أتيح لي خلال الاسبوع الاخير من كانون الثاني يناير 1999 ان اشارك في ندوة في جامعة باريس حول السياسة الخارجية الفرنسية، وكنت مكلفاً تقديم صورة هذه السياسة في العالم العربي. واتخذت سياسة ديغول منذ استقلال الجزائر ومواقفه قبيل العدوان الاسرائيلي العام 1967، منطلقاً لتحليل السياسة الفرنسية في هذه المنطقة، والمناطق الاخرى ابتداءً من الجمهورية الخامسة. الا انني لاحظت من الجانب الفرنسي اهتماماً فائقاً بالفكر الديغولي، واحتفالاً علمياً برصيده وباستمرار قناعاته، بغض النظر عما اصاب العالم من تطور، خصوصاً تلك القناعات التي ترى لفرنسا دوراً عالمياً يجب ان تقوم به، وان القطبية او احادية العلاقات الدولية تُضيّق فرص هذا البلد في ذلك الشأن. ولما كان الاحتفال بالسياسة الديغولية في الستينات في العالم العربي يرجع، ليس فقط الى عدالة الموقف الفرنسي في الصراع العربي- الاسرائيلي وتخلص فرنسا من "العامل الاسرائيلي" الذي أعاق باريس عن ان ترى مصالحها على حقيقتها، وانما يرجع ايضاً الى ذلك المزاج السياسي الذي أضفته الناصرية حينذاك على العالم العربي واتفاقها مع الديغولية في رغبة العرب في ان يكون لهم مكان، وفي حقهم في الحرية والتقدم. إذ كان مناسباً في ذلك الوقت ان تبرز امامنا اهمية المقارنة بين الديغولية في فرنسا والناصرية في مصر، خصوصا ان العلاقة بينهما في الستينات كانت محل اهتمام الباحثين والمتابعين وطالبي الدراسات العليا في البلدين، وتقتضي هذه المقارنة ان تستبين بعض الجوانب، وفي مقدمها اتساق النظر الى الديغولية في هذا الوقت الذي ترتفع فيه اجتهادات تقلل من اهمية الدافع الايديولوجي، وهي اجتهادات اثبت الواقع سطحيتها وانحراف قصدها. والبحث في هذه المسائل يتطلب الاجابة عن ثلاثة اسئلة اساسية. السؤال الاول: هل لا تزال الديغولية حقاً بكل جوانبها صالحة للتطبيق في فرنسا؟ والسؤال الثاني: ما مصير الناصرية بجوانبها المختلفة، وما تفسير هذا المصير؟. وأخير: ماذا بقي من كل من الناصرية والديغولية في مصر وفرنسا؟. والحق ان استمرار الديغولية في فرنسا لا يرجع فقط الى شخص ديغول، بمقدار ما يشير الى التمسك بالمبادئ والتطلعات التي تمسك هو بها، فلا أحد يعترض على ان يكون لفرنسا دور عالمي، وعلى ان واشنطن تقاوم هذا الدور، ورغم ذلك فالسياسة الفرنسية لا تعادي واشنطن وإنما تحاول البحث عن دور الى جوارها وليس خلفها في كل الأحوال، ويدرك الفرنسيون ان السبيل الى ذلك هو بناء اوروبا الموحدة وقاطرتها فرنسا، وتحرير بريطانيا والمانيا من العقدة الخاصة في علاقاتها بالولاياتالمتحدة. صحيح ان الولاياتالمتحدة هي التي حسمت الحرب الثانية لمصلحة الغرب، وهي التي اقالت اوروبا بمشروع مارشال من عثرتها بعدما تعهدت تحريرها من الاحتلال الالماني، واذا كان هذا العمل الاميركي موضع عرفان من فرنسا، فإن هذا العرفان لا يستتبع ذوبان فرنسا في الامبراطورية الاميركية. ولعل ما نراه من تخبط او غموض او غياب للسياسة الفرنسية في مناطق العالم المختلفة هو حصلية الصراع بين الفاعلين او المحددين الرئيسيين: الإصرار على دور عالمي، مقابل القوى المعاكسة لتمام هذا الدور، تبيّن ان الفرنسيين يؤمنون الآن بصحة المنطلقات الديغولية المنسجمة مع التطلعات الفرنسية ومصالح فرنسا في العالم، خصوصاً مع العالم العربي، دليل ذلك هو ثبات الخط الفرنسي بل وتعمقه منذ ديغول حتى الآن، رغم ان جيسكار ديستان كان مناهضاً للديغولية، ورغم تاريخ الاشتراكيين وتعاطفهم مع اسرائيل، ما يقطع بأن العواطف لا تنسجم في كل الاحوال مع المصالح الفعلية من موقع السلطة والمسؤولية. وخلاصة القول في هذه المنطقة الديغولية بكل منظومتها الفكرية لا تزال مزدهرة في فرنسا خصوصاً في العلاقات الخارجية مع فارق واحد وهو القبول بمشاطرة السلطة بين الرئيس وشركائه السياسيين المعروف بنظام "التعايش" Co-habitation ، فالرئيس ينتمي الى الديغولية الجديدة، بينما ينتمي رئيس الوزراء ووزير الخارجية الى التيار الاشتراكي الذي يصنف الديغولية على انها في صفوف يمين الوسط. وهذه التصنيفات لم تعد صالحة في عالم انتهت فيه مفاهيم اليمين واليسار وتحولت عن المقاييس التقليدية في العالم كله، منذ ان ظهرت مصطلحات اليمين واليسار