الخميس 25 كانون الثاني يناير 2007، الحادية عشرة ليلاً. شوارع بيروت فارغة. تقطع تحت مصابيح الكهرباء البرتقالية. حواجز جيش. سيارات عسكرية. ممنوع التجول هذه الليلة. الجيش أصدر بياناً. وسائل الإعلام تذيع البيان الرسمي كل ربع ساعة. التجول ممنوع في محافظة بيروت من الپ8.30 مساء الى السادسة صباحاً. تسلك طرقات فرعية. لا أحد في الطرقات. الريح تصفر في عبدالوهاب الإنكليزي. كلاب تنبح في بورة وراء بناية. نباحها لا يشبه عواء الذئاب. هذه ليست غابة. البنايات ليست شجراً ملتفاً. زوايا الطرقات تعرفها. هذا الزقاق ليس دغلاً. لن تهجم ثعابين عليك من وراء المتجر. الرصيف رطب. ماء ينبع من تحت البلاط. الإسفلت انتفخ. تعرف هذه الدروب. منذ سنوات تقطع الدروب ذاتها. تحفظ واجهات المتاجر. تحصي الأشجار. البرتقالات في مونو. السروات في بلس. الكينا في السيوفي. من يسقي هذا الشجر؟ الغيوم تسقي الشجر. لا مطر هذه الليلة. لا بشر في طرقات المدينة. الناس اختفوا في البيوت. كان النهار طويلاً. يوم الثلثاء تباعدت الحرائق في شوارع المدينة. يوم الأربعاء غطى السواد الشرفات والسيارات والمكاتب. الورقة البيضاء على المكتب تغطت بالأسود. هذا ليس مطراً. التلوث ارتفعت نسبته. اشربوا حليباً. الحليب ينفع. يحمي من الربو. اشربوا حليباً. الدخان يرتفع على تقاطع مونو - طريق الشام. الدخان يرتفع صباح الأربعاء وشغيلة ورشة مجاورة ينظفون الطريق بخراطيم ماء. ثم تغيب الشمس. ويبدأ الخميس. يشتبكون. هل يهمك أيها القارئ القاعد وراء البحر السبب؟ يشتبكون. نقطة على السطر. ليلاً مُنع التجول. جاوزت الساعة منتصف الليل. من النافذة ترى المدينة هاجعة. هذا الصمت لا يُصدق. لا سيارات تقطع الشارع. لا تلفزيونات عالية الصوت. لا حفلات. لا تظاهرات. لا أعراس. لا موسيقى. لا ضجة. هذا الصمت لا يصدق. مع أنك في مدينة. هذه ليست غابة. المفروض أن بيروت مدينة على حافة البحر كثافتها السكانية عالية. أين الناس؟ التجول ممنوع. الناس في البيوت. الصمت كامل. أقفلوا الأبواب وأقفلوا النوافذ. النبيه يستغل الفرصة وينام في هذه الليلة. المدينة نائمة ولا أحد يلطم أحداً. لكنها مدينة مقسومة نصفين. والنصف الثالث؟ النصف الثالث موجود. الساكتون بلا وزن؟ لعلهم بلا وزن. لعلهم العمود السري. من يمنع كبريتاً وناراً عن البيوت؟"خمسون باراً"تكوين 18. هل ينامون هذه الليلة؟ صديقك قال هذا الصباح:"أصل البلاء الجغرافيا". هل قال هذا؟ صعب أن تولد في هذه البلاد وتحيا حياة هادئة. المشكلة ليست في البشر. المشكلة في الموقع. هل هذا دقيق؟ ابن خلدون لن يفصل بين العنصرين. هل يفصل؟ ابن خلدون ليس هنا. حظه طيب. لا، ليس طيباً. تعذب ابن خلدون. عاش حياة صعبة. في هذه الليلة، ناظراً الى المدينة الهاجعة، ترى ابن خلدون جالساً على حافة البحر. لا يراه أحد. البحر أسود ضارب الى خضرة. الناس في البيوت. الجنود في المعاطف الواقية. هواء الليل بارد. مع أن الطقس هذه الليلة مقبول. وقبل لحظة هبّ النسيم دافئاً. لكن طقس بيروت غير متوقع. المدينة ارتفعت على رأسٍ يتوغل في البحر. معلقة بين عالمين. اذا هبّ هواء البحر يقرصها برد الشمال. المصاب بداء المفاصل يتعذب. الروماتيزم فظيع. النقرس أيضاً. معك نقرس؟ لا تأكل عصافير مشوية. الدهن لا ينفع. معك روماتيزم؟ عليك بالصوف. الصوف حماية. اذا كان الصوف مصدراً للحساسية فهذه مشكلة أخرى. الأمراض تحاصرنا. لا ضرورة للأمراض الآن. المدينة نائمة. لن نمرض ونحن نيام. المدينة تهذي وهي نائمة. ماذا ترى المدينة الهاجعة كفقمة على شط البحر؟ ترى كابوساً؟ ترى الماضي أم الحاضر أم المستقبل؟ ابن خلدون يقعد على شط برج حمود، غير بعيد من الجبل المغطى بالأخضر. ماذا يفكر؟ المدينة مقسومة العواطف. الناس توزعوا على خندقين، على ثلاثة خنادق، على عددٍ غير محددٍ من الخنادق، المهم أنهم تخندقوا. متاريس الرمل تنفع. السيارات المحروقة تنفع. الجسور تنفع. الأحياء تنفع. البنايات العالية تنفع. تنفع من؟ وتنفع لماذا؟ هذا غير محدد. الغموض يلف البلد. عيون برج المرّ تحدق مظلمة، عمياء، الى المدينة. أين نمضي؟ التعبئة، التعبئة. الجميع ضد الجميع. الناس تخندقوا. هل يعود الوقت الأسود؟ نقطع المدينة قُطعاً صباح غدٍ؟ نرسم خطوط التماس ونسكن أطلال الهوليداي إن؟ ننتظر يومين بعد؟ ننتظر أسبوعاً؟ لكن لِمَ الانتظار؟ الانتظار يعذب. التوتر. الترقب. المعدة يجرحها الهمّ. تُصاب بالقرحة. القرحة مشكلة. عليك أن تتجنب الحوامض بعدها. الفول المدمس يؤذيك. البابا غنوج يؤذيك. التبولة تؤذي. البندورة تؤذي. متبل الحمص بالطحينة يؤذي. الفتة بالحمص واللبن تؤذي. هذه مشكلة. لماذا أقفل"بلادور"أبوابه؟ ابن خلدون لم يأكل فولاً مدمساً في بيروت يوماً. عاش قبل قرون وأحبّ الطعام المغربي. من يعرف طعام ابن خلدون المفضل؟ هل أحب البيض المقلي؟ أحب الصيادية والسمكة الحرّة؟ بيروت نائمة. الطرقات فارغة. الهواء بارد لحظة، مقبول في لحظة أخرى. عند النوم يبدو السلم شاملاً. هذه مدينة لم تعرف الحرب يوماً. اسمعوا هذا الصمت الحلو. هل المدينة مهجورة؟ الجيش منع التجول منذ الپ8.30. أين الناس؟ لعلهم ركبوا البحر وهاجروا. أين يذهبون؟ قبرص صغيرة. لن تتسع قبرص. في بافوس تنام امرأة بيضاء يعرفها هوميروس. بافوس صغيرة. أين يذهبون؟ قمر خيالي يبرم في السماء، يطلّ كالشمس من وراء جبل صنين، قمر أصفر مدوّر كرغيف الخبز. ميخائيل نعيمة ليس معنا هذه الليلة. ناسك الشخروب غير مولع بالمدن وزحمة المدن ومشاكل المدن. لم يحبّ نيويورك. لم يحبّ موسكو. الشخروب أحلى. يقعد بين صخور وأشجار، يأكل زيتوناً ولبنة، يأكل زيتاً وزعتراً، يشرب شاياً محلى بعسل النحل، ويشكر ربّه على النعمة. ليس جبران. جبران ليس معنا هذه الليلة. الوقت مضى. الوقت يمضي طوال الوقت. الوقت وقت. العظم يرقّ. العظم يشفّ. يصير زجاجاً. يصير غباراً. رجل دخل البحر قبل أيام كي يصيد سمكاً. ركب شختورة من شط الأوزاعي ودخل الى عرض البحر. هنا، في عرض البحر، البرد قارس. ترجف لابساً المعطف فوق كنزة الصوف، ترجف كأنك في براد موتى. الوقت غروب، نحن في الأيام الأخيرة من 2006، والبحر يتحول صفحة زجاج رقراقة برتقالية. تصيد سمكاً بأربع صنارات دفعة واحدة. السمك كثير هنا، ليس كالسمك عند الشط. لكن هذا البرد يقتل! وهذا الصمت الكامل! تلمع نقط الضوء على صفحة البحر، المساء يهبط على مهل. من هنا ترى المدينة كأنها تحترق. نور الغروب ينعكس في زجاج العمارات، يتوهج أصفر وأحمر. كأن بيروت تحترق. لكن بلا دخان. وأنت عائد الى الشط ترى مصابيح الكهرباء تضاء وترى أنوار المطار. تسمع أصوات المدينة تدنو: السيارات تعبر الطريق البحري. امرأة تصيح على امرأة. صوت البشر حلو. لا يعرف الواحد كم يحبّ البشر حتى يضع بحراً بينه وبينهم. ابن خلدون جلس وحيداً بينما يكتب. لكنه لم يتنسك. رأى فظائع. لكنه لم يتنسك. خسر كثيراً. لكنه لم يتنسك. رأى سفينة تنكسر في عرض البحر. سفينة فيها زوجته، سفينة فيها أولاده. لم يتنسك. من يعرف ابن خلدون؟ ماذا أعطى ابن خلدون للطاغية الآتي من وراء الجبال؟ هل أعطاه حلاوة؟ من أعطى الآخر؟ أي صنف من الحلاوة الطحينية أعطاه؟ كيف كان طعمها؟ أعطاه حلاوة أم راحة الحلقوم؟ هذه السطور فيها مدينة نائمة على شط البحر. فيها منع تجول وأطعمة وأمراض. ماذا يكون التاريخ العاطفي للمدينة النائمة؟ ماذا يجمع سكان هذه المدينة؟ وماذا يُفرقهم؟ يحبّون البطاطا المقلية ويحبون الكبّة ويحبّون الفتوش ويحبّون الدجاج المحشي زراً. أي مشروبات يفضلون؟ أي حلويات؟ البقلاوة أم المعمول أم الكاتوه الإسفنجي؟ كلنا نأكل مناقيش صباحاً. مناقيش بزعتر، بكشك، بزعتر وجبنة كوكتيل. نحبّ اللحم بعجين. نحبّ الجبنة والسبانخ الحشوة سلق عموماً، لكن نقول"سبانخ". هذا طعام الصباح. واذا كان ضرسك حلواً تأكل كنافة بجبن، أو كعكاً وسحلباً. ماذا يجمعنا؟ طعامنا وأمراضنا. نحبّ الماء. جسم الإنسان - وهذا مكتوب على قناني"صحة"وپ"ريم"وپ"مارو"وپ"ندى"وپ"صنين"وپ"نستلة"- نصفه ماء."المياه مصدر الحياة. تشكل أكثر من 60 في المئة من جسم الإنسان". الماء يجمعنا. وهذا الدم الذي يدور في الشرايين، يدور دورته المقفلة، حتى نقطع في اللحم جرحاً فيتدفق الدم على الزفت. هل نرى المنامات ذاتها؟ الكوابيس ذاتها؟ هل بعضنا يحبّ الوقت الأسود والآخر يفضل الضحك والبهجة والكوسى وورق العنب؟ المفروض أننا كلّنا نحبّ الكوسى وورق العنب. وحتى لو كنت تكره الكوسى فأنت لن تحسب آكل الكوسى عدوك. الحياة طيبة في المدينة النائمة. تاريخها العاطفي غير مضطرب. الخير عام. براءة الأطفال تخيم على وجوهنا. لا أحد يكره أحداً. الحقد غير موجود. لا ينفع الحقد أحداً. ماذا قال ناسك الشخروب؟ الحقد يأكل صاحبه. أين ناسك الشخروب؟ الوقت يمضي. لا أحد يسمع أحداً. هذه ليست بلاد أفلاطون. العالم تطور. المثاليات وقعت. الجغرافيا أصل البلاء. الوقت الأسود يعود إذاً؟ المدينة علقت في عين الإعصار؟ علقت في ظلمة الدائرة؟ هذا ليس أكيداً. لعل العاصفة تقطع فوق الرؤوس. البحر يبدو مظلماً هذه الليلة. المدينة هاجعة. لكننا لا نسمع رعداً. المدينة تنام. ماذا ترى وهي نائمة؟ أبيض الثلج يكلّل صنين. ثلج ناصع البياض يملأ القلب أملاً. حتى في الليل ترى - من البعيد البعيد - هذا الثلج الناصع الأبيض.