تجمع الدراسات الاجتماعية المعقدة التي أجريت في غير بلد لتقصِّي واقع حضور السياسة في الوجدان العام، على تبدل ملحوظ حيال الشأن السياسي. وتظهر الأبحاث المقارنة أن ثمة انعطافاً مشتركاً في اتجاهات الرأي، يكاد يصيب غالب القارة الأوروبية ذات الأصالة في حقل التعددية السياسية والممارسة الحزبية على أساس الخيارات الأيديولوجية المتجذرة تاريخياً في كتلتي اليمين واليسار. يستنتج بادئاً أفول عصر سياسي مديد مطالع القرن الواحد والعشرين، خاصة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية على عتبته. المفارقة أن زوال سيطرة الأحزاب الشيوعية في أوروبا الشرقية بدد أحلام اليسار على وجه عام، وأسكن الجناح الاشتراكي الديموقراطي، غريم الشيوعيين ومنافسهم على النطق باسم الطبقة العاملة والفئات الشعبية، في حال من فقدان الزخم والحماس. أضحى اليسار، على اختلاف تكاوينه وتلاوينه، يتيماً إلى حد ما، وإن تفاوتت المؤثرات الارتدادية بين فصيل وآخر. قامت الاشتراكية على أسس فكرية مرجعية، وتشعَّبت مدارس وأمميات تبنَّت اجتهادات متباينة وحددت انتماءات فرعية تجاذبها العداء الصريح والتشكيك المتبادل بصحة العقيدة حيناً، والالتقاء الموضوعي أو الطوعي في نطاق الوحدة الشعبية أحياناً بمواجهة المدّ اليميني الصريح والنزعات الفاشية. لكن قطبيها الأساسيين، الشيوعي والاشتراكي، حافظا دوماً على بعد الرسالة الخلاصي والأمل بفجر جديد قوامه تصفية الاستلاب وإحداث التغيير. صحيح أنهما افترقا حول ماهيته، جذرية لهذا واصلاحية لذاك، إنما الأصل في المسعى رسم الخط الفاصل مع اليمين، المحافظ بطبيعته، بالمعنى التاريخي، ووسم مهادنته بالتنازل المبدئي وأداته النظرية بالتحريفية والانهزامية. من رحم عالم العمل، خرج الفكر الاشتراكي وتبلور. لم يلغ التباعد في المنهج والسلوكيات، المشتركات المؤسسة والتطلعات المستقبلية المتشابهة لورثة قضية اشتقت من خط التاريخ البياني الصاعد و"آمنت"بحتمية التقدم وتحطيم البُنى الاجتماعية المتقادمة. وحيث اتصلت هذه المفاهيم بالحقل الايديولوجي الفلسفي، ونادت بصوابية رؤية حامليها وقدرتهم على فعل التغيير الثوري في الأصل، والتدريجي في عرف الاصلاحيين، رتبت هزيمة الاشتراكية المحققة، بصيغتها الشيوعية، أعباء على مجمل حلقات السلسلة، وألحقت التراجع بمكانة المضامين والثقة بأصحابها ودعاتها. على وجه العموم، نالت السياسة بالمعنى الشامل، نصيبها من انكفاء الصراع الأيديولوجي والتنافس بين النظامين الاشتراكي والرأسمالي في غياب وطن الاشتراكية الأم، فقدت عصباً ونكهة، وأحبطت الآمال العريضة المعقودة على مكوِّنها وطرفها اليساري. وبعامل العلاقة السببية، ألقت تداعيات المرحلة الجديدة ظلالاً على مقولة الصراع الطبقي والقائلين بها، وأثقلت على مُحرِّكها وأنصارها، مضيفة المزيد من التآكل الوظيفي لها والتراخي في انتهاجها، بعد مراوحتها الخجولة في أدبيات العديد من الأحزاب وطي صفحتها انتهازياً في حالات واعلان وفاتها رسمياً واستنسابياً من جانب منظري الاتحاد السوفياتي. سوى أن ضُمور"السياسي"واضمحلال الاهتمام بالشأن النبيل، طاولا عائلات اليمين بقدر أقل، لغربتها الموضعية عن أزمة الاشتراكية، وافادتها من عثرات اليسار، ناهيك عن هشاشة مقدار المنسوب الايديولوجي الاستشرافي في بيئة اليمين، واعتماد القوى المحافظة على التقليد غالباً دونما حاجة لتدخل منظومة مبادئ وأطر تعبئة وتنظيم وسائر محفزّات عملية التغيير. ينسحب العزوف عن السياسي على الجاليات المهاجرة، المقيمة أو الحائزة على الجنسية، أسوةً بسائر المواطنين. الاّ أن سلوكهم يتخذ منحى انطوائياً على ذات الجماعة وابتعاداً نسبياً عن مشاغل زملائهم في المجتمع الحاضن. ففي فرنسا، مثلاً، وفَّرَ اليسار، نقابياً وسياسياً، معبر المشاركة في الحياة العامة والاندماج المقبول في النسيج الاجتماعي، وكان الضامن لحقوق الوافدين العاملين في أدنى السلم الاجتماعي. يذكر أن المهاجرين شكّلوا نسبة محترمة من الأوساط العمالية في المناجم والمصانع الكبرى، وتوزعت جماعاتهم جغرافياً طبقاً لخريطة التعدين والتركز الصناعي، تماماً كما هي الحال بالنسبة للمغاربة والأتراك في ألمانيا أو الأفارقة العرب والسود في إيطاليا. ولقد سجل تعديل ميزان القوى داخل اليسار لصالح الحزب الاشتراكي منذ أواسط السبعينات من القرن المنصرم، بدء انكماش شرائح المهاجرين وتقوقعهم في الضواحي إثر بعثرة الانتاج الصناعي وإغلاق وحدات تقليدية واسعة في قطاع الصناعات الثقيلة ونقص أعداد العاملين في مؤسسات الانتاج الى الحد الأدنى وتعميم البطالة في صفوف المهنييّن والشباب المقبل على العمل. دخل اليمين المتطرّف الى قلاع احتفظ بها اليسار لعقود، حاملاً معه التوجّس من الغرباء والعداء المعلن للهجرة الزاحفة. هكذا اجتمعت العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأبرز مثال بروز رابطة الشمال في شمال ايطاليا الصناعي، فيما امتدت ظاهرة الصحوة الاسلامية بين المهاجرين تطرح مسألة الهوية الثقافية وتعقد إشكالية الاندماج جرَّاء هذه التحولات المعطوفة على تردّي اللوحة الاجتماعية وازدياد البطالة بوتائر عالية في بلدان المنشأ. رتابة السياسة جليَّة حين تحتجب القضية وتتبخر الأحلام. أرست الأحادية القطبية في زمن العولمة قواعد اللعبة الجديدة على أنقاض التشرذم الضارب في مفاصل حركة خفضت سقفها من الثورية والراديكالية الى الممانعة والاعتراض. بالكاد تخدش مناهضة الرأسمالية الظافرة خصمها التاريخي اليوم، وهي تسير في صفوف متفرقة، تضم الهجين والفولكلوري ومن يحن الى الماضي والمدافع عن أقليات مهمَّشة تائِهة في بلدانها، ونقابات شبه مُروِّضَة تجهد للتوفيق بين مصالح عمال الدول الميسورة وجحافل العاطلين عن العمل المتوثبين لانتهاز الفرص والالتحاق بالوحدات الانتاجية الوافدة إلى دولهم بحثاً عن يد عاملة رخيصة. شاخت الأحزاب وجرفت العصر الذهبي للعمل النقابي بجريرة مسايرة المُستثمرين ومعضلة القضاء على البطالة. الحقيقة أن المتغيرات السريعة الناجمة عن الثورة التقنية والمعلوماتية قد فاجأت المشرفين والقواعد، في الوقت الذي قعدت تعاني فيه من بطء الابداع النظري وشحّ الأدوات الفكرية. وعليه، تبحث المنظمات السياسية والنقابية وحتى الأهلية عن بوصلة مناسبة تخوِّلها التكيف مع المعطيات المتسارعة ومقارعة رأس المال بحلته المعاصرة وشركاته العابرة للقارات، ولِم تجنّب الاعتراف، بصمود نظامه وإخفاقات الاشتراكية وتقادم بعض أطروحاتها الفكرية وقصور جزء من أدواتها عن الإحاطة بالمعطيات المتسارعة. على صعيد المواجهة السياسية في حديقة الرأسمالية الخلفية، في أميركا اللاتينية ودول العالم الثالث الناشئة، ينبغي الحرص على الاتزان في تقويم ظاهرة اليسار الجديد والحكم على محموله. فتحت خيمة تحدي الولاياتالمتحدة، ثمة جوامع مشتركة بين الأفرقاء، ونوازع غير متطابقة، ومسارات مختلفة تبعاً لتفاوت البُنى الاقتصادية والاجتماعية، وفارق مستوى الوعي السياسي والتجربة التنظيمية. فبين لولا في البرازيل وتشافيز في فنزويلا أو موراليس في بوليفيا الفقيرة وأورتيغا العائد إلى رئاسة نيكاراغوا بون ليس بالبسيط، في إدارة الاقتصاد ونبرة الخطاب وعملية البناء ونمط التأييد الشعبي وممارسة السلطة. وفي مطلق الحال، وإزاء الصعوبات التي ستواجه كوبا خلال الفترة الانتقالية القادمة، يجدر التروي في تثمين المنجزات، والحيطة اليقِظَة من التسرّع في الاستنتاجات، والتعويل على المبارزة النديَّة مع القوة الأميركية. هذا لا يعني مطلقاً التقليل من أهمية الجاري في أميركا اللاتينية، أو إنقاص مدلوله، بل يدعو إلى إيلائه الأهمية، في مجرياته وآفاقه، من دون مبالغة أو تضخيم تنظيري يعيدنا إلى دائرة العالمثالثية والانطلاق منها للتنبؤ بالمواجهة الشاملة. في الميزان الدولي، من الأنسب معاينة مجموعة دول وازنة، سائرة طرداً نحو مقاعد الكبار وزيادة حجم حضورها المؤثر دولياً. هي خمس: الصين العملاقة والهند المتعصرنة وروسيا المرتدة نحو الرأسمالية بجرعة مافياوية طفولية والبرازيل المذكورة آنفاً وأفريقيا الجنوبية الخارجة من نظام التفرقة العنصرية. تلك دول ستترك بصماتها على اقتصاد العالم وسياساته في المستقبل القريب، وتؤلف أكبر كتلة بشرية بلا نزاع. هنا بيت القصيد، اذا جاز القول، وهنا، الى حد معقول، مصنع الغد ومشتله. الثابت أن جميعها في البرازيل يعمل اصلاح دستوري ذو هوية عمالية على مكافحة الفقر وتصحيح الخلل الاجتماعي الفاضح من دون التضييق على قباطنة الاقتصاد أو الظن بهم والنيل من التزامات البلاد تجاه الأسرة الدولية ينشد التحديث ودفع وتائر النمو والتظلل بمنظمة التجارة العالمية، والافادة من"منافع"العولمة وحوافزها، واعتبار الشأن العلمي والاقتصادي المنفتح مقياس النجاح وضامن السياسات الاجتماعية المستقبلية. ويمكن إيجاز الموقف العام لهذه الدول بأنها تصنع السياسة في خدمة الاقتصاد، وتستأخر المعركة الايديولوجية إن لم تودعها في ثلاجة لأمد منظور. هل ماتت السياسة؟ كلا بالطبع. لكن العالم قلب الصفحة وعلى العجائز أن يستريحوا ويخلوا الساحة لجيل جديد. سياسة النخبة التقليدية الفوقية لن تعيد النظر بمنطلقاتها، ولا هي بحاجة إلى قضية. والأرجح أنها ستكتفي بالتكيّف مع المراحل والاقتراب مزيداً من المعالجة الاجتماعية بوسائل توفرها طاقة الاقتصاد المُتنامية وهذه أيضاً موضوعة تُخالف القراءة الماركسية الدوغماتية وتدعو الى التفكر وربما التجديد وإعادة النظر بقوالب نظرية. أما اليسار، فلقد طعنت مرجعيته الاشتراكية مرتين: مرة حين أكد فصيل أساسي منه أنها تحققت، وأخرى عندما كابر جميع أبنائه ولم يقتنعوا أن ما حصل للكتلة الاشتراكية زلزال أطاحَ ببنائها، وما هو أشدّ إيلاماً، أصابَ حلم الجميع والصورة المثالية بسهام مسمومة. * كاتب لبناني