اتسمت سياسة فرنسا الخارجية، والتي أرسى دعائمها الجنرال ديغول، بقدر كبير من الاستقرار، ورجحت كفة عوامل الاستمرار على عوامل التغيير منذ قيام الجمهورية الخامسة وحتى الآن، على الرغم من عدم تفرد الديغوليين بقيادة الدولة، حيث تناوبت عليها رموز تنتمي لليمين غير الديغولي جيسكار ديستان أو لليسار الاشتراكي فرانسوا ميتران. أما اليوم، وبعد أكثر من مئة يوم على تنصيب نيكولا ساركوزي رئيساً للجمهورية 16 ايار/ مايو 2007، وهي الفترة التي يعدها المراقبون كافية للتعرف على نهج وسياسات القادة الجدد، بات في حكم المؤكد أننا سنشهد من الآن فصاعداً سياسة خارجية فرنسية مختلفة كلياً عن تلك التي اعتدنا عليها منذ بداية الجمهورية الخامسة، وهنا تبرز المفارقة الكبرى. فالرئيس الجديد خرج من عباءة التيار الديجولي ونشأ وترعرع في حضنه، وبالتالي فإذا صح استنتاجنا، وفي اعتقادنا أنه صحيح، فمعنى ذلك أن فرنسا تشهد انقلاباً على الديغولية من داخلها، أما أسباب هذا الانقلاب فهي عديدة، بعضها ذاتي، يتعلق بشخصية ساركوزي وبنسقه القيمي، وبعضها الآخر موضوعي، يتعلق بتحولات طرأت على الواقع المحلي والإقليمي والدولي. فعلى الصعيد الشخصي، تبدو طموحات ساركوزي وكأنها بلا سقف، فمنذ انتخابه رئيسا للدولة، راح، بجسده النحيل وقامته القصيرة وردود أفعاله التي تنم عن ثقة بالنفس تتجاوز حد الغرور وحديثه الذي لا ينقطع عن ضرورات التغيير، يتصرف وكأنه بونابرت جديد أرسلته العناية الإلهية ليعيد لفرنسا مجدها التليد. وعلى الصعيد الموضوعي، يبدو واضحا أن فرنسا تواجه اليوم أوضاعا مستجدة تستدعي المراجعة والتغيير. فقد شهدت الساحة المحلية خلال العامين الماضيين قلاقل واضطرابات سياسية واجتماعية واسعة استدعت نزول الجيش وفرض حالة الطوارئ، كما شهدت الساحة الإقليمية تعثرا في مسيرة الوحدة الأوروبية، بعد رفض التصديق على الدستور الموحد. أما على الصعيد العالمي فتزايدت مخاوف الجميع من الآثار الناجمة عن ما يسمى بالحرب على الإرهاب والتي تنذر باندلاع صراع حقيقي وخطير بين الحضارات. وفي تقديري أن ساركوزي أدرك أكثر من غيره أمرين على جانب كبير من الأهمية، الأول: حاجة الشعب الفرنسي للتغيير، والثاني: استعداد البيئة المحيطة لتقبله إن وجد من يقوده. ولأنه اعتقد نفسه رجل الساعة وراح يدق أبواب التغيير إلى أن فتحت أمامه، فقد اعتبر تصويت الشعب الفرنسي لصالحه بأغلبية مريحة أكثر من 53 في المئة من إجمالي أصوات الناخبين، تفويضا بالشروع في هذا التغيير وقيادته. ويتضح مما طرحه في برنامجه الانتخابي، ومما صرح به خلال حملته الانتخابية وبعدها، ومن المواقف التي اتخذها بعد تنصيبه رئيسا للدولة، أن رؤية ساركوزي للتغيير تتلخص بما يلي: 1- على الصعيد المحلي: يطمح ساركوزي إلى إحداث تغييرات بنيوية واسعة النطاق تستهدف: أ - إعادة بناء سياسات وهياكل وآليات النظام الفرنسي على أسس أكثر كفاءة وفاعلية تستلهم نموذج وتعاليم الليبرالية الاقتصادية على النمط الانغلوساكسوني. ب - إغلاق الباب كليا أمام الهجرة غير الشرعية وفتحه فقط أمام هجرة منتقاة تتناسب واحتياجات فرنسا الاقتصادية والتكنولوجية. ج - إعادة تأهيل ودمج الأجانب المقيمين وفق أسس ومقومات تتفق وأنماط القيم السائدة في المجتمع الفرنسي، ورفع شعار"أحبوا فرنسا أو اتركوها"! 2- وعلى الصعيد الإقليمي: يطمح ساركوزي إلى إدخال تعديلات هيكلية واسعة النطاق على السياسات الأوروبية تستهدف: أ - وقف التوسع في عضوية الاتحاد الأوروبي حفاظاً على هويته باعتباره"نادياً مسيحياً". ب - اتخاذ الاجراءات اللازمة لبناء أوروبا قوية، يقودها رئيس واحد ولها وزير خارجية واحد بدلا من أوروبا بيروقراطية مترهلة، من خلال معاهدة مبسطة يكتفى بتصديق البرلمان عليها من دون حاجة للاستفتاء. ج - إعداد فرنسا لقيادة أوروبا على الصعيدين السياسي والعسكري، وبالتوازي مع تفعيل القاطرة الألمانية الفرنسية. د - إقامة شراكة أورو - متوسطية على أسس جديدة تستوعب وتحتوي الطموحات التركية. 