في القرن الثامن عشر. ولعل السبب في ازدهار الديغولية هو تلك التحديات التي تواجهها فرنسا بسبب تحول النظام الدولي، فقد رفض ديغول نظام الثنائية حتى لا ينخرط مع القيادة الاميركية، فما بال واشنطن تصبح على قمة النظام الدولي، من دون منازع ويصفها الفرنسيون بأنها القوة الأعظم في كل شيء، وان العلاقة معها تتصف بالصداقة والتحالف وليس الائتلاف. ولكن الفرنسيين يلاحظون انهم يبالغون في السعي الى طموحات عالمية لا تتفق مع قدراتهم، فشتان بين القدرات الاقتصادية والسكانية للبلدين، وانه اذا كانت الديغولية ركزت على معايير المكانة المتصلة بالثقافة والتاريخ الحضاري، وأن تركيزه على السياسة المتوسطية، والتعامل مع اصحاب الحضارات، فليس ذلك عندنا الا ضرباً من التخفيف من اهمية القوة الاميركية. وعلى الجانب العربي، فلا شك ان رحيل عبدالناصر العام 1970 ورحيل ديغول السياسي ثم الفعلي كانا متماثلين مع خلاف في المضمون، فقد هزمت الناصرية عام 1967، بينما اشار استفتاء 1968 الى تحول الفرنسيين عن الديغولية . ثم جاء السادات نقيضاً للسياسات الناصرية، وإن لم يكن بالضرورة منفلتاً من مبادئها العامة، وهي التحرر الوطني للعرب وليس لمصر وحدها، والعدالة الاجتماعية، وأن يكون للعرب مكان على خريطة العالم، وهي المبادئ الديغولية نفسها، ثم ان تكون كلمة الحاكم هي القانون من دون حاجة الى تشريع ومؤسسات، ما دام يتمتع بكاريزمية تجعل شرعيته من الشارع، وليست شرعية دستورية تستند الى اتباع احكام الدستور ولو من الناحية الشكلية، وكان ديغول هو الآخر شخصية كاريزمية ولكن من دون ان يحل نفسه محل القوانين والمؤسسات، ولا شك أن التعاصر بين الناصرية حتى 1967 والديغولية حتى تظاهرات الطلبة العام 1968، جعل للمقارنة معنى، كما ان إحياء الديغولية بمفهومها الجديد في فرنسا بعد مضي ثلاثين عاماً على اختفاء ديغول، يطرح أيضاً السؤال عن مصير الناصرية، من دون ان يعني ذلك بالضرورة البحث عن فرص إعادة او استرجاع المبادئ الناصرية مرة اخرى. الواقع ان الخلاف شديد بين المفكرين حتى حول مجرد عقد مقارنة بين الناصرية والديغولية، ناهيك عن البحث عن استرجاعها، والسبب في ذلك هو تنوع المدارس الفكرية والايديولوجية في العالم العربي واختلاف مواقفها، فالثابت ان الناصرية ليست اولاً واضحة القسمات في الداخل والخارج، كما هي حال الديغولية التي حفلت الدراسات الفرنسية بتأصيلها والتي اعتبرت الديغولية انقاذاً لفرنسا، رجل اوروبا المريض في ذلك الوقت وطوال الجمهورية الرابعة، واستعادة لوجه فرنسا المشرق الحضاري. واذا كانت الديغولية عمقت حكم المؤسسات بدستور 1958، فإن الناصرية - في نظر البعض - قمعت حكم الفرد بذرائع شتى، وحولت بقايا مصر الليبرالية الى اشباح جوفاء. فمن المفكرين من نظر الى سلبيات الناصرية في حياة مصر المعاصرة في شقها الاجتماعي وما يتصل فيه بالحريات العامة، فأنكر الناصرية من أساسها، ومنهم من اكتفى منها بالمبادئ المعلنة التي اشرنا اليها، وإن لم تفلح في تحقيق الكثير منها. بقي ان نشير الى ان الناصرية، وإن لم تصمد في مصر والعالم العربي سواء في شقها السلبي او الإيجابي لظروف اقليمية ودولية كثيرة، شكلت مع الديغولية رموزاً لتحدي الهيمنة الخارجية والسعي الى تحقيق الذات الوطنية، وهي بهذا المعنى امتداد للروح القومية، ولذلك لا يمكن استباق الحكم بزوالهما من الوجدان او الذاكرة مطلقاً وأن الظهور والانحسار في فترة او اخرى يخضع لعوامل مختلفة محلية وعالمية، ولكن الجديد في بحث من هذا النوع هو ان الأمم تستعيد تاريخها ليس انطلاقاً من حنينها الى الماضي مهما كان بليداً او جائراً، ولكن لأن النظرة الصائبة المتفقة مع المصلحة القومية قد تتطلب ذلك. ونشير أخيراً إلى ان البعض في العالم العربي وفرنسا يعتقد ان أحد أركان العلاقات الفرنسية - العربية المزدهرة هو التماثل بين الديغولية الجديدة التي يمثلها شيراك، والناصرية الجديدة التي يمثلها مبارك، وإن كان الرئيس مبارك نفسه اكد في كل مناسبة ان لعصره طابعه الخاص، وانه ليس ناصرياً ولا ساداتياً، وإنما هو مبارك بنفسه وبممارساته، والغريب أن هذا هو موقف الرئيس شيراك نفسه، فهل هذه مصادفة، ام دوران غير مقصود لعجلة التاريخ؟! * كاتب مصري.