"محمد الحبيب العقارية" تدخل موسوعة جينيس بأكبر صبَّةٍ خرسانيةٍ في العالم    "دار وإعمار" و"NHC" توقعان اتفاقية لتطوير مراكز تجارية في ضاحية خزام لتعزيز جودة الحياة    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    مصرع 12 شخصاً في حادثة مروعة بمصر    ماجد الجبيلي يحتفل بزفافه في أجواء مبهجة وحضور مميز من الأهل والأصدقاء    رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    رينارد: سنقاتل من أجل المولد.. وغياب الدوسري مؤثر    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    عصابات النسَّابة    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    محترفات التنس عندنا في الرياض!    رقمنة الثقافة    الوطن    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    صحة العالم تُناقش في المملكة    المالكي مديرا للحسابات المستقلة    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    أسرة العيسائي تحتفل بزفاف فهد ونوف    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 تصل إلى لبنان    أكبر مبنى على شكل دجاجة.. رقم قياسي جديد    استعادة التنوع الأحيائي    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    لاعبو الأندية السعودية يهيمنون على الأفضلية القارية    «جان باترسون» رئيسة قطاع الرياضة في نيوم ل(البلاد): فخورة بعودة الفرج للأخضر.. ونسعى للصعود ل «روشن»    تعزيز المهنية بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030.. وزير البلديات يكرم المطورين العقاريين المتميزين    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    أجواء شتوية    المنتخب يخسر الفرج    رينارد: سنقاتل لنضمن التأهل    ترامب يختار مديرة للمخابرات الوطنية ومدعيا عاما    قراءة في نظام الطوارئ الجديد    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    «الشرقية تبدع» و«إثراء» يستطلعان تحديات عصر الرقمنة    «الحصن» تحدي السينمائيين..    الرياض .. قفزات في مشاركة القوى العاملة    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    التقنيات المالية ودورها في تشكيل الاقتصاد الرقمي    السيادة الرقمية وحجب حسابات التواصل    العريفي تشهد اجتماع لجنة رياضة المرأة الخليجية    الذاكرة.. وحاسة الشم    السعودية تواصل جهودها لتنمية قطاع المياه واستدامته محلياً ودولياً    أمير المدينة يتفقد محافظتي ينبع والحناكية    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    محافظ الطائف يرأس إجتماع المجلس المحلي للتنمية والتطوير    نائب أمير جازان يستقبل الرئيس التنفيذي لتجمع جازان الصحي    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مدينة بناها نازحون تشبه بيروت ولا تشبهها . الخروج من الضاحية والرجوع : أي حياة سنعود اليها اذا انتهت الحرب ؟
نشر في الحياة يوم 15 - 08 - 2012

انتهت الحرب. قوافل سيارات تتدفق الى الجنوب. قوافل سيارات تتدفق الى حدود الضاحية. راكبون ومشاة. زحمة شديدة. كأنه يوم الحشر. آلاف النازحين يعودون. ماذا ينتظرهم في نهاية الطريق؟ انتهت الحرب. قتلى دُفنوا. وقتلى ما زالوا تحت الأنقاض. هل انتهت الحرب؟ تراجعت العاصفة. الى متى؟ عالم من زجاج. ماذا تصنع عائلات خسرت بيوتها. برمشة عين اختفى البيت. هذا عالم زجاج. كيف يُعطى الواحد أملاً في عالم من زجاج. مع هذا عليك أن تأمل خيراً. هذا ما تملك: الصلاة. بيتك يقع وتأمل خيراً. صديقك يقع وتأمل خيراً. عسى الآتي يكون رحيماً.
لا ندري أين يأخذنا آب أغسطس. هل كنا نعلم مطلع هذه السنة ماذا يصنع بنا تموز يوليو 2006؟ حرّ تموز حارق. الضاحية الجنوبية مدينة أشباح. الحدود الجنوبية للبلاد فارغة البيوت، مدمرة البيوت، تحترق. احترقت المراعي. احترقت الهضاب. احترقت السهول. جثث لا نعرف عددها ترقد تحت الركام. ركام يتبعثر على خريطة. ننظر الى الخريطة ونقرأ أسماء القرى. ما أكثر هذه القرى. ما أجمل هذه الأسماء. السهل بين مرجعيون والخيام كان أخضر. هل نعرف لونه الآن؟ الحقول خارج بيت ياحون كانت خضراء. هل نعرف لونها الآن؟ ليس نعيق الغراب. الكلمات لا تقول شيئاً عن عواصف النار والدم والغبار. من يرفع الحائط عن العجوز في صور؟ كان قاعداً في ظلّ الحائط، سقط الحائط عليه. لا يدفع حائط شرّاً. من يبعد الشرّ؟ شرّ كثير تحت هذه الشمس. الرجل رأى وجه صاحبه محروقاً. فكّوا الضمادات عن الوجه فرأى الوجه المحروق. أين الوجه الذي يعرفه؟ هذا ليس وجهاً. عينان تنظران. عينان لم تحترقا. عينان تنظران الى هذا العالم. لكن أين الوجه؟
حياة تضيع ووجوه تضيع. دم يضيع وبيوت تضيع. ماذا يبقى؟ ما قيمة الكلمات؟ ما قيمة الشاشات؟ اذا احترقت القرى ماذا يبقى؟ القرى ليست دبابات. القرى ليست طائرات. ليست حديداً. الناظر من بعيد هل يعلم أنها ليست حديداً؟ القرى ليست حديداً. حتى بنايات المدن ليست حديداً. برمشة عين تقع بناية. برمشة عين تتساقط شرفات، تطير عائلات في الفضاء، وتسقط بناية. الحياة ليست رسوماً متحركة. العائلة القاعدة على شرفة في الشيّاح الضاحية، العائلة القاعدة تأكل كعكاً وتشرب شاياً، رفعها الانفجار في الهواء. قذفها أعلى من الدرابزين، أعلى من أصص الزهور، أعلى من هذه الحياة الفانية. أجسام تقطعت قطعاً. الحياة ليست رسوماً متحركة. اذا سقطت على ركام، فوقك ركام وتحتك ركام، اذا سقطت في دوامة الانفجار لن تخرج حيّاً. الإنسان ليس حديداً. بشظية صغيرة يُقتل. ألا تقتله غارة؟ الإنسان ليس حديداً. لم يُصنع لقتلٍ أو قتال. لحم وعظم ودم. أشد هشاشة من زجاج. من قال ان الإنسان قوي. من قال ان الجسم قادر. من قال ان الأعضاء قاسية. ليست قاسية. الأعضاء طرية. الجلد طري. الزجاج يجرح والرصاص يجرح وحجر الباطون يجرح. الشظية تجرح وحافة هذا المكتب تجرح. الآدمي ليس حديداً.
الخروج
أحياء تفرغ من أهلها. كم عدد النازحين حتى هذه الساعة؟ مليون ومئة ألف نازح؟ أقل؟ أكثر؟ ماذا يحدث لهم؟ الصيف جاف. الأمطار لا تقع على البلاد صيفاً. لسنا في باريس. حظنا طيب. لو كنا في باريس كانت الأمطار غمرتنا. النازح مع عائلته الى ظل شجرة في حديقة صيدا أو جنينة الصنايع ماذا يصنع تحت مطر؟ حظنا طيب. لسنا في باريس. الغيوم لا تتكدس في السماء. المطر لا يتساقط. احفظ معنوياتك. كيف تحفظ معنوياتك؟ اذا كنت في بيتك تحفظ معنوياتك. بلا بيت كيف تحفظ معنوياتك. متعباً وجائعاً كيف تحفظ معنوياتك. يعطونك طعاماً. يعطونك للطفل غطاء. أعطوك ماء وصابوناً وفرشة وخيمة. قالوا لك كلمات طيبة. هذا حسن. التعاطف الإنساني كنز. الكلمة الحلوة أثمن من ذهب. الذهب بلا قيمة. المال بلا قيمة. لكنك لا تتكلم عن الذهب. تريد بيتك. أنت بلا بيت. ضاع بيتك. البيت ضاع والسيارة ضاعت، كيف تحيا الآن. كيف تحفظ معنوياتك؟ تقول انها غيمة، غيمة سوداء ثم تعبر الغيمة. الله يساعد الفقير. الله يساعد المحتاج. لن يتركك ربّك. ولو أحرقوا بيتك لن يتركك ربّك. احفظْ ايمانك. الإيمان يرفعك عالياً. أنت في بحر. هذه حياتنا. نحن في بحر هائج. ولدنا في بحر هائج. ونقضي في بحر هائج. البحر يرفعك ويحطك. ارفعْ وجهك، ارفع وجهك فوق الماء، انظر الى السماء العالية، خذْ نفساً. انظرْ الغيوم البيضاء، خفيفة، شفافة، تسبح، تتراكض. خذ نفساً. الغيوم حلوة. خذ نفساً. لماذا لونها أسود؟ هذه ليست غيوماً. هذه سحب دخان. معامل الجيّة تحترق. لم يضربوا المحطة والمولدات. ضربوا الخزانات. الوقود يحترق وعمود الدخان الأسود يتسلق السماء، الى فوق، الى فوق. التيارات العالية تُبدده، تنثره، يتقطع العمود، العمود يتقطع. الساعات تعبر، ها هو قد تلاشى. السماء زرقاء من جديد. زرقاء ساطعة. انظر الآن. هناك، بعيداً، فوق البحر، هل ترى تلك الغيمة؟ هذه غيمة بالتأكيد. تسبح صوبنا، بيضاء، خفيفة، منتفخة كالقطن، تملأ العينين أملاً. أي أمل هذا؟ هذه غيمة أم بارجة؟
مناشير
الله يساعد النازح. مناشير تتساقط على المدينة، تحذر البشر. سنقصف هذا الحي، اتركوا هذا الحي، اتركوا بيوتكم، اتركوا غرفكم، بسرعة بسرعة بسرعة، الطائرة سريعة، قنابل البارجة أسرع، بسرعة بسرعة بسرعة، لا تتمهلوا، لا تترددوا، أين أنتم، في حي السلم، في برج البراجنة، في الشياح، أين أنتم، بسرعة بسرعة بسرعة، احزموا أغراضكم، لا تحزموا شيئاً، بسرعة بسرعة بسرعة، تساقطوا على الأدراج، اركبوا السيارات والباصات، اركضوا ان إستطعتم، هذه الليلة سنبدأ قصفكم، اسرعوا.
باصات
نتجمع على المتحف. نتجمع عند برج المرّ. نتجمع حيث نتجمع. باصات حمراء تأتي وتأخذنا. أين تأخذنا؟ نذهب الى برج حمود. يقولون ان المكان غير مجهز. نركب الباصات مرة أخرى. نذهب الى جونيه. يقولون المكان امتلأ، لم يعد يوجد مكان، يقولون ان النازحين قبلنا ملأوا المدارس. معقول؟ كل المدارس امتلأت؟ كل الحدائق امتلأت؟ معقول؟ أين نذهب؟ الباصات لم تعد باصات. صارت بيوتاً من تنك. الخزانات فارغة من الوقود. لا مازوت معنا. أين نذهب؟ يقولون هناك أمكنة فارغة في الكورة، أمكنة فارغة في أميون، أمكنة فارغة في الشمال، هناك ينتظرون وصولكم. رائحة الملح تأتي من البحر. عما قليل تغيب الشمس. هذه الليلة لن ننام في الشياح. هل نرجع الى بيوتنا يوماً؟ هل تبقى البنايات؟ هل تبقى الأبواب؟ هل تبقى الغرف؟ الله يساعد النازح. نريد مازوتاً للباصات. البلدية جلبت مازوتاً. سائق البوسطة قال هذا لا ينفع. البوسطة فارغة من المازوت، اذا ملأها مازوت تمشي البوسطة، لكن السائق يقول لا، هذا المازوت لا ينفع. لماذا؟ نسأله. يقول للخزان مفتاح، خزان البوسطة لا يُفتح بلا المفتاح، والمفتاح ليس معه، المفتاح في الشركة. كل مفاتيح الخزانات في الشركة. أين تأخذنا هذه البوسطات؟ هل تأخذنا؟ واذا وصلنا ماذا نفعل؟ الشمس أوشكت أن تغيب. لا نعلم أين سنقضي ليلتنا.
جنب بيروت: بيروت أخرى
الجمعة 11 آب أغسطس 2006. كم عدد سكان الضاحية؟ نصف مليون؟ ثلاثة أرباع المليون؟ 800 ألف شخص كانوا في الضاحية يوم 12 تموز يوليو 2006، أين تبعثروا؟ أين أخذتهم الطرق؟ النار، النار. كيف تبقى في حارة تحترق؟ قصف من السماء. وقصف من البحر. كيف تبقى؟ الجسور تقع والمدن تقع. كيف تبقى؟ نرحل عن بيوتنا. نخرج الى المجهول. نتغرب. ليست المرة الأولى. من قبل تهجّرنا الى الضاحية. من قبل كنّا في الجنوب، كنّا في البقاع، كنّا في أماكن كثيرة. تهجّرنا الى الضاحية. صارت الضاحية بيتنا. الأعوام تتوالى والضاحية تكبر. ابن البقاع النازل من بعلبك أو شمسطار الى الضاحية لا يقول أنا نازل الى الضاحية. يقول"نازل الى بيروت".
جنوب بيروت مدينة يُسمّيها البيروتيون"الضاحية". أهل الضاحية يُسمّون مدينتهم"بيروت". جنب بيروت: بيروت أخرى. بيروت على البحر. وبيروت أخرى مفصولة عن البحر بمدينة تشبهها. بنايات عالية وشوارع طويلة ومتاجر لا تُعد. بيروت الأخرى فارغة الآن. شبه فارغة. لم تفرغ تماماً بعد. هناك ناس لا يغادرون بيوتهم. يبقون في البيوت ولو وقعت على رؤوسهم. الإلفة، الإلفة. صعب أن تتغرب. صعب أن تحمل هذا البدن وتترك هذه الكنبات التي يعرفها، هذه الكراسي التي يعرفها، هذه النوافذ التي يعرفها، صعب أن تحمله وتأخذه الى البعيد. البعيد ليس بعيداً. في عشر دقائق تبلغ برج المرّ، تبلغ الحمرا، تبلغ كاراكاس، تبلغ رأس بيروت. الشوارع فارغة. السيارة سريعة في الشوارع الفارغة. لكن كيف تترك بيتك؟ من قبل تركت بيتاً. بعد ذلك حلفت ألا تترك بيتاً أبداً. سأبقى هنا، تقول، سأبقى هنا.
لماذا تبقى؟ البناية فيها 70 شقة. منال قالت ان 67 شقة صارت خالية. النازحون أعطوا الباقين في الشقق الثلاث مفاتيح شققهم. البعض أعطى مفاتيحه، والبعض غادر على عجل. اذا يبست الشتلات بلا ماء تكون يبست. ما قيمة الشتلات في هذه الساعة؟
بناية فيها 50 شقة. كلّها فارغة. لكن الناطور ظلّ في الطبقة الأرضية. هل يحسب شقته آمنة؟ لا يحسب شقته آمنة. لكنه لا يريد الذهاب. سيبقى هنا. في البناية الفارغة. في الحيّ الفارغ. في المدينة الفارغة. سيبقى هنا وإذا جاء المساء يصنع شاياً ويقعد أمام البوابة. المكان ساكن. لا يسمع صوتاً. في حياته كلّها لم يسمع هذا الصمت. لم يرَ الشارع مقفراً هكذا. من بعيد يأتي صوت أذان. يشرب شاياً وينظر الى البنايات الساكتة.
أي حياة سنرجع اليها اذا انتهت الحرب؟ الرجل الذي ذهب يتفقد بيته في معوض الضاحية قال ان بيته صار يطل على السوق، كانت توجد بناية بينهما، وقعت البناية. ناس سترجع الى بنايات متساقطة. ناس لن تجد البيوت. وناس ستجدها.
الوسط التجاري مقفر. المطاعم مقفلة. الشوارع صامتة. ناس يأتون الى مكاتبهم سيراً على الأقدام في الصباح. تبتلعهم البنايات. ثم يخرجون مساء. أين يختفون النهار كلّه؟ ماذا يصنعون في هذه البنايات؟ المدينة غريبة. الحياة غريبة.
البوارج تقصف ليلاً. الأخبار الآتية من الحدود الجنوبية تتناقض. ماذا يحدث بالضبط؟
في أحياء أخرى تفتح المحلات حتى الثانية ظهراً. على ساحة ساسين تستمر الحياة متقطعة الى نصف الليل. فتيان وفتيات في ستارباكس ودانكن أند دوناتس. من يحيا حياة طبيعية هذه الأيام؟ كيف تحيا كالبشر في بلاد تُقصف؟ الشوارع ليست الشوارع التي تعرفها. لكن كيف تغيرت الشوارع؟ لم تتغير. أنت تغيرت.
من"بربر"الحمرا الى"بربر"سبيرز تعجّ الأرصفة بالنازحين. عائلات متشابكة وسيارات بلا زجاج وزحمة أمام محطات بنزين. بيروت مدينة النازحين. سنة 1860 تضاعف عدد سكانها بقدوم النازحين من دمشق وجبل لبنان ووادي التيم. لم تكن المرة الأولى. لن تكون الأخيرة.
سنة النزوح
2006 سنة نزوح. ماذا يحدث لنا، للبلاد، في أيامٍ آتية؟ هل تنتهي الحرب ويأتي السلم؟ هل يأتي السلم؟ وكيف يكون هذا السلم الجديد؟ حرب 1975 - 1990 قتلت من قتلت وأخفت من أخفت. 15 سنة حرب، ثم 15 سنة سلم. اهتزّ السلم في 2005. هزّته سيارات متفجرة. 2006 حملت الينا حرباً. قنابل تقع على البيوت من جديد. الجسور تقع والمدن تقع. كم جنازة؟ كم جنازة؟ أي حياة سنرجع اليها اذا انتهت الحرب؟ الإنسان غريب.
صباح الاثنين: رجل وامرأة
رجل يبكي. يقف أمام الدمار ويبكي بلا صوت. لا تعرف ماذا تقول له. ماذا ينفع الكلام. الرجل يبكي والناس يركضون. يتجولون بين أنقاض. يحاذرون في خطواتهم، خوف السقوط. ضجة وهتافات. الرائحة تقتل. الرجل يبكي بلا صوت. النشيج يرسم دائرة لا تُرى. جسمه في مركز الدائرة. نحن خارج الدائرة.
امرأة قاعدة على الأرض. أمامها كيس فيه حبّات جزر وحبّات كوسى وبعض البصل والثوم. هذه خطّتها لهذا النهار: شوربة خضر، حساء. الكيس على الأرض لكنها لا تنظر الى الكيس. تلال من الركام، جبال باطون متساقطة، أخشاب وزجاج وثياب. السماء زرقاء عالية، فيها غيوم اليوم، غيوم حلوة بيضاء. هذا صباح الاثنين 14 آب 2006. الساعة تجاوزت العاشرة. يقولون ان الحرب قد انتهت.
مغادرة الأسوار
متى ظهرت الضاحية الجنوبية لبيروت؟ كيف تحولت الى مدينة ملاصقة للمدينة؟ سيرة الضاحية تشبه سيرة بيروت. نمت بيروت نمواً سريعاً. تاريخها الحديث يبدأ بالفتح المصري سنة 1831. عندما دخل إبراهيم باشا بيروت كانت لا تزال بلدة مسوّرة لا يجاوز عدد سكانها عشرة آلاف نسمة. حدود بيروت القديمة المسوّرة تكاد تتطابق مع حدود الوسط التجاري سوليدير اليوم. لكن ليس تماماً: بيروت القديمة المسورة ذات الأبواب الخمسة كانت أصغر مساحة من سوليدير. هذه حدود بيروت القديمة: البحر شمالاً. شارع الأمير بشير اليوم جنوباً من هنا ينحدر شارع المعرض حيث جريدة"الحياة". على تقاطع الشارعين كانت بوابة الدركاه، جنب"بنك لبنان والمهجر"الآن. ساحة الشهداء اليوم كانت تحدّ بيروت القديمة شرقاً. شارع المصارف اليوم - وباب إدريس - كان يحدّ بيروت القديمة غرباً. المدينة كلها كانت محاصرة بحائط عالٍ سميك. سوق الفشخة ويغان كان يقطعها عرضياً الى نصفين.
ليلى فواز وضعت قبل سنوات تاريخاً مميزاً لازدهار المدينة عند منتصف القرن التاسع عشر. لا حاجة للقول ان الكتاب الصادر بالإنكليزية في ثمانينات القرن العشرين لم يُترجم الى العربية بعد. سنة 1834 ظهرت الكرنتينا. المحجر الصحي وتوسيع مرفأ بيروت ساهما في تحويل المدينة الى باب البلاد الشامية على البحر. مذابح 1860 أرسلت الى ساحة الشهداء كانت تسمى سهلات البرج وساحة البرج قطعان نازحين من دمشق ووادي التيم - مرجعيون وحاصبيا - وجبل لبنان. ثلاثون ألف نازح نزلوا في ظلال أشجار التوت وغيّروا وجه المدينة. شارل عيساوي وصف نزوح جده من دمشق الى بيروت. فارس نمر وصف نزوحه مع أمه من حاصبيا. النازحون غيروا طبيعة بيروت السكانية، أسهموا في هدم أسوارها، وفتحوها على البر وعلى البحر. مزارع المصيطبة والبسطة والمزرعة والأشرفية لن تلبث أن تتغطى بالبيوت. انتشر العمران شرقاً صوب جبل الأشرفية والرميل، غرباً صوب جلول رأس بيروت، وجنوباً صوب هضبة رأس النبع. مرة تلو مرة اجتذبت المدينة النازحين. في العقد الثاني من القرن العشرين جاءت العائلات الأرمنية الى بساتين برج حمود وخليج الدورة. بعد 1948 بدأت موجات النزوح من فلسطين. الأرمن هربوا من بطش الأتراك. الفلسطينيون توزعوا على بيوت وحقول ثم على أحياء ومخيمات. مخيم برج البراجنة 1950 علامة تأسيسية بارزة في التاريخ العمراني للضاحية الجنوبية. المخيم بُني على رمل.
الضاحية: مدينة بناها نازحون
في النصف الأول من القرن العشرين كانت الخضرة تغطي قسماً كبيراً من الضاحية الجنوبية. بساتين الخس والفجل والبصل والرشاد كانت منتشرة حيث تتراصف الآن بنايات باطون عالية متلاصقة. حارة حريك كانت حقولاً وبساتين وبيوتاً متباعدة. الشياح أيضاً. في الثلث الأخير من القرن العشرين - مع حروب لبنان الأهلية ثم الاجتياح الاسرائيلي ثم الحروب الإضافية التي أعقبت الاجتياح - تبدلت الطبيعة السكانية للضاحية: تراجعت الكثافة الفلسطينية أمام زحف النازحين من البقاع ومن الجنوب ومن"بيروت الشرقية". موجات نزوح متبادل. خط تماس وفرز سكاني. شكلت الضاحية ملاذاً للهاربين من الاجتياح المتكرر للحدود الجنوبية. شكلت ملاذاً لهاربين من حروب. البقاعيون أيضاً نزحوا إليها طلباً للرزق. انتشرت الأبنية وظهرت أحياء جديدة واسواق جديدة. ماذا تكون الضاحية؟ مدينة بناها نازحون. هل تشبه سيرتها سيرة بيروت؟ تشبهها ولا تشبهها. وُلدت بيروت وهي تخرج من أسوارها. وُلدت وهي تنفتح - في لحظة واحدة - على نازحين وعلى تجارة بحرية وعلى صيارفة ووكالات وتجار أجانب. الضاحية تلاصق بيروت. مسوّرة وغير مسوّرة. مرئية وغير مرئية. هل نعرف كيف تؤثر فيها 2006؟ هل نعرف كيف تتبدل في أعوام آتية؟
أوتيل دوفيل
أوتيل دوفيل ليس حديقة الصنائع. ليس مدرسة كاراكاس. ليس مدرسة راهبات المحبة. أوتيل دوفيل ليس مدرسة تحولت مخيماً. لكن أوتيل دوفيل أوتيل نازحين. الفنادق كلها باتت فنادق نازحين. بيروت هذه السنة لا تستقبل سياحاً. تستقبل نازحين. سنة 2004 نزل في بيروت مليون ونصف مليون سائح. 2006 سنة نازحين. السياح خرجوا مع الغارة الأولى. السياح لا يحبّون الغارات. السكان الأصليون - هم أيضاً - لا يميلون الى الغارات. لكنهم يبقون. أين يبقون؟ أهل"الحياة"نصفهم نازح الى أوتيل دوفيل. الأوتيل يقع على خط التماس القديم بين"بيروت الغربية"وپ"بيروت الشرقية". يقع على الطريق من سينما السوديكو الى السفارة الفرنسية. يطلّ على رأس النبع. ينزل فيه هذه الأيام من يستطيع. موظفون في السفارة المجاورة ورجال أمن وصحافيون وناس اضطروا الى ترك البيوت. أين يذهب الساكن في الشياح وصفير والرويس وجسر المطار ومعوض وحارة حريك وحي ماضي والمشرفية؟ كيف يأتي ابن صيدا الى العمل في مكتبه في بيروت ثم يعود؟ أهل "الحياة" يسكنون "المعرض" وسط بيروت التجاري نهاراً وفي الليل يلوذون بدوفيل. محمد ابن الغازية أرسل عائلته الى لندن ونزل في دوفيل. بلال أرسل عائلته الى الشام ونزل في دوفيل. فيصل أرسل عائلته الى عكار ونزل في دوفيل. نسيم أرسل عائلته الى اقليم الخروب ونزل في دوفيل. فيصل عريس جديد. استأجر بيتاً في الضاحية وفرش البيت. لم يكن يعلم ان الحرب ستبدأ من جديد. الطائرات مرة أخرى تقصفنا. التلفزيون أسقطه ضغط الانفجار على الأرض. الأسود يغطي الفرش. الواجهة الزجاجية وقعت. نسيم بيته في المشرفية جنب الشياح: الباب انخلع من مفاصله بضغط الانفجار. علي ترك بيته في حي ماضي، شرفة البيت وقعت، كل شرفات البناية على هذه الجهة وقعت. عبد ترك بيته في شارع هادي نصر الله. عبده ليس في الضاحية، عنده بيت صيفي في برمانا، يصعد اليه وينزل، المهم أن يظل في البلد بنزين. راغدة في دوفيل. طارق في دوفيل. راغب في دوفيل. ناجية في دوفيل. المكان يتسع. كم طبقة؟ عشر طبقات؟ ميرا في دوفيل. لم تذهب الى أهلها في سيريلانكا. ميرا مرتبطة ببيروت. 90 ألف سيرلانكي في البلاد، غادر البعض، لكن ليس الجميع. ميرا تقول إنها باقية في بيروت. متى جاءت ميرا الى بيروت؟ أثناء 2005 ضايقتها السيارات التي تنفجر. ميرا رأت وميرا سمعت. أوتيل دوفيل يسهر ليلاً. ساعة الفجر توقظ البوارج النائمين. أحمد في دوفيل. وأحمد الآخر في دوفيل. دانيا انتقلت الى لندن. ناتالي ابنة إبل السقي بقيت في بيروت. صلاح غادر صفير الى الضبية. هناء خرجت من الضاحية الى الملاّ رمل الظريف. ياسمين في دوفيل. عبدالله في دوفيل. دانيال في دوفيل. وسيم في دوفيل.تنتهي الحرب. يوقعون أسماءهم ويخرجون.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.