3- وعلى الصعيد العالمي: يطمح ساركوزي إلى إعادة صوغ وتفعيل نظام دولي جديد تلعب فيه فرنسا دورا متميزا من خلال: أ - إزالة الاحتقان المتراكم في العلاقات الفرنسية - الأميركية وبما يسمح ببناء تحالف استراتيجي دائم بين البلدين. ب - اتخاذ الإجراءات اللازمة لاستعادة فرنسا مكانها ومكانتها داخل الهياكل العسكرية لحلف شمال الأطلسي، مع العمل في الوقت نفسه على أن تكون لأوروبا قدرات عسكرية دفاعية مستقلة. ج - بناء نظام عالمي قادر على مواجهة التهديدات والتحديات الجديدة كالإرهاب والهجرة غير الشرعية والتلوث البيئي والأوبئة والأمراض العابرة للقارات وغيرها، من خلال تنسيق أميركي أوروبي نشيط وفعال. بعبارة أخرى يمكن القول إن ساركوزي يريد بناء فرنسا قوية، وأوروبا قوية، ونظام عالمي قوي. غير أن فرنسا لا تكون قوية، من منظوره، إلا بعد تطهيرها من الهجرة غير الشرعية ومن تأثير الفكر الاشتراكي والاجتماعي، وأوروبا لا تكون قوية، من منظوره، إلا حين تتخلص من بيروقراطيتها، وتقودها فرنسا بالتنسيق مع ألمانيا وتخلو من تركيا، والنظام العالمي لا يكون قويا إلا بتناغم فرنسي أميركي وبالارتكاز على حلف شمال أطلسي قوي. وفي تقديري أنه يصعب فهم دلالة هذه الرؤية وما تعنيه، من دون العودة إلى جذور ساركوزي العائلية وسيرته الذاتية. فرجلنا ينتمي إلى عائلة مجرية كانت حصلت على لقب النبل في القرن السابع عشر بقرار من الامبراطور فرديناند الثاني مكافأة لأحد أجداده، وذلك مقابل مشاركته في الحرب ضد تركيا العثمانية. وبعد قيام الجيش الأحمر بتحرير المجر وتنصيب حكومة شيوعية قامت بمصادرة أملاكه، اضطر والد ساركوزي للهرب ليستقر به المطاف في فرنسا ويتزوج هناك من ابنة جراح يهودي اعتنق الكاثوليكية. أما هو، أي ساركوزي الابن، فقام اهله بتربيته تربية كاثوليكية ونشأ وتربى وتلقى تعليمه في باريس، وحصل على اجازة في القانون الخاص من جامعة نانتير الباريسية، ثم مارس مهنة المحاماة لبعض الوقت قبل أن يجذبه العمل السياسي وينشط فيه ويسطع نجمه بسرعة لافتة للنظر. ولأن ساركوزي أصر على الترشح لمنصب الرئاسة رغم عدم حماس شيراك لترشيحه وتفضيل رئيس الحكومة السابق دومينيك دوفيلبان عليه، فقد أدرك أن من الصعب عليه الفوز بهذا المنصب الخطير إلا إذا نجح في استقطاب شريحة مهمة من اليمين الفرنسي الذي اعتاد التصويت للوبي العنصري المتطرف، وضمن في الوقت نفسه دعم يهود الداخل والخارج أيضا. ويبدو أنه تصور أن أسرع الطرق لتحقيق تلك الأهداف يكمن في إبداء مشاعر الاحتقار تجاه العرب والمسلمين وتملق الولاياتالمتحدة وإسرائيل. والحقيقة أنه لم يقصر في ذلك أبداً، بدليل: 1- إطلاق وصف"الرعاع والحثالة"على نشطاء انتفاضة الضواحي في فرنسا، وأغلبهم مهاجرون عرب وأفارقة مسلمون. 2- موافقته أثناء توليه منصب وزير الداخلية على اتخاذ إجراءات نجمت عنها إساءات بالغة لعشرات من العرب والمسلمين العاملين في مطار شارل ديغول عقب صدور كتاب يشكك في ولائهم ويدعي من دون وجه حق أنهم ينتمون لتنظيم"القاعدة"، وهو ما عرف باسم"قضية مساجد رواسي - شارل ديغول". 3- قيامه بزيارة الولاياتالمتحدة بعد عام واحد من حربها العدوانية على العراق، عبر خلالها عن إعجابه بالنموذج الأميركي والتقى بالرئيس بوش الذي أصبح أول المهنئين له بالفوز بمقعد الرئاسة. 4- مبالغته في المطالبة باتخاذ إجراءات عقابية صارمة ضد المعادين للسامية والمشككين في"الهولوكوست"، وإدراج"حزب الله"و"حماس"ضمن المنظمات الإرهابية. ولذلك كله استحق أن تعتبره منظمات صهيونية داخل وخارج فرنسا"مرشحا طبيعيا لليهود"وأن يعتبر نتانياهو فوزه برئاسة فرنسا"هدية من الله لشعب إسرائيل". وفي تقديري أن تلك التصريحات لم تكن مجرد تعبير عن مواقف تكتيكية اقتضتها أسباب ودواع انتخابية، وإنما كانت مواقف متسقة تماما مع جذور ساركوزي العائلية والطبقية، ومن ثم تبدو أكثر تعبيرا عن حقيقة توجهاته. في سياق ما تقدم، وفي ضوء التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الفرنسي حول برنامج إيران النووي، والتي بدا فيها مزايدا حتى على الموقفين الأميركي والإسرائيلي، يتعين على العالمين العربي والإسلامي أن يتوقعا الأسوأ، وأن يتصرفا على أساس أن الفجوة التي اعتادا أن يراها تفصل بين السياستين الأميركية والفرنسية وسمحت لهما في الماضي بهامش مفيد من حرية الحركة، قد تلاشت وفي طريقها لأن تصبح أثرا بعد عين. وللإنصاف، يتعين أن نتذكر أن التغير الذي طرأ على السياسة الفرنسية تجاه قضايا الشرق الأوسط ليس وليد اليوم ولم يحدث فجأة، وإنما بدأ في الواقع في عهد شيراك في اليوم التالي مباشرة لانتهاء الحرب وبداية الاحتلال الأميركي للعراق. فقد سعت فرنسا عقب الحرب لاسترضاء الولاياتالمتحدة والعمل على محو الآثار التي خلفها موقفها في مجلس الأمن قبيل الحرب وتهديدها باستخدام الفيتو للحيلولة دون إضفاء الشرعية على حرب هي في حقيقتها عدوانية. لكن يبدو أن الثمن كان فادحا حيث تعين على فرنسا تقديم تنازلات جوهرية في المقابل. هكذا تحولت الساحة اللبنانية إلى مسرح لتنسيق أميركي فرنسي مشترك أفضى إلى تبني القرار 1559 الذي استخدم في الواقع كآلية لإجبار سورية على الانسحاب من لبنان تمهيدا لنزع سلاح"حزب الله"والفصائل الفلسطينية بعد ذلك. غير أن ذلك التنسيق مهد الطريق لاغتيال رفيق الحريري أولا ثم لارتكاب سلسلة متتالية من الجرائم والاغتيالات وضعت لبنان كله على شفا حرب أهلية جديدة. ومن اللافت للنظر، والغريب أيضا، أن يحرص شيراك على لقاء صديقه سعد الحريري قبيل مغادرته الاليزيه في حضور ساركوزي، السيد الجديد للإليزيه، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الجمهورية الخامسة! مع ذلك، يصعب القول إن سياسة ساركوزي هي مجرد امتداد لسياسة شيراك في طبعتها الأخيرة. فالواقع أن لبنان شكل استثناء لافتا للنظر، ربما بسبب استياء فرنسا البالغ من موقف الرئيس بشار الأسد من قضية التمديد للعماد إميل لحود أو بسبب الصداقة الشخصية العميقة التي ربطت شيراك بالمرحوم رفيق الحريري. غير أن الفجوة بين السياستين الفرنسية والأميركية ظلت على حالها تجاه معظم القضايا الأخرى في المنطقة، خصوصاً القضية الفلسطينية والأزمة الإيرانية الناجمة عن استمرار إيران في برنامجها النووي وإصرارها على تخصيب اليورانيوم. غير أن الموقف الفرنسي الأخير من الأزمة الإيرانية يوحي بأن هذه الفجوة ليست فقط في طريقها للتلاشي، وإنما أيضا بأن فرنسا تهيئ نفسها لدور أكبر وأكثر تشددا ربما يذكرنا بدورها في أزمة السويس عام 1956 أثناء فترة حكم الحزب الاشتراكي. ولأن المساحة المخصصة لهذا المقال توشك على نهايتها، لم يبق لي سوى أن ألفت النظر إلى حقيقتين على جانب كبير من الأهمية. الأولى: أن التحالف الفرنسي الأميركي في هذه المرحلة بالذات من مراحل تطور النظام الدولي لن يكون لمصلحة السلم والاستقرار الدوليين وسيعجل حتما بالصدام بين الحضارات. والثاني: أن فرنسا كانت، وما تزال، هي الطرف الأكثر استفادة من سياسة شرق أوسطية كان أرساها ديغول وسار عليها خلفه. غير أن الضعف العربي بات يغري الآن كل الأطراف للقيام بكل ما من شأنه إهانة العرب وتحقيرهم، وهي على يقين في الوقت نفسه بأنهم لن يردوا. وهنا تكمن المأساة الحقيقية! * كاتب مصري