في شباط فبراير 2006 أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش إنشاء"الشراكة العالمية للطاقة النووية"، التي تقضي بتقسيم العالم الى دول يحق لها تخصيب اليورانيوم وتصنيع الوقود النووي وإعادة تصنيع مخلفاته، ودول لا تملك هذا الحق. ووسط ردود الفعل العالمية المتباينة، أعلنت دول عربية عزمها على الانخراط في السباق النووي لبناء محطات نووية لتوليد الكهرباء أو لتحلية المياه. في مطلع العام 2000 عهد الرئيس الأميركي الى نائبه ديك تشيني بتشكيل مجموعة عمل لإعداد سياسة جديدة للطاقة في الولاياتالمتحدة. وقد صدرت هذه السياسة في أيار مايو 2001، عقب اعلان الإدارة الأميركية في 28 آذار مارس 2001 انسحابها من بروتوكول كيوتو بحجة تداعياته على الاقتصاد الأميركي وغموض آليات تنفيذه. لم يكن تزامن الحدثين من قبيل الصدفة، بل جاء كلاهما في محاولة إيجاد مخرج من عدة مشكلات تواجهها الإدارة الأميركية في مجال الطاقة والبيئة: أولاً، كانت الولاياتالمتحدة قد وقعت على بروتوكول كيوتو في 1997، وهو يلزم الدول الصناعية بخفض اجمالي انبعاثات غازات الاحتباس الحراري منها بنسبة 5 في المئة على الأقل تحت مستويات 1990، بين 2008 2012، ولكن المحافظين الجدد وأعوانهم من كبار الرأسماليين لم يرق لهم الالتزام بهذا البروتوكول، فأقنعوا الرئيس جورج بوش باعداد سياسة جديدة للطاقة تشجع استغلال المصادر البديلة، ومنها الطاقة النووية، والإنسحاب من بروتوكول كيوتو لحماية مصالحهم. ثانياً، تواجه الولاياتالمتحدة أزمة متصاعدة في توليد الكهرباء، إذ يوجد في أميركا حالياً 103 محطات للطاقة النووية تولد ما يقرب من 19 في المئة من الكهرباء اجمالي ما شيد من مفاعلات في المحطات النووية كان 132، اغلق منها 29 مفاعلاً. ولكن من المتوقع أن ينتهي العمر الافتراضي لنحو 10 في المئة من هذه المفاعلات بحلول سنة 2010، ونحو 40 في المئة منها بحلول سنة 2015، إذ ان معظم المفاعلات النووية لتوليد الكهرباء في أميركا شيدت في فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي. وبمعنى آخر، ينبغي البدء من الآن في بناء نحو 20 محطة نووية في أميركا لتلافي النقص الحاد في توليد الكهرباء الذي قد يحدث بحلول سنة 2015. ويذكر أن بناء المحطة النووية في أميركا يستغرق نحو عشرة أعوام. ثالثاً، تواجه الصناعة النووية في أميركا، كما في اوروبا، ركوداً حاداً منذ ما يقرب من ثلاثة عقود. ففي الولاياتالمتحدة لم يتم التعاقد على بناء محطة نووية واحدة بعد حادث"ثري مايل أيلاند"في هاريسبورغ ببنسيلفانيا في 28 آذار مارس 1979، والمحطات التي دخلت الخدمة في الثمانينات والتسعينات كانت تحت الانشاء وتأخر تشييدها لعدة اعوام في ضوء مراجعة اجراءات ونظم الأمان بعد الحادث. بعد إصدار السياسة القومية للطاقة في 2001 اتخذت الاجراءات لتحويلها الى قانون لضمان تنفيذها. وبالفعل عرض قانون سياسة الطاقة على الكونغرس وتمت الموافقة عليه في 29 تموز يوليو 2005، وهو ما عرف بالقانون رقم ذج 901-85، الذي وقعه الرئيس جورج بوش في 8 آب اغسطس 2005. وقد لقي هذا القانون معارضة من عدد من أعضاء الكونغرس، خاصة في ما يتعلق بالدعم الموجه للطاقة النووية، الذي يصل الى أكثر من 4 بلايين دولار، وهو أكثر من ضعف الدعم الموجه لاستغلال مصادر الطاقة المتجددة. وكان هذا