قد لا يكون السبب الأوحد والأول في بعث السلاح الذري على القلق والهول هو قوته التدميرية. وإذا كان معيار الدمار الذي يلحقه السلاح الذري هو ما يسمى، من غير قشعريرة ظاهرة،"قنبلة هيروشيما"، فالقنبلة العتيدة ليست إلا وحدة قياس. فلا شك، والحال هذه، في هول احتساب قوة تدمير تبلغ وحدة قياسها 75 ألف ضحية، وعشرات الآلاف من المعوقين وذوي العاهات، ولداً عن والد. وهذا معنى"قنبلة هيروشيما"، أي قوتها. وعلى رغم هذا فالقتل الحرفي والبدائي، بوسائل بعيدة من مراتب العلم العالية والعظيمة التي يمدحها القادة الإيرانيون وغيرهم، مثل السواطير والمناجل المسننة، هذا القتل ليس قليل الجدوى. وهو قد يرقى، إذا لم يدهم الوقت أصحابه ومنظميه و"فرسانه"، على ما حصل في رواندا وبوروندي في ربيع عام 1994 ويحصل منذ نيف وسنتين بغرب السودان دارفور، الى مراتب عالية. فتبلغ قوته 7 قنابل هيروشيما رواندا، أو 3.5 قنابل غرب السودان. فما يُستهول من السلاح النووي، الى سرعة القتل وحتمه واتقاد جذوته وقتاً طويلاً بعد انفجاره على شاكلة أمراض وإصابات كامنة ومتوارثة، هو"العقيدة"التي تدعو الى استعماله، وتسوغ هذا الاستعمال ولا توجب كابحاً وقيداً عليه. ويذكر ان ما حمل العلماء الأميركيين، وبعضهم من أصول أوروبية وسطى، على إفشاء الاحتمال النووي، والرضوخ مكرهين من أنفسهم وليس من السلطات لصناعة هذا الضرب من السلاح، هو التماس الزعيم النازي الألماني صناعته، وحبو الصناعة الألمانية خطوات أولى متعثرة على طريق الصنع المخيف. فالجمع بين قوة التدمير وبين إرادة الاستعمال وتجويزه، هو الباعث الحقيقي على الروع النووي. وغلبت قوة التدمير، غير المعروفة يومها، إرادة اليابان، امبراطوراً وقيادة عسكرية و"شعباً"أو قوماً، واستقبالها دوام الحرب واستمرارها من غير ضعف أو تردد ظاهر. ولم تهدأ الى اليوم مناقشة جواز الموازنة الأميركية، العلمية والسياسية، بين الاحتمالين: احتمال إنهاء الحرب بواسطة السلاح المخيف، واحتمال إنهائها من طريق حرب"تقليدية"تفوق كلفتها البشرية والمادية وربما السياسية دمار القنبلة المتوقع. ويبقى الجزم الأميركي بتقديم استعمال السلاح الذري، المعروف الكلفة والثمن على وجه اليقين، على الحرب التقليدية، وكلفتها من باب التقدير ليس إلا، مدعاة ظن وتهمة معلقين أو معملين. ولعل ما يسلط الظن والتهمة هو ما سماه بعضهم"إرادة الإرادة"النووية. فالإقدام على صنع مثل هذا السلاح، والخطوة الأولى كانت نازية ألمانية، يفترض دمارَ البشرية، والعمران الإنساني، أفقاً محتملاً وجائزاً. وهو ما سماه الخبراء، طوال عقود الحرب الباردة الميمونة،"الرؤيا"أبوكاليبس واستظلالها. واضطرار الرد على احتمال الصنع النازي ? وعلى حتم اتصال الصنع بالاستعمال من غير تردد ? بمباشرة الصنع، ثم بصناعة السلاح واستعماله بعد 15 أسبوعاً على الاستسلام الألماني في 8 أيار/ مايو 1945، لا يستوفي عذرٌ تسويغَه تسويغ الاضطرار بالغاً ما بلغت قوة العذر. وربما قللت قواعد العلاقة النووية، وهي وصفت بتبادل الردع والكف وأرسيت عليه، من هول السلاح الجديد. فنصت، أول