافكاره عبر قادة حملته الانتخابية، أو يصح القول انه تبنى افكارهم وهي في غالبيتها اكاديمية بعيدة عن أرض الواقع. رأى العالم بعد الحرب الباردة بمنظار الحرب الباردة. وعى سقوط النظام القديم، لكنه لم يتنبّه لتداعياته الخطيرة. لم يدرك ان الحرب الباردة انتجت قتيلاً هو الاتحاد السوفياتي، وجريحاً هو الولايات المتحدة فظل يعتبر نفسه معافى. تهرّب من الخدمة العسكرية، ولم يتدرب ويتعلم من تجارب الأب، فظلّ جاهلاً بقضايا العالم، بعيداً من مشكلاته، مازجاً ما بين الاستراتيجية والتكتيك، ضارباً بعرض الحائط علاقة السياسة بالجغرافيا، مستنداً على تفكير خطي لا يأخذ في الاعتبار غير المتوقع، فيقول قوله متوقعاً من الآخر جواباً يريحه، متجاهلاً تعقيدات الطبيعة البشرية وخفاياها. إدّعى معرفة بعلم النفس، عندما نظر الى عيني الرئيس الروسي بوتين، فتأكد انه انسان صادق يمكن التعامل معه، لكنه تناسى مآثر الرئيس الروسي في الشيشان، التي تتعارض مع المبادئ الاميركية وقيمها. أحبّ الرئيس الروسي لكنه يريد تطويقه عبر توسيع حلف الناتو الأطلسي شرقاً. لم يميز ما بين القوة المطلقة، والقوة النسبية. فاعتقد ان الترسانة الاميركية كفيلة لوحدها بردع من يريد والضرب متى شاء. نسي ان سقوط الامبراطوريات وصعودها لم يعد كما كان في التاريخ القديم، فهو يحصل بسرعة فائقة. روما دامت الف سنة، لكن الاتحاد السوفياتي سقط بسرعة بعد 50 سنة على صعوده. عموماً كيف أثر مجيء بوش الابن على النظام العالمي المرتقب؟ أراد بوش تسريع صوغ النظام العالمي المرتقب، فغلب التسرع على السرعة في مسيرته السياسية حتى الآن. فعمل من خلال مواقفه المتعجرفة الفوقية على ضرب الأسس القديمة للنظام القديم، وذلك من دون تقديم البدائل. فغدا العالم من دون ضوابط تسيّره وحلّ التفرّد مكان العمل الجَماعي. فزادت الفوضى الدولية نتيجة لذلك، خصوصاً أن النقاط الساخنة التي كانت مضبوطة بالنظام القديم خرجت الى السطح من دون رادع. فكانت المآثر الآتية: أراد بناء الدرع الصاروخية لحماية أميركا من صواريخ الدول المارقة، ضارباً بذلك معاهدة ال"آي بي أم" التي كانت عامل استقرار بين الجبارين منذ تاريخ توقيعها العام 1972. شكّل قرار بوش هذا قلقاً لدى الأعداء والأصدقاء على السواء، فخاف الأوروبيون ان يشكل هذا الأمر سبباً لتسريع عملية سباق تسلّح جديد. أقلق الأمر الصين الصاعدة كونه يبطل مفعول ردعها النووي فتصبح عرضة للابتزاز السياسي الاميركي. يُضاف الى هذا اعتباره للصين منافساً بدل أن تكون حليفاً استراتيجياً كما كانت أيام كلينتون. رفض معاهدة كيوتو التي تحدّ من نفث ثاني أوكسيد الكربون في الفضاء، متجاهلاً الرأي العالمي حول البيئة، ناسياً ان الولايات المتحدة هي أكبر مسبّبي هذا التلوّث. رفض توقيع المعاهدة حول إنشاء المحكمة الدولية لمحاكمة جرائم الحرب "آي سي سي" ICC خوفاً من تطاول في وقت من الأوقات الأعمال العسكرية الأميركية التي حصلت في أرجاء العالم خصوصاً فيتنام. رفض اقتراح التسوية حول الابحاث الجرثومية والبيولوجية. تمنّع عن دفع المتوجبات للأمم المتحدة مخالفاً بذلك شرعة هذه المنظمة التي هي من صنيعة الولايات المتحدة. يضاف الى هذا تجاوز هذه المرجعية في الأزمة الحالية إذ نكاد لا نسمع صوت أمينها العام في الوقت الذي يطلّ مكتبه في نيويورك على