مؤشراً على اتجاه الادارة الأميركية نحو انعاش سوق الطاقة النووية. التحالف النووي الدولي منذ صدور قانون سياسة الطاقة تسارعت الأحداث. ففي شباط فبراير 2006 أعلن الرئيس بوش"مبادرة الطاقة المتقدمة"التي هي في الواقع تدشين لهذا القانون. وفي الشهر نفسه أعلن بوش عن إنشاء"الشراكة العالمية للطاقة النووية"Global Nuclear Energy Partnership, GNEP، أو بمعنى آخر"التحالف الدولي للطاقة النووية". ويقضي هذا التحالف بتقسيم العالم الى دول لديها برامج متقدمة للطاقة النووية، اطلق عليها"دول دورة الوقود النووي"، أو الدول الموردة للوقود النووي، وهي الدول التي لها الحق في تخصيب اليورانيوم، وتصنيع الوقود النووي، واعادة تصنيع المخلفات النووية العالية الاشعاعية المعروفة ب"الوقود المستنفد"spent fuel reprocessing. اما الدول الأخرى الراغبة في اقتناء الطاقة النووية فهي الدول"المستقبلة للوقود النووي"، وليس لها الحق في تخصيب اليورانيوم، أو تصنيع الوقود النووي، أو في اعادة تصنيع مخلفاته. بمقتضى هذا النظام العالمي الجديد، تقوم الدولة النامية الراغبة في تشييد محطات للطاقة للنووية بالتوقيع على اتفاق مع"التحالف النووي الدولي"للحصول على الوقود النووي اللازم لتشغيل المحطات. وفي المقابل لا تقوم ببناء أية منشآت لتخصيب اليورانيوم، او تصنيع الوقود النووي، أو اعادة تصنيع الوقود المستنفد، وعليها ان ترسل هذا الوقود المستنفد الى دول التحالف النووي التي ستقوم باعادة تصنيعه في مراكزها المحددة. قدرت الأكاديمية الوطنية للعلوم في أميركا تكاليف انشاء هذه المراكز بما بين 50 و100 بليون دولار. وقد سارعت الإدارة الأميركية الى تعيين بول ليزوفسكي من وزارة الطاقة الأميركية لإدارة الشراكة العالمية للطاقة النووية اعتباراً من آب اغسطس 2006. وحتى الآن لم تعلن أي دولة من الدول المقترحة لعضوية هذا التحالف موقفها الرسمي منه. لقد قوبل اعلان انشاء الشراكة العالمية للطاقة النووية بردود فعل متباينة، معظمها سلبي. ففي ذكرى حادثة تشيرنوبيل يوم 7 نيسان ابريل 2006 أوضح ميخائيل غورباتشوف أن"الطاقة النووية ليست الحل لمشكلات الطاقة في العالم، أو لتحديات تغيرات المناخ، كما يسوق البعض. فحل هذه المشكلات لا يكون بايجاد مشكلات أخرى تهدد الأمن الاقتصادي والاجتماعي والبيئي العالمي". ووجه غورباتشوف نداء لمجموعة دول الثمانية لخفض الدعم الذي تمنحه للصناعة النووية والبترولية، وتخصيص 50 بليون دولار منه لتنمية مصادر الطاقة المتجددة وفي مقدمتها الطاقة الشمسية. أما علماء الذرة في الهند فاعتبروا ان هذه الشراكة أو التحالف النووي الدولي خطة شيطانية لفرض الوصاية على الآخرين. فمجموعة التحالف النووي سوف تمنح لنفسها حق التحكم في أجزاء من دورة الوقود النووي، وهي بذلك تفرض أسعار الوقود وتتحكم في امداداته، كما انها تنتهك الحقوق المشروعة للدول الأخرى في اقتناء ما تراه مناسباً لها من تكنولوجيات. وتجدر الاشارة هنا الى ان الادارة الأميركية قامت بطريقة مباشرة وغير مباشرة بجس النبض في عدد من الدول، قبل الاعلان عن انشاء هذه الشراكة الدولية. كما قامت بترغيب بعض الدول، التي تعتبرها من"الدول الصديقة"، بعدم ممانعتها انشاء محطات نووية فيها. إذاً فالأهداف المعلنة للشراكة العالمية للطاقة النووية هي نشر الطاقة النووية على الطريقة الأميركية. أما الأهداف غير المعلنة، وهي الأهم، فهي محاصرة واغراء الدول التي تعتبرها الولاياتالمتحدة"مارقة"، للسيطرة على ملفاتها النووية بعد أن فشل أسلوب التهديد بالعقوبات. وسجلّ العلاقات بين أميركا والهند شاهد على ذلك. فبعد فشل أسلوب"العصا"سعت أميركا الى اتباع اسلوب"الجزرة"، بابرام اتفاق تعاون نووي مع الهند وافق عليه الكونغرس الأميركي مؤخراً. ولكن هل ستقبل الهند، التي لديها تكنولوجيا تصنيع الوقود النووي واعادة تصنيع الوقود المستنفد، أن تلتزم بشروط الشراكة العالمية للطاقة النووية التي تضعها في عداد الدول المستقبلة للوقود النووي؟ وكيف يمكن التعامل مع الهند التي لم توقع على معاهدة الحد من الانتشار النووي؟ أليست هذه بداية التعامل بمعايير مزدوجة تهدد بفشل خطة الشراكة الدولية للطاقة النووية، حتى قبل أن يبدأ العمل بها؟ وماذا عن الانتشار النووي التي سيحدث نتيجة النظام الدولي الجديد الذي وضعته أميركا؟ هل هي محاولة لإعادة صياغة معاهدة الحد من الانتشار النووي التي تعتبرها الولاياتالمتحدة غير ذات فعالية ولا تحقق أهدافها؟ اما القول بأن الطاقة النووية هي احدى الوسائل الفعالة للحد من انبعاثات غازات الدفيئة greenhouse gases التي قد تتسبب في التغيرات المناخية المحتملة، فهو قول يجانبه الصواب. فتوليد الكهرباء على مستوى العالم لا يشكل سوى 9 في المئة فقط من انبعاثات غازات الدفيئة. وتوجد حالياً 442 محطة نووية لتوليد الكهرباء في العالم تشكل الطاقة المنتجة منها 5 في المئة فقط من احتياجات الطاقة الأولية في العالم. ولمضاعفة هذه النسبة خلال ربع القرن القادم، يجب زيادة عدد المحطات النووية في العالم الى ما يقرب من 1320 محطة خلال هذه الفترة. ومعنى ذلك انه يجب ان يدخل مفاعل واحد الخدمة كل أسبوع اعتباراً من 2007، على أساس ان تشييد المحطة النووية يستغرق عشرة أعوام في أحسن الحالات. فهل هذا ممكن عملياً؟ وما هي كلفته؟ وحتى بهذا السيناريو، فلن يتحقق سوى خفض ضئيل في انبعاثات ثاني اوكسيد الكربون على مستوى العالم خلال هذه الفترة. ولقد سبق ان أوضحت تقارير المجموعة الدولية لدراسات المناخ IPCC ان مثل هذه الزيادة في عدد المحطات النووية سوف يصاحبه تراكم كبير في كميات المخلفات النووية العالية الإشعاعية قد تصل الى 200 ألف متر مكعب بحلول سنة 2100. وسوف يكون هناك ما يقرب من 50 الى 100 مليون كيلوغرام من البلوتونيوم، مما سيشكل تهديداً بيئياً خطيراً على مستوى العالم تكفي عشرة كيلوغرامات من البلوتونيوم لصنع قنبلة تدمر مدينة بكاملها. هل هذا الحل، بمخاطره الاقتصادية والأمنية والبيئية على المستوى العالمي، هو أحد الحلول التي ترى الادارة الأميركية تبنّيها لخفض انبعاثات ثاني اوكسيد الكربون؟ الطاقة النووية حول العالم في عام 1978 كان عدد المفاعلات النووية لتوليد الكهرباء في العالم 227 مفاعلاً طاقتها الاجمالية 111 جيغاواط، وكانت تنتج نحو 6 في المئة من الكهرباء على مستوى العالم. وفي ذلك الوقت، وضعت سيناريوهات مختلفة لمستقبل الطاقة النووية، كان احدها للوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي توقعت ان تكون الطاقة الاجمالية للمفاعلات النووية في العالم عام 2000 بين 1100 و1700 جيغاواط، تنتج ما بين 20 و26 في المئة من الكهرباء في العالم. ولكن