بلاد تُقصف. موت يطارد البشر. أين يهربون؟ نصف مليون نازح من الجنوب، بحسب الأممالمتحدة، نصف مليون نازح في 11 يوماً. بيروت امتلأت نازحين. الجبل امتلأ نازحين. يقطعون سلاسل الجبال ويقطعون سهل البقاع ويقطعون البراري الى الشام البعيدة. المخيمات الفلسطينية في صور وصيدا وبيروت والشمال تفتح أبوابها للنازحين. قوافل البشر على الطرقات. شتاينبك وصف نزوحاً. لم يصف هذا النزوح. الطائرات تطارد البشر، على الطريق يُقتلون. الرجل الذي خرج من مدينته ساعة، قال لزوجته أرجع بعد ساعة، أخرج من بيروت ساعة وأعود، الرجل خرج ولم يعد. صادته قذيفة على طريق الرميلة، بين صيدا والدامور. السماء تمطر قنابل في هذا الصيف الحار. العائلة النازحة من الجنوب الى بيروت لم تصل في ساعتين، لم تصل في ثلاث ساعات، طالت الطريق. أوتوستراد الساحل مقطع. الجسور تساقطت والزوارق الحربية تملأ البحر. صعدت العائلة الى الجبل على طريق جزين. لو سلكت طريق إقليم الخروب هل كانت تنجو من قصف جسر غريفة؟ ماتت على الجسر عائلة. على جسر آخر قضت عائلة أخرى. الناس كالهوام. مطرقة تقع من فوق. خمسة يقتلون هنا. سبعة يقتلون هناك. الآن لا نرى بغداد في التلفزيون. الإعلام فظيع. العراق يُنسى الآن. ها هو لبنان يحترق. العالم فظيع. نجوا إذ سلكوا طريق جزين. دخلوا ظلال الجبل، ظلال الشجر الأخضر الوارف، وضاعوا بين قرى تائهة على هضاب. الصيف حلو في الجبل. حرارة الجو منخفضة هنا. وعند العصر ترى ضباباً. الطريق الى بيروت طويلة، طويلة، والواحد قد لا يصل. سلكوا طريق المتن، قالوا ننزل على طريق المديرج. الحظ أنقذهم. تعطلت السيارة في الباروك. لو لم تتعطل السيارة في الباروك! الناس تكتشف بلادها هذه الأيام. بينما يهربون من القصف، من الموت والنار والدم، بينما يقفزون كالأرانب من قرية الى قرية، يكتشفون أسماء جديدة، يكتشفون طرقات جديدة، ويُصلّون. وقت الكارثة وقت صلاة. لا تبارك أحداً. لا العدو ولا الصديق. من العدو ومن الصديق؟ الصديق يفتح لك بيته. العدو يطردك من بيتك. من العدو ومن الصديق؟ من يطردك ومن يبقيك؟ هذا وقت أسود. كيف تشكو وممّ تشكو وأنت حيّ؟ لست مطروحاً تحت جسر البسطة، لست مطروحاً على الزفت تبحث بعينيك عن سندويشة جبنة ولا تجد سندويشة. على الطريق الناس على الطريق يموتون. على سطح السيارة فرش وبطانيات وأكياس ومن النافذة ترفرف راية بيضاء. هذه سيارة هاربة من الحدود، سيارة هاربة ولا تدري أين تأخذها الطريق. ترفع الراية البيضاء وتهرب. سيارة داتسون صفراء قديمة، أبوابها مبعوجة، ومن زجاجها الخلفي تبين الوجوه. خمسة أطفال، سبعة أطفال، وثلاث نساء جنب السائق. الوجوه عرقانة والسيارة عرقانة. البخار يتصاعد من السيارة. فوقها السماء تمتد، ساطعة زرقاء الى ما لا نهاية. أين تذهب هذه السيارة اليابانية الصفراء؟ ركوب البحر الأجانب يركبون البحر. عندهم مهلة. عليهم الإسراع. حزموا الحقائب على عجل واجتمعوا في قطعان على الشط. لا يتجمعون على شط الدامور عند سكة الحديد. هذه ليست حرب السنتين. وهؤلاء أجانب. ليسوا من هنا. أتوا الى هنا كما يأتي الجميع. هل يحبّون التاريخ؟ هل يعرفون عن 1860 وما قبلها وما بعدها؟ بلاد ترفعها حروب ثم تقع. ولدنا في عصور مضطربة. ترفعنا الحروب أم تخبطنا بالأرض؟ كلما قلنا خرجنا من حرب ندخل حرباً جديدة. كم حرباً في حياة واحدة؟ كم يتحمل الآدمي؟ ساحة البرج ساحة الشهداء فارغة. البحص الأبيض لا يدوسه أحد. لسنا في منتصف القرن التاسع عشر فتُنصب هنا الخيم لأهل الجبل ودمشق ووادي التيم. هل تنصب هنا خيم اللاجئين بعد غد؟ حرام الإنسان. الأجانب يهربون الى وراء البحر. يوم الخميس 20 تموز يوليو 2006 احتشدوا على أبواب المرافئ. حظهم طيب. عندهم من يسأل عنهم. السكان الأصليون أين يفرّون؟ ليسوا أجانب. ولدوا على هذه الأرض. وعلى هذه الأرض يموتون. الى أين النزوح؟ لا ننزح. وإذا نزحنا ننزح الى تحت الأرض. هذه مدينتنا. وهذه القرى نعرفها. ليست بطولة. اعتدنا هذه الأمكنة. الإلفة، الإلفة. يصعب التخلص من العادات. والعادات تقتل. اعتدنا هذه الطرقات. اعتدنا هذه الأشجار. اعتدنا هذه الواجهات. اعتدنا هذه المطاعم. زاوية عبدالوهاب الانكليزي. القبّة البيضاوية لسينما سيتي بالاس. طريق يوسف صادر وشارع أيوب ثابت وخربة الهوليداي - إن. مكتبة يافث وقناطر الجامع العمري. البحر كما تراه عابراً جسر فؤاد شهاب. لماذا تكتب هذه العبارة؟ ألا تخاف على الجسر؟ هناك جسر أزرق يربطنا بالعالم. الناس يهربون عليه الى لارنكا، الى بافوس، الى حيث يهربون. تقف على الطريق عند مكب النورماندي وتنظر الى قطيع بشري أشقر اللون. البشرة المتوردة الأجنبية والعيون الملونة. الوجوه عرقانة والثياب عرقانة. حقائب وأكياس منتفخة. طفلة تتسلق رقبة أمها وتبكي. يضايقها الحر. تضايقها الزحمة. تضايقها الروائح. تتكلمان بالإنكليزية. المرأة وابنتها. الهواء يتحرك في أشجار الصنوبر الصغيرة. الحمائم تدور في السماء وتبلغ مئذنة جامع الصدّيق هذا كان جامع الدباغة في بيروت القرن ال19 وتدور. تعبر فوق فوش وويغان سوق الفشخة واللنبي. حمائم تعلو وتنخفض ولا تدري ماذا يجري على الأرض. لسنا حمائم.لا تنبت لنا أجنحة. لم نتعلم كيف نطير. المطار قصفوه. الرجل قال كان على الطريق عندما قصفوا. كان ذاهباً الى بيته في الشويفات جنوببيروت، كان ذاهباً الى بيته عندما اهتزت السيارة به، أحسّ بها تندفع وترتطم بجسم غير مرئي ثم رأى النور الأحمر ورأى الدخان. في الصباح أيضاً تعالى الدخان - أقل كثافة الآن لكنه ما زال أسود - من خزانات المطار. لماذا يقصفون الوقود؟ أي أسرار في عقول الجيوش؟ كيف نتخيل رجلاً يركب طائرة، يطير في الليل، ويقصف المدينة في الأسفل؟ يرى الدروب العريضة ويرى سلاسل الأضواء الكهربائية، ويرى السيارات، ويرى البيوت والمتاجر والبنايات، ويرى الجسور ومداخل الأنفاق، ثم يكبس أزراراً ويقصف مدينة... كيف نتخيل هذا المخلوق البشري؟ إنه حقيقي. الطائرة لا تطير بلا هذا الكائن. من دونه كيف تطير؟ مصابيح الأنفاق على الطريق الساحلية برتقالية اللون تضرب الى صفرة الليمون. آتياً من صور الى بيروت في عتمة الليل كانت الأنوار تملأ عينيك. سائق الطائرة الحربية رأى الكهرباء قبل أن يُسقط صواريخه. هل تهتز الطائرة لحظة إطلاق الصواريخ؟ الحلفاء الذين قصفوا درسدن كيف قصفوها؟ الألمان الذين قصفوا لندن كيف قصفوها؟ من يفهم الكائن البشري؟ سفن تخرج من مرفأ صور. ألوف يتراصفون أمام ثكنة لقوى الأمن الداخلي في الضبية. بوارج حربية أجنبية تُقبل من البعيد البعيد لإجلاء الرعايا"من شرفة"الحياة"نراها تدخل ميناء بيروت. البلاد تبقى لأهلها. الجنرال كارل جينسين قال ان مهمة الإجلاء تسير على ما يرام."نأمل أن ننقل 6 آلاف شخص بحلول يوم الجمعة". كندا تستأجر بواخر سياحية لنقل رعاياها. مئات الكنديين ينتظرون في الميناء. افترشوا الأرض وفتحوا قناني الماء ورفعوا رؤوسهم الى السماء واجمين. صوت الطائرات لا ينذر بخير. الطيران المدني متوقف. هذه طائرات حربية. في الجبال تُسمع أفضل مما تسمع في المدينة. المدينة تقتل صوت السماء. الجبل واسع الفضاء، ساكن الأرجاء، ينقل أصوات السماء بيسر. تسمع الطائرة الحربية وتسمع الطائرة الاستطلاعية الصغيرة "أم - كا"، الفلاحون يسمونها"أم كامل" وتسمع الطيور. تسمع الضباب يزحف على الأرض وتسمع حفيف الورق وعبور الغيوم. يا ربّ ارحم."فورم دي بيروت"يعجّ بالانكليز. بارجة بريطانية رصاصية اللون جاءت من أجلهم. في 11 أيلول 1840 جاءت بارجة غير هذه البارجة ولم تأخذ رعايا. الآن تقصدنا البوارج في مهمات إنسانية. هذا حسن. هل نزعل لأن الناس ينجون من الموت؟ لا نزعل. اذهبوا الى الأمن والسلم. اذهبوا الى الحياة الطيبة. ليكن طعامكم طيباً. اشربوا الماء النقي واقضوا اللحظة البيضاء وانظروا الى السماء الشاسعة. البحر يلتف أزرق حول السفينة، يحاصرها من أربع جهات، يستدير كالاسوارة، والمدينة المنكوبة تختفي. المدينة بأعمدة الدخان، المدينة بأبراج الزجاج، المدينة بأمواج النازحين الزاحفة على شوارعها. المدينة غير منكوبة. كيف لا تكون منكوبة وفي الضاحية الجنوبية أحياء حالت ركاماً، جبالاً من الباطون فوق جبال من الباطون؟ تحت هذه الأنقاض من عاش ومن أنجب ومن روى القصص ومن مات ومن ظلّ حياً؟ حديقة الصنائع تحولت مخيماً للاجئين. على العشب والبراغيت ينام نازحون. أهالي حارة حريك بعثرتهم الحرب. حارة حريك على الأرض. بئر العبد أيضاً. الشارع بينهما يفوح برائحة الاسمنت المحروق. البارجة الهندية بومباي حملت 700 هندي من ميناء بيروت. القبطان قال عندي مكان، من يريد أن يأتي معنا؟ على طريق الشام قوافل من البشر. بعد حوادث 1860 زحفت الألوف من دمشق الى هذا الساحل. عبّدوا طريق الشام الجديدة. الأيام الماضية رأت نزوحاً معاكساً. لكن الطائرات هدرت من جديد والطريق انقطعت. حتى طريق المعاصر قطعوها. الآن تسلك القوافل طرقاً فرعية. من الجنوب الى البقاع والهرمل الى وراء سلسلة جبال لبنانالشرقية. نهرب الى حيث نهرب، نهرب الى حيث نبقى على قيد الحياة. تعبر الكارثة فنشكر ربنا ونرجع الى بيوتنا وحقولنا ونقول عسى الجرة لا تنكسر من جديد، عسى البلد لا ينكسر من جديد، بلاد فخار، والفخار هش ينكسر بسرعة. الماء طيب في هذا الصيف، لكن أين الماء؟ الجسر وقع في النهر. القرية في جوار النهر كانت تحيا حياة هانئة. هذه قرية نائية، بعيدة عن الطرقات العامة، بعيدة عن خطوط الخريطة، من يقصفها؟ أحياناً يعبر مهربو البضائع هذا الجسر. لكن هذا نادر. لن يعرف أحد هذه القرية. جاءت الطائرات وقصفت القرية. حفنة بيوت هي، ليست حقاً قرية، ضيعة هي، كانت ضيعة، ثم احترقت. الضاحية الجنوبية تزدحم بالبشر. هذه هي بيروت. في علب السردين نحيا. ثم تتساقط القنابل من فوق. كم الإنسان صغير! نُدفن تحت ركام. مئات الرعايا الهولنديين غادروا عن طريق المصنع الى دمشق. نحو أربعة آلاف ألماني غادروا هذه البلاد براً وبحراً. قبرص تعج بالبشر. ضايقتها هذه الحرب المباغتة. كانت مملوءة سياحاً وبهجة وحبوراً. والآن أتتها بغتة هذه القطعان المذعورة. المروحية تشينوك تغادر مرفأ بيروت صوب الجزيرة القبرصية. الناس في المروحية يُصلّون. المروحية ضخمة، ثقيلة، كيف ترفعهم جميعاً في بطنها؟ الأيدي تمسك الأيدي، العيون مغمضة، ويصلّون. هل قرأوا"أعمال الرسل"وما جرى للسفينة الجانحة على رمال قبرص؟ هل قرأوا"الأوذيسة"وسمعوا خبر المرأة النائمة في بافوس؟ هل تأخذهم طريق السماء الى حياة أفضل؟ هل يذكرون هذه البلاد - هذه البلاد المتروكة - في صلاتهم؟ المرأة والعجوز الجنوب تحت القنابل. من الخط الأزرق الى نهر الليطاني. ومن الليطاني الى الزهراني. ومن الزهراني الى نهر بيروت. ومن نهر بيروت الى نهر البارد. الجنوب يتمدد. بلال إبن صيدا أرسل عائلته الى الشام وانتقل - من أجل العمل - الى فندق في بيروت. صلاح وراغدة وهناء ويوسف غادروا الضاحية مع عائلاتهم، وتفرقوا على شقق في الضبية ورأس النبع ورمل الظريف. مليون شخص تركوا بيوتهم، تقول الأممالمتحدة. على ساحة ساسين الأشرفية سيارات متوقفة عند الثانية والنصف ظهراً يوم السبت 22 تموز 2006. على الرصيف أمام"حلويات الدويهي"نازحون فقراء يفترشون الأرض. نساء وأطفال ورجال وشيوخ. امرأة تحمل طفلها، وبنت تتعلق بثوب المرأة الأسود الطويل. الإيشارب مبلول بالعرق والوجه قاتم تعبان. كم تعبتِ أيتها المرأة الآتية من بعيد! كم تعبتٍ وكم ستتعبين بعد! من يبل ريقك بشربة ماء؟ من يعطيك سقفاً وفراشاً وزاوية لهذا الطفل، زاوية ينام فيها بلا ذبان وبلا شمس وبلا برغش؟ ماذا ينتظرون على قارعة الطريق هكذا؟ المدارس والحدائق امتلأت بالنازحين. في مطعم مجاور شباب يلعبون الطاولة ويشاهدون التلفزيون. على صحن سندويشة فيلادلفيا. وعلى صحن آخر سندويشة فاهيتا. الأولى فيها لحم. الثانية فيها دجاج. سندويشات أميركية ومكسيكية دخلت بلادنا قبل سنوات ولقيت إقبالاً. في شارع آخر يتعارك بائع خضر مع زبائن. الحامض ثمنه كالذهب. لا يتعاركون. يتناقشون. العجوز الذي دخل الصيدلية وسأل عن ثمن دواء الضغط اختفى فجأة. لهجته قروية غريبة عن المكان. البائعة قالت انه من النازحين وانه يأتي كل ظهيرة ويسأل عن ثمن هذا الدواء أو ذاك الدواء - وكلها أدوية للضغط - يأتي ومعه كرتونة فارغة عليها اسم الدواء، يأتي ويسألها عن ثمن هذا الدواء، هل هو أقل من ذاك الدواء، ثم يمضي من دون أن يشتري شيئاً. قاست ضغطه، ضغطه 19، عالٍ جداً، وبلا دواء قد تصيبه جلطة، يبدو انه لا يملك ثمن الدواء. صاحبة الصيدلية قالت للبائعة الحقي به، اعطيه الدواء اعطيه الدواء. لحقت البائعة بالعجوز، نادت عليه، الدواء ثمنه 57 ألف ليرة، لكنها لا تريد ثمن الدواء، ليأخذ العلبة وينقذ حياته، المال بلا قيمة، الجسور بلا قيمة، المطارات بلا قيمة، البيوت بلا قيمة، الحقول بلا قيمة، الطائرات بلا قيمة، البوارج بلا قيمة، المدن بلا قيمة، الساحات بلا قيمة، البساتين بلا قيمة، الأنهار بلا قيمة، الأشجار بلا قيمة، تعال ايها العجوز، تعال وخذ علبة الدواء، تعال وخذ دواء الضغط يا جدي، خذها ولا تدفع ثمنها، المال بلا قيمة، تعال يا جدي. العجوز اختفى في السوق. سمع البائعة تنادي عليه فأسرع الخطى واختفى بين البشر. طرقات فارغة. وطرقات مزدحمة. وسط بيروت التجاري فارغ. المطاعم مقفلة هذا السبت. الناس في ترقب. يقولون ان الحدود الجنوبية تشتعل بالمعارك. يقولون اليوم قد يحدث الاقتحام، الاجتياح، التوغل. يقولون أشياء كثيرة. الكلام بلا ثمن. نملأ الوقت ثرثرة. نتكلم عن المحاور. عن مارون الراس. عن مرجعيون والخيام وبنت جبيل. عن النبطية وحبوش وكفرجوز. نتكلم وتتكلم ونتكلم. لا أحد يسكت. الثانية عشرة ظهراً. الساعة تدق دقاتها على ساحة البرلمان. ساعة العبد تدقّ ولا أحد يسمعها غير جنود تبعثروا هنا وهناك. رونالدو يقف وحيداً على بابٍ زجاجٍ. مطعم الإيتوال مقفل. الوسط مهجور."البلد"مقفل وپ"ستارباكس"مقفل وپ"الرفاعي"مقفل. بعيداً يبين برج المارينا الصاروخي الشكل مارينا تاورز وجنبه فندق فور سيزونز. اسم لطيف: الفصول الأربعة. نحن في الصيف ثم يأتي الخريف. أثناء الربيع كنا نخاف أشياء أخرى. أثناء الربيع كنا نتذكر تظاهرات الربيع الفائت. الدهور تعبر على هذه المدينة، على هذه البلاد الغريبة. ستقطع الطرقات الى البحر. الطرقات فارغة أو شبه فارغة. المحلات مقفلة أو شبه مقفلة. كومة خبز في"بيتي كافيه"Petit cafژ وأكياس مصفوفة. أكياس طحين أم رمل؟ تحول المكان مخزناً ومطبخاً للإعاشة أم ملجأ من زجاج؟ ستمر من هنا بعد الظهر وترى في الداخل رجالاً يلبسون الأبيض ويطبخون حبوباً في قدور عميقة. شوارع بلا ناس وسط بيروت مهجور. شارع المعرض مهجور. حسين الأحدب مهجور. سعد زغلول مهجور. شارع عبدالملك طريق عبد الجواد في القرن ال19 أيضاً. النوافير في حوض الماء امام البلدية لا ترسل ماء. 11 نافورة ساكتة لا تتلاثغ بالماء الأبيض الفوّار. السماء هي هي، زرقاء شاسعة لامبالية، لكن النوافير ساكتة. عجوز يتحرك بصعوبة، أنيق الهندام، تساعده خادمة. تبدو حبشية. ليست سيريلانكية. في لبنان 90 ألف سيريلانكي وسيريلانكية. رويترز قالت ان كولمبو استقبلت 264 عاملاً عائدين من لبنان في يوم واحد. ألف عامل آخر سجلوا اسماءهم في المرفأ للرحيل. هل تفرغ المدينة من العاملات القصيرات بنات شرق آسيا؟ لماذا يفرون الى بلادهم؟ هناك مد بحري في المحيط الهندي، هناك زلازل، لماذا يهربون؟ هل يظنون أن البلاد الى خراب؟ ميرا تعرف بيروت، رأتها تهتز طوال السنة الماضية. سيارات مفخخة. انفجارات وقتلى. امواج بشرية تجتاح الساحات. ميرا رأت وميرا سمعت. هل تذهب الى كولمبو، الى قريتها البعيدة على جزيرة سيلان البعيدة؟ هل تحب ميرا العاصمة كولمبو؟ ماذا نعرف عن ميرا؟ ميرا ماذا تعرف عن بلادنا؟ هل هذه الكلمات عن ميرا؟ ميرا لا تقرأ العربية على الأرجح. اسمعي يا ميرا: عندنا في الجنوب قرى، مرات تحترق هذه القرى. عندنا في وسط البلاد مدينة. مرات تحترق هذه المدينة. عندنا مدن اخرى غيرها، مدن لا نكتب اسمها على أوراقنا النقدية، لكنها مدن ايضاً، مدن على البحر، ومدن بعيدة من البحر، وكلّها مدن، وفيها شوارع وبنايات وسيارات ومتاجر وبشر. بشر كثر يا ميرا في مدن كثيرة وقرى كثيرة. مدن وقرى تترابط بطرق وجسور، مدن كثيرة وقرى كثيرة يا ميرا، وكلها فيها ناس، والناس كلّهم يتشابهون، وجه الإنسان هو هو، عينان وأنف وفم وأذنان، بشر كثر يحيون في هذه البلاد وكلّهم يتشابهون يا ميرا، لا يعرفون كم يتشابهون، لكنهم يتشابهون، ومع هذا لا يجتمعون ابداً يا ميرا. بلاد من فخار وكل صباح نُصلّي ألا تقع البلاد على رؤوسنا. سطح بناية من البيت الى الجريدة لا تلتقي احداً. ساعة سير في المدينة ولا تلتقي أحداً! سكينة الموت تخيم على الشوارع. أين أهل المدينة؟ أجراس مار جرجس تجنّ الساعة التاسعة صباحاً يوم الأحد 23 تموز 2006. المدارس والجوامع امتلأت نازحين. في حوض الولاية وسليم سلام والمصيطبة والبسطة وكاراكاس امتلأت الغرف بشراً وأطفالاً شبه عراة وغسيلاً منشوراً على أسلاك حديد. على سطح بناية في رأس النبع اجتمعت عائلات من بنت جبيل والزرارية وتبنين. تحول السطح مخيماً يطلّ على تمثال بشارة الخوري، على خط التماس القديم بين الشرقية والغربية. يطبخون رزّاً على السطح ويفرشون على السطح وينامون تحت الغيوم والنجوم. قصف البوارج يسمعونه جيداً وقصف الطائرات ايضاً. أعمدة دخان تتعالى فوق الضاحية الجنوبية. سكان البناية يصعدون الى السطح ويسهرون مع الساهرين. بلا سطح أحسن. السماء سطحنا. نتكلم وبعضنا يشجع بعضنا ونقول ليست أول مرة، وإن شاء الله ننجو هذه المرة ايضاً. من ينجو ومن يبقى؟ الجسر يقعد الرجل في غرفة موصدة ويكتب عن السماء والطائرات والصواريخ. يكتب عن جسور تنفتح كالهاوية امام السيارات، يكتب عن بشر يتناثرون اشلاء وهم يأكلون الخبز أو يركضون في الطريق. يقعد الرجل ويكتب على ورق أبيض كلمات زرقاء لن يقرأها احد. البوارج تقصف والطائرات تُغير والرجل يكتب. لماذا يكتب؟ ماذا يكتب؟ هل يعرف أنه حيّ الى الصباح؟ لعله يُطمر تحت الباطون هذه الليلة."تمكن 45 استرالياً فقط من الصعود الى سفينة يونانية... وأجلت الفيليبين 250 من مواطنيها عبر دمشق بحافلات غطيت بأعلام الفيليبين وبقطع قماش أبيض ليعرف الطيارون الإسرائيليون ان هذه قافلة حافلات مدنية. كما غادرت بيروت حافلتان سويسريتان ومئات من الإيطاليين كانوا تجمعوا أمام سفارة بلادهم". ماذا تكتب؟ في سيارة أميركية فورد حمراء تركها هنا نازحون الى وراء الأطلسي تنزل من أعلى جبل لبنانالجنوبي الى الأودية تحت رشميا ثم تتسلق الهضاب الى الجانب الآخر. من عاليه ستنحدر على طرقات خطرة الى الجمهور الى الحازمية الى بيروت. مهم أن تسلك الطريق الى اليمين، هذه تأخذك الى الأشرفية، الأخرى تأخذك الى كاليري سمعان، تأخذك الى الشياح، تأخذك الى الضاحية الجنوبية. انتبهْ الى الطرقات. انتبه اين تذهب. ستسمع الطائرات تقصف طريق ظهر البيدر. ارفعْ الزجاج. شغل المكيف. ستهدر بنزيناً. لا بأس. المكيف يشغل الأولاد بصوته، لا يسمعون الغارة. افتحْ الراديو. لا، الراديو أسود الأخبار. ضعْ الكاسيت. بتهوفن. الأولاد لن يحبوا بتهوفن. قدمك على دعسة البنزين. أسرع أسرع أسرع، عليك ان تقطع الجسر، عليك أن تصل الى بيتك. عليك أن تقطع هذا النهار وأن تكتب أنك قطعته. ثم يأتي نهار ولا تقطعه ولا تكتب.