مركز التجارة العالمي. يحاول عبر وزير دفاعه اعادة تنظيم وتسليح وهيكلة القوات العسكرية الاميركية. فأدخل هذا الأخير ابعاداً جديدة على الصراع مضيفاً الفضاء بعداً رابعاً، الأمر الذي يعاكس الاتفاقات المعقودة حول عدم عسكرة الفضاء. قرّر الانسحاب من مشكلات العالم تاركاً الأزمات تحل نفسها بنفسها، فأطلقت في هذا المجال عقيدة كولن باول التي تقوم على "التدخل عند تعرض مصالح الولايات المتحدة الحيوية للخطر" والضرب بقوة لتحقيق النصر مع خسائر قليلة، الأخذ في الاعتبار استراتيجية الانسحاب السريع للقوى. وأخيراً وليس آخراً انسحبت اميركا من مؤتمر ديربان متجاهلة شعور المنبوذين والمضطهدين في الدول التي مارست العنصرية، متناسية انها جزء لا يتجزأ من المشكلة، وقد يكون الحل عبرها. هذا غيض من فيض، لكنه يُظهر بصورة واضحة ان بوش الابن يريد ضرب كل الأسس التي يقوم عليها النظام العالمي القديم. يريد ضرب قواعده، أسسه، مبادئه، ومنظماته التي أدارت الأزمات خلال ال50 سنة الماضية. والخطر يكمن في تسريع الأطر الجديدة لنظام مستقبلي ممكن، يراه الرئيس بوش من منظاره من دون أن يكون هناك إجماع عليه من الأعداء أو الأصدقاء. لكن فرادة هذا الرئيس في انه مزدوج الشخصية في مقاربة ما أشرنا اليه. فهو يريد الانسحاب من الشرق الأوسط، لكنه قابل تقريباً كل زعماء المنطقة، وأرسل مسؤوليه الكبار الى المنطقة، باول وتينيت، ولكنه رفض تحديد موعد للقاء ياسر عرفات لبحث اضطراب المناطق المحتلة. كذلك كانت له مبادرات، كخطة تينيت، يريد الانسحاب من البلقان لكنه يسهم في مقدونيا. أُغرم بالرئيس الروسي، لكنه يريد توسيع حلف الناتو وانتهاك معاهدة الABM. الصين منافسة لأميركا، لكنه ساعدها للحصول على تسمية بكين مركزاً للألعاب الأولمبية للعام 2008. كذلك يريد مساعدتها للدخول الى منظمة التجارة العالمية ولكنه في الوقت نفسه يريد تسليح تايوان ضد الصين، كما تعهّد بالدفاع عنها مهما تطلب الأمر. هذا قبل 11 أيلول سبتمبر 2001، فماذا عن ما بعد الكارثة؟ سوف تكون اميركا بعد الحادث غير ما كانت عليه قبله بالتأكيد. فالتحوّل جذري في نظرة الاميركيين لأنفسهم وللعالم ككل. فالذراع الاميركية الطويلة، بدت عاجزة عن حماية الأرض الأميركية. وبلد التعددية Melting Pot ضمن بوتقة واحدة، أصبح متعدد الولاءات. فالأسود هو أميركي - افريقي، المكسيكي هو أميركي من أصل اسباني. فبعد 50 سنة من الآن، سيصبح العنصر الانكلوساكسوني أقلية مع ما يستتبع ذلك من تحول في توزيع موازين القوى السياسية على الاثنيات في بلد العم سام. وستتغير نظرة العالم لأميركا أيضاً، فالمحيطان غير كافيين لحماية الأرض الاميركية. وفكرة البلد الذي لا يقهر لم تعد قائمة. والحروب الشاملة لم تعد كما في الحروب التقليدية السابقة، فالعدو بدّل شكله الأمر الذي يتطلب تغيير الوسيلة والتكتيك، وهو يعيش أي العدو كالحرباء التي تبدّل لونها بحسب المحيط الذي تعيش فيه، لكن الأكيد ان محاربته تتطلب فهمه والعمل على استئصال اسبابه، والا فإن المعركة دائمة مستمرة يدفع ثمنها من أدار ظهره لها. ما هي خيارات الولايات المتحدة؟ يدور جدل في الولايات المتحدة حول الموقف الواجب اتخاذه تجاه العالم. فهناك الموقف الانعزالي، إذ تتراجع اميركا الى حدودها لتترك العالم لمشكلاته كما حصل بين الحربين العالميتين. فلا تكون هناك عمليات حفظ أمن خارج الأرض الاميركية، ولا مشاركة في البنك الدولي، ولا في الأممالمتحدة، ولا أيضاً في صندوق النقد الدولي، وكل ما يستتبع من انعزال. لكن هذا الخيار يبدو مستحيلاً لأن الاقتصاد الأميركي أصبح مرتبطاً في شكل عميق بالاقتصاد العالمي. كما ان هذا الأمر سوف يخلي الساحة للأقوى على الساحة العالمية، لأن الفراغ يناقض طبيعة الحياة، فتحلّ الفوضى في وقت من الأوقات في العالم، التي ستطاول الأرض الاميركية حتماً عاجلاً أم آجلاً. الموقف الثاني هو التفرّد في القرارات. تقوم هذه المقاربة على أن تأخذ الولايات المتحدة قرارات تتناسب ومصالحها القومية، حتى ولو انتهكت هذه القرارات القوانين الدولية وكانت تتعارض مع مواقف الحلفاء. لكن هذا الموقف سيؤدي الى مزيد من الفوضى العالمية، من حيث الانعكاس السلبي على أميركا. أما المقاربة الأخيرة فهي تقوم على مزيد من التورط في العالم والمساهمة في حل مشكلاته الأمر الذي يحفظ مصالح الولايات المتحدة. ما هو المطلوب الآن من الولايات المتحدة؟ مرّت الولايات المتحدة خلال صعودها كقوة عظمى في ثلاث مراحل هي: 1 - التوسع Territory خلال القرن التاسع عشر. كانت الامبريالية الاميركية توسعية ارتكزت على مبدأ المانيفست. وهو مقال كتبه جون سوليفان حدد فيه قدرة الولايات المتحدة ودورها تجاه البشرية. فهي ذات رسالة عالمية تقوم على نشر مبادئ العدالة والحرية والديموقراطية. ونتج عن هذا "المانيفست" احتلال غرب الولايات المتحدة، محاربة المكسيك وانتزاع تكساس وفلوريدا. 2 - في القرن العشرين كانت الامبريالية العقائدية Ideological، التي تقوم على محاولة نشر المبادئ الاميركية وفرضها، وهي المتمثلة بالديموقراطية وبحقوق الانسان. وهذا ما حدا برئيس مجلس النواب الاميركي السابق نيوت غينغريتش القول في "معهد العلاقات الخارجية" في الصين عام 1997: "... اننا لا نعتبر اصرارنا على الحرية وكأنه تدخّل في شؤون البلدان الأخرى، لا بل إننا نعتبر الأمر وكأنه هدية عظيمة نقدمها للعالم...". أو كما قال بوب دول المرشح الديموقراطي عام 1996: "... إننا وُضعنا هنا كشعب، على هذه الأرض لهدف معين، ومن قبل قوة عظمى خارقة...". 3 - المرحلة الثالثة وهي التي نعيشها الآن بعد حادث 11 ايلول. ولكنها مختلفة تماماً عن سابقاتها، فهي ليست امبريالية توسعية لأن أميركا وصلت الى الحد الأقصى لامتدادها الجغرافي. وهي أيضاً في شكِّ تجاه عقيدتها وقيمها. فالديموقراطية بحسب المفهوم الاميركي تختلف عن مفاهيم الكثير من دول العالم، خصوصاً في شرق آسيا وفي العالم الاسلامي ككل. ويبدو من خلال ما يصدر عن الرئيس الأميركي حالياً انه يريد نصراً يقدمه للشعب الاميركي، على عتبة القرن الواحد والعشرين، على أن تتشابه العملية العسكرية بالحملات الافرنجية. وكأني به يعتقد ان استمرار الهيمنة الاميركية على مصير العالم يتطلب في الوقت الحالي جرعة قوية من العنف. لكن الفارق بين العنف الحالي الذي تريده الولايات المتحدة وبين العنف الذي مارسته ابان الحرب الثانية، هو ان الأخير أدى الى صعودها كقوة عظمى، بينما العنف الذي تبغيه الآن قد يؤدي الى تسريع سقوطها. وذلك لأن العنف يتطلب جهوداً عظيمة قد تكون على حساب الازدهار، كما ان التفرّد في استعمال العنف لأهداف تتعلق فقط بالولايات المتحدة يؤدي الى تحالفات متفرقة ربما تقوم ضدها Ganging against. ما المطلوب إذاً؟ المطلوب تغيير في العقلية الاميركية ككل. المطلوب تبدل تام في نظرة الولايات المتحدة الى نفسها أولاً، والى العالم ثانياً. المطلوب ان تعي اميركا ان العالم لها ولغيرها، والقرار يعود لها ولغيرها، والدول ليست نيابات عامة يُطلب منها تسليم من تشكُّ به الولايات المتحدة، وذلك كما قال وزير الاعلام اللبناني غازي العريضي. المطلوب ان تعي الولايات المتحدة انها الأقوى في العالم، لكن للقوة حدوداً نسبية، والعالم الحالي متعدد الأقطاب على أساس كلٌّ بحسب وزنه. والمطلوب ان تعي الولايات المتحدة ان لها دوراً أساسياً حالياً على الصعيد العالمي، وهي التي سوف تُشكّل النظام العالمي الآتي، فإذا ما أحسنت الصنع فإن العالم سوف يتجه الى مزيد من التقارب والاندماج لتعمّ الفائدة كل ارجاء المعمورة، والعكس قد يعني ما بشّر به هانتنغتون حول "صراع الحضارات". وبهدف تحقيق ما ورد أعلاه وجب العمل على الآتي: السعي الى تأسيس مرجعية دولية تحل مكان الأممالمتحدة التي فقدت تقريباً صدقيتها. تعديل تركيبة مجلس الأمن ليضم دولاً جديدة كالهند، استراليا واليابان... والبرازيل الخ. تشكيل قيادة عالمية مهمتها ايجاد مبادئ النظام الدولي الجديد وأسسه التي على أساسها سوف يُدار العالم. العمل من خلال المرجعية الدولية المذكورة أعلاه للقضاء على الأمراض، والمجاعة الأمر الذي يحدّ من الهجرة وكذلك الأمر الحفاظ على البيئة. العمل من خلال مجلس الأمن والقيادة الدولية لحل النزاعات والأزمات الدولية، التي قد تتحول بسرعة الى حروب دامية. وتكاد لا تخلو قارة من هذه النقاط الساخنة: افريقيا 32 نزاعاً، الأميركتان 16، أوروبا 7، آسيا وشرقها 27. العمل على تشكيل قوة عالمية رادعة ضد من تسوّل له نفسه العمل على ضرب النظام القائم لأغراض خاصة. العمل على تقليص الفارق في انتشار التكنولوجيا بين البلدان الفقيرة والغنية. هذه اقتراحات قد لا تلقى آذاناً صاغية في الوقت الذي تدقُّ فيه طبول الحرب، وهي فعلاً خيالية لكنها ليست بعيدة من أفكار الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، الذين ركزوا على الكرامة الانسانية، الحرية والديموقراطية، وعلى حرية المعتقد. وقد يقول البعض ان الوضع يتطلب الانتقام، ولكننا نقول ان قرار الحرب سهل جداً، لكن قرار انهائها يبدو صعباً. فالنصر من صنع القوي الذي يملك القوة المطلقة، لكن السلم هو قرار مشترك بين القوي والضعيف. فإذا لم يقبل المنهزم نتيجة المعركة، وكان لديه التصميم على متابعة المعركة لأمر يؤمن به، فإن القوي سوف لن يشعر حتماً بسعادة نصره. فماذا لو لم يقبل "الأصوليون" نتيجة المعركة المقبلة وقرروا المتابعة؟ وماذا لو كانت هناك قنبلة بيولوجية او ما شابه، مخبأة في مدينة غربية ومجهزة للتفجير على اشارة أو أمر ما؟ فماذا سيكون حجم الرد آنذاك، ومن هو المسؤول؟ وإننا نسمع حالياً عن امكان استعمال النووي ضد افغانستان حتى ولو على المستوى التكتيكي، فهل يعقل هذا؟ في النهاية لا يزال الوقت كافياً لمراجعة واقعية لما يحدث، وما نأمله أن يأخذ الأميركيون القرار المناسب من المرة الأولى، وليس كما قال عنهم تشرشل في انهم يأخذون دائماً القرار الصائب، لكن بعد تجربة كل البدائل الممكنة. * كاتب لبناني، عميد ركن متقاعد.