ما نصت، على"ترك الاستعمال"أو على"اللااستعمال". وأوجبت ألا يستعمل السلاح المدمر، على معنى ألا يبتدئ أحد أصحابه انتضاءه فعلاً وإعماله. فيقتصر أمره على رد صاحبه عن استعماله، ومنعه منه. فإذا تعهد أصحابه جميعاً ألا يبتدئ أحدهم استعمال الطاقة التدميرية الكامنة، وأن يلتزموا الرد بضربة ثانية، أقام السلاح النووي على حال غريبة من أحوال"الوجود"أو الكينونة وهذه الحال لم تعدم"تخصيب"الخيالين المنطقي الرياضي والفلسفي وإثارتهما. ووسع بشرية النصف الثاني من القرن العشرين اجتياز نصف القرن هذا، وهي تستظل احتمال الدينونة النووية، من غير حرب من هذا الضرب. ولم يحسم احتمال الحرب الباردة، أو يقطع دابرها، موت السلاح النووي ووأده، على ما تمنى أوبنهايمز. فهو يحصى بعشرات آلاف"القطع"، ومعظمها صالح للاستعمال، على قول الصيدلة في أدويتها. فطواها رجوع القوة السوفياتية الشيوعية مكرهة عن إرادتها بسط سيطرتها على العالم بالقوة، وتحولها قوة بوليسية متسلطة، وعاجزة عن استجابة حاجات السكان المعنوية والمادية. وهذا ربما قرينة أخرى على أن مصدر الترويع في السلاح النووي لا ينفصل عن إرادة الإبادة غير المقيدة التي تحدو حركات سياسية وإيديولوجية ثورية، يمينية أو يسارية، وتلهمها سياساتها وأفعالها. ولعل ما يخيف أولاً، وقبل أي اعتبار آخر، في الاختبارات التقنية والعلمية الإيرانية هو الإرادة الثورية، القومية العصبية والمذهبية، التي تنفخ في نازع قيادات طهران، المتعاقبة والمتآلفة الى دخول النادي النووي المدني والعسكري. وتحرص القيادات هذه، على بعض الاختلاف بين أجنحتها، على ربط انجازها النووي المزمع بالثأر من تأخر إيران، وضعفها الصناعي والعلمي والعسكري، وخفة وزنها في الميزان الاستراتيجي الاقليمي. وهي تعزو عللها، أي تأخرها وضعفها وخفة وزنها وعزلتها، الى إرادة متعمدة، وسياسات مبيتة انتهجتها قوى مهيمنة في صدارتها بريطانياوروسيا معاً، في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأول من العشرين في ما يعود الى روسيا، وتنتهجها اليوم، أي منذ نصف قرن، الولاياتالمتحدة وإسرائيل. فتلازِم المواقفُ الإيرانية المعلنة تلازماً يبلغ حد التوحيد والدمج، بين الانجاز التقني والصناعي المفترض والمزعوم في ضوء السابقتين الكورية الشمالية والباكستانية وبين"التحرر"من العدو الأميركي و"محو"أو قتل العدو الاسرائيلي اليهودي. والتحرر والمحو هذان هما مدخلا النظام الإيراني الخميني الى الاضطلاع بدور"قوة عظمى"، على ما يستعجل محمود أحمدي نجاد القول أو الزعم، في الدائرتين الإسلامية والعربية. والطمع في مثل هذا الدور يصدر عن الأصل الثوري الذي اضطرت القيادة الخمينية الى التخلي عنه، أو"تنويصه"، في أعقاب إخفاقاتها الداخلية والخارجية المتوالية. ويحسب أحمدي نجاد، ومعه طاقمه الحرسي، أن في وسعه إحياء هذا الأصل، واستئنافه فيسمي فوزه الانتخابي، وهو مزيج اقتراع محلي فئوي وتدخل إداري"ثورة ثانية". ومدى هذا الأصل هو العوالم الإسلامية كلها. فمن محاولات تصدير الثورة، وبث الاضطراب والمنازعات المذهبية في الجوار الإقليمي القريب بوسائل أمنية واستخباراتية ودعاوية تحريضية، الى استدراج صدام حسين الى حرب طويلة، والتعويل عليها في سبيل استعداء"المسلمين"على"الغرب"، حامي صدام حسين وإسرائيل معاً وعلى"عملائه"، اختبرت القيادة الخمينية ميادين متفرقة ومتنوعة كثيرة. ولم يؤد توحيد الأنظمة المحافظة و"الأهلية"، وأبنيتها الاجتماعية والسياسية، بالولاء الأميركي المفترض ومهادنة إسرائيل "اليهودية"، الى توحيد المسلمين تحت لواء التشيع الإيراني وپ"ولي أمر المسلمين"على ما كانت الصحافة والكتيبات الإيرانية، بالعربية، تذيع وتعلن. ولا أدى الى خروج"المستضعفين"المسلمين على رؤسائهم وأولياء أمورهم ودولهم وأنظمتهم، ولا إلا مبايعة"صاحب"إيران. فاقتصرت الخلخلة المنشودة على اغتيال هنا، وخطف طائرة هناك، وتظاهرة هنالك. وألحق صدام حسين، على هزال قيادته، هزيمة تاريخية بالخصم القومي والطائفي"الشرقي". ولم ينشق العراقيون الشيعة على نحو ما لم ينشق عرب الأهواز السنّة بإيران، ولم تنشق الجماعات الأخرى في البلدان والمجتمعات المتاخمة. وأيقظت الحركة الخمينية المنازعات المذهبية الدامية بأفغانستان وباكستان. وتفاوض الإسرائيليون والفلسطينيون والسوريون والأردنيون واللبنانيون طوال أعوام، جهاراً. وأرست منظمة التحرير الفلسطينية نواة سلطة وطنية واستقلالاً ذاتياً على طريق استقلال وطني. واستعاد الأردن وادي عربة. وكاد المفاوض السوري، في 1995 ? 1996، ينجز استعادة الجولان. وهذا كله يخالف مخالفة صريحة البرنامج الثوري الخميني وينقضه. والمسؤولية عن الإخفاقات تعود الى عوامل ذاتية وموضوعية تنكرها القيادة الإيرانية. ولعل"حزب الله"اللبناني، في رعاية"السيدين"الإيراني والسوري، الانجاز الجزئي الوحيد. فحالت أعمال الحزب العسكرية والأمنية، في رعاية سورية سابقة، دون جلاء القوات الإسرائيلية المحتلة عن الأراضي اللبنانية لقاء إحياء اتفاق الهدنة، على ما كان ليحصل لو تولت دولة لبنانية سيدة ومستقلة المفاوضة على الجلاء، وتعهد الضمانات التي لا تنفك منها علاقات جوار، ولو بين الأعداء المتحاربين. وفي ضوء الاخفاقات الإيرانية هذه - وهي لم تقلل منها الفصول التالية في عقد التسعينات ومطلع العقد الأول من القرن الجاري -، وفي ضوء تعليلها وحملها كلها على النوايا السوداء الأميركية والإسرائيلية، بلورت الطبقة الإيرانية الحاكمة"عَرَضاً"سياسياً إيديولوجياً مركباً. وهو يشبه"العرض النازي الألماني"الذي قاد ألمانيا من الثأر لهزيمتها في الحرب الأولى الى ارتمائها في الحرب الثانية وجرها أوروبا، والعالم من بعد، الى أتونها، ونشدانها الانتصار، على حافة الدمار، من طريق السلاح السحري. فالطبقة الحاكمة الإيرانية تعزو إخفاقاتها وعثراتها وهزائمها الى"طعنة خنجر في الظهر"، ومؤامرة مبيتة. وهي تعلل حوادث تاريخها القريبة، والفرق بين غاياتها وبين أحوالها، بالحؤول بينها وبين تصدر"العالم"الإسلامي، وقيادته على طريق القوة والعزة والثورة. وترد تفرق الشعوب والأقوام والبلدان المسلمة عليها على إيران وعنها الى ارادة إضعافها، والى الخوف منها. فهي، على هذا، ضحية قوى غادرة وظالمة ومغتصبة. وتتستر هذه القوى على غدرها وظلمها واغتصابها بالقوانين والهيئات الدولية. فالقوانين ليست إلا سياسة قوة ماكرة. والحجة التي لا تدحض هي اسرائيل، بداهة. وفي سبيل الثأر للضحية الإيرانية، ويفترض انها تكني عن"العالم"الإسلامي كله، يحق لها الخروج على عهودها ومواثيقها. فالقوة هي الرد على القوة. فإذا انتصرت قوة الضحية على قوة المستكبر، ولو كان دون هذا دمار العالم، ساد العالم السلام، ولو كان سلام القبور. وساده الإسلام "قريباً ستسمعون هتاف لا إله إلا الله يتصاعد من جميع أنحاء العالم"، غداة"انتصار"أحمدي نجاد وقوته"العظمى". وعلى هذا، يندرج التعليل"اليهودي - الأميركي"في العرض الإيراني النووي، على مثال قريب من اندراج التعليل"اليهودي - الكوسموبوليتي"في العرض النازي الألماني. والحق ان الرئيس الإيراني لا يتستر على صفة احتجاجه، ولا على مصدره. فهو يدعو"الشعب الألماني"الى فك"رهن الحرب العالمية الثانية"، والى التحرر من حرمانه"الحق في أن تكون له سياسته المستقلة ودفاعه الخاص به"من خطبة في زنجان، في 27 أذار/ مارس المنصرم وصحف اليوم التالي. وهذا صدى حرفي لدعوة الزعيم النازي المبتدئ"الشعب"كتلة واحدة و"عظيمة"، وليس المواطنين الألمان على اختلاف آرائهم وأحوالهم وأحزابهم، الى القيام على ظلم معاهدة فرساي التي حاكتها، على زعمه، اليهودية العالمية، الرأسمالية والشيوعية. وتعويضات الحرب الأولى أشبه بپ"دَيْن كل مولود ألماني ... للصهاينة المستكبرين والجشعين"، أو التعويضات الألمانية الى ضحايا الحرب الثانية اليهود وأولادهم. وأنصاب المحرقة، على قول اللواء السابق في الحرس الثوري الإيراني، بدل أنصاب المجد، هي نظير"الإثم اليهودي"الذي تسلل الى الروح الجرمانية وأضعفها وأنَّثها، على قول"كفاحي". وفي دوامة مزيج القوة النووية، المعظمة، والثأر على ضغينة فظيعة للضحية الإيرانية من طريق تبوئها محل القوة العظمى، لا محل لقواعد العلاقة النووية: ترك ابتداء الاستعمال الأول، والقصر على الردع، والتقيد بالضربة الثانية، ومناسبة الرد الهجوم، والتقيد بالمعاهدات والعلانية طبعاً. والمزيج المروع هذا لا يداوى، على ما تحاول بعض الدعاوة الإيرانية، بدعوى تحريم الإسلام السلاح النووي. فعلى هذا ينبغي التسليم بأن امتناع القيادة الإيرانية من انهاء الحرب غداة 1982، وسقوط 300 ألف قتيل إيراني بعدها، أوجبه الإيمان، وأنه أوجب الاغتيالات والاعتقالات وآخرها اغتيال زهرة كاظمي واعتقال رامين جاهان بجلو، الكندي - الإيراني. ولا يداوى بتطمين الجوار العربي القريب، وهو لم ينسَ مآثر القوم أنفسهم طوال الثمانينات، أو الجوار التركي، والجوار الآسيوي الأوسط، الى النطاق الأبعد الأوروبي والروسي فالأبعد. فالاعتبارات والحيثيات الإيرانية أو النجادية المضمرة والمعلنة، شأن سابقتها التاريخية التي تحتذي عليها، تقود الى حمل المشكلة الإيرانية على مشكلة دولية، من أقرب الدوائر الإقليمية الى أبعدها. وهي، أولاً، مشكلة نظام سياسي، في إيران نفسها، تتولاه قيادة"فولاذية"غاشمة. * كاتب لبناني