هذا السيناريو لم يتحقق، حيث ان الطاقة النووية واجهت صعوبات كثيرة متشعبة منذ السبعينات، كارتفاع التكاليف الرأسمالية وتكاليف التشغيل ومشكلات الأمان، خاصة في أعقاب حوادث ثري مايل ايلاند وتشيرنوبيل، إضافة إلى قضايا ادارة المخلفات النووية العالية الاشعاعية وتنامي المعارضة الشعبية لانتشار المحطات النووية وغيرها من منشآت نووية خاصة في بعض البلدان الأوروبية. ويوجد حالياً 442 مفاعلاً في 30 دولة سعتها الاجمالية 371 جيغاواط تولد نحو 16 في المئة من الكهرباء في العالم. وهناك 28 مفاعلاً تحت الانشاء في 12 دولة، منها 15 مفاعلاً في الدول الآسيوية. وطبقاً لأحدث سيناريو وضعه الاتحاد الدولي النووي فمن المتوقع زيادة قدرة المحطات النووية الى 524 جيغاواط بحلول سنة ،2030 أي بزيادة 154 جيغاواط عن القدرة الاجمالية الحالية. ومعظم هذه الزيادة ستكون في الدول الآسيوية، غالباً خارج سيطرة التحالف الدولي النووي الذي أنشأه الرئيس بوش. العرب في السباق ما أن أعطت الادارة الأميركية الضوء الأخضر باعلان انشاء نظام الشراكة العالمية للطاقة النووية، حتى سارعت بعض الدول العربية، في طليعتها الجزائر ومصر والمغرب وتونس والامارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، الى اعلان عزمها بناء محطات نووية لتوليد الكهرباء أو لتحلية المياه. وكان مجلس التعاون لدول الخليج العربية أعلن عقب قمته الأخيرة التي عقدت في الرياض في كانون الأول ديسمبر 2006 عن خطة مشتركة لتطوير القدرة النووية. وتردد مؤخراً ان اليمن وموريتانيا تفكران أيضاً في ذلك. وفي الوقت نفسه، أعلن ان اسرائيل تنوي بناء محطة للطاقة النووية بقدرة 1200 ميغاواط، ويتردد انها ستقام على البحر الميت، لتكون مرتبطة بمشروع الشراكة الخاص بالقناة المقترحة التي ستصل البحر الأحمر بالبحر الميت. أي أن المحطة النووية قد تقام كمشروع مشترك مع الأردن. هذا يطرح تساؤلات كثيرة. فهل القضية هي محاكاة ايران في المجال النووي؟ قد لا يكون هذا واقعياً، لأن ايران اكتسبت الخبرات وشيدت المنشآت الخاصة بدورة الوقود النووي، من التخصيب إلى تصنيع الوقود، وهذا لا يبدو وارداً بالنسبة للدول العربية الآن. أم أن القضية هي مجرد امتلاك المحطات النووية، حتى ولو"تسليم مفتاح"، ويديرها الأجانب من الألف إلى الياء؟ ربما يصح هذا بالنسبة لبعض الدول الغنية، التي لا تعاني أي مشكلة بالنسبة لموارد الطاقة والقادرة على دفع بلايين الدولارات لبناء هذه المحطات وتشغيلها. أما بالنسبة للدول المتوسطة والمنخفضة الدخل، فالأمر يحتاج الى التريث والى دراسات متعمقة تطرح البدائل الممكنة التي لا ترهق الاقتصاد القومي وتساعد على التنمية المستدامة وحماية البيئة. فالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لهذه الدول لا تسمح لها بتحمل التكاليف الباهظة لمثل هذه المغامرات غير المحسوبة، خاصة في حال وقوع حادث، مهما كانت احتمالاته ضئيلة. فعلينا ان نتذكر ان حادث"ثري مايل ايلاند"بلغت تكاليفه نحو 4 بلايين دولار، وحادث تشيرنوبيل بلغت تكاليفه أكثر من 20 بليون دولار. وينصح الخبراء بالتروي والتفكير قليلاً بعيداً عن السياسة وردات الفعل عند وضع استراتيجيات التنمية والتكنولوجيا والبحث العلمي. * ينشر بالتزامن مع مجلة"البيئة والتنمية"عدد كانون الثاني يناير 2007 {