هل كتب على ادباء العراق ومثقفيه حياة التشرد والمنفى؟ بهذا السؤال بدأ صديقي مكالمته الهاتفية معي، معتذراً عن اللقاء في مقهى او مكان عام"لأن مجرد قطع المسافة بين منزله وأي مكان آخر اصبح محفوفاً بالخطر"، كما قال، وأضاف:"هل علمت بآخر الاسماء المهاجرة من اصدقائنا وزملائنا الادباء؟". ومن دون انتظار جواب راح يتلو على مسمعي قائمة بالمهاجرين الجدد شملت قصاصين وروائيين وشعراء حزموا حقائبهم منطلقين الى المجهول، خارج الحدود، وليس في رأس احد منهم صورة واضحة عن المستقبل الذي ينتظره، لا الذي كان يخطط له إن كان العراقيون قد اتيح لهم يوماً ان يخططوا لمستقبلهم! المهم اليوم عند"المهاجرين"هو الامساك بطوق النجاة من دوامة العنف اليومي والموت بالمجان، حيث"صورة العراق"التي لا صورة تتقدم عليها، او تنافسها، على"شاشات الفضائيات"... و"طوق النجاة"هذا، كما قال احد الادباء المهاجرين، ليس شيئاً آخر سوى"المعبر الحدودي"الى بلد آخر، غير العراق! واذا كانت"صورة العنف"هذه هي ابنة"العهد الجديد"، فإن"صورة الهجرة والمهجرين"ليست بنت اليوم. فمنذ آخر سبعينات القرن الماضي وعملية الهجرة مستمرة، وقد تصاعدت على نحو كبير، ولافت للمنظمات الانسانية والدول التي فتحت باب اللجوء للعراقيين، في تسعينات القرن الماضي، ولم تتوقف. واذا كانت بدايات الهجرة هذه تمت"لأسباب سياسية"، فإن الهجرة من بعد ذلك، لم تكن كلها للاسباب ذاتها... بل كان وراءها، في الثمانينات، الحرب العراقية - الايرانية التي حصدت من حصدت، وهرب من نارها، قبل ان تناله، من هرب"نافذاً بجلده"كما يقال. اما هجرة سنوات الحصار فكانت الاكثف، وكانت هجرة النسبة الكبرى من المهاجرين لأسباب اقتصادية - معيشية، حيث ضاقت موارد العيش على الجميع،"الا من عصم ربي"، على حد تعبير اخواننا في مغرب الوطن العربي - لكنّ جانباً كبيراً من هذه"الهجرة"كان أن اخذ، من بعد ذلك، طابعاً سياسياً، املته الظروف. ومع ان أعداداً قليلة من هؤلاء المهاجرين عادوا الى ارض الوطن بعد الاحتلال الاميركي له، الا ان"عودتهم"لم تكن سوى زيارة للاهل اكثر منها لتفقد الوطن، وما لبثوا من بعدها، ان قفلوا راجعين الى منافيهم الاختيارية هذه المرة، وقد وجدوا الحياة في"بلدهم - الاصل"على خلاف ما كانوا يتوقعون ويأملون... الى جانب كون البعض منهم جاء بمهمات محددة، وعند الانتهاء من ادائها غادر كل الى"منفاه". مع هذا كله، فإن مثقفي الداخل، كما اطلق"المهاجرون"على غير المهاجرين ممن بقوا في الوطن، معانين مشقات العيش وعذابات العزلة الثقافية، حاول كثيرون منهم بسط ايديهم على انها بيضاء من غير سوء وفتحوا اذرعهم لاحتضان الوضع الجديد، مبشرين بالحرية التي حرموا منها على مدى اربعين سنة، كما قالت قاصة وروائية تمتعت بامتيازات كثيرة في الوضع السابق، ورافعين شعارات الديموقراطية، ودولة المؤسسات، وكتب منهم من كتب عن الآمال المنتظرة من الوضع الجديد... وبعضهم ذهب في ما هو ابعد من نطاق الثقافي اردت القول: بالتجاوز على الثقافي، وراح في محاولات دائبة لكسب ود"المؤسسة"، من دون ان يدرك ان هذه المؤسسة لا تمتلك ارادتها، معلقاً قلادة الابداع على صدور اميين ثقافياً، وسياسيين طارئين على السياسة... وفي الختام تبين له ان حساباته لم تكن دقيقة. بعد عمليات التهميش لهذا المثقف، سواء عبر سلطة الاحتلال او ممثليها ورجالاتها، ام عبر المؤسسة الثقافية التي علقوا على بابها رجاءاتهم الخائبة، فقد اهمل الطرفان الثقافة، والمثقف على نحو بالغ السوء، ووجد هذا المثقف نفسه يدفع الثمن باهظاً، من دون ان يحصد شيئاً سوى الخيبة. ثم ما لبث هذا المثقف ان وجد نفسه مجرداً من كل اسلحته، بما فيها الكلمة، واقفاً في عراء الاحتراب الجاري اليوم على ارض بلده، لا احد يحميه لأن من يطلب الحماية منه غير قادر على حماية نفسه، ولا سند له. بل لا احد يعنيه شأن هذا المثقف وشؤونه. وتبين له ان ما حسبه"عملية سياسية جديدة"لم يكن اكثر من وهم لتغطية مصالح، وتلبية"اجندات"، وتنفيذ برامج اكبر، لا فائدة منها للوطن، ولا نفع يعود على ابنائه بما كانوا يأملون. والاكثر من هذا، والاشد سوء وقع على هذا المثقف انه وجد نفسه مستهدفاً لا في مشروعه الذي لا وجود له اساساً، وانما في حياته، خصوصاً بعد عمليات القتل المنظم التي طاولت اساتذة جامعيين، وأطباء، وعلماء وفنانين، وإعلاميين وصحافيين، فضلاً عن علميات الاهمال المتعمد التي وجد هؤلاء المثقفون انفسهم اول ضحاياها، ليبدأوا الهجرة. وقبل هذه الهجرة المتواصلة اليوم كان هناك كثيرون، بالمئات والآلاف المؤلفة: ادباء، وشعراء وفنانون، وأكاديميون، وأطباء، وصحافيون وإعلاميون، ادركوا الخطر مع بدايته، فشكلوا طليعة المهاجرين، ناجين بأنفسهم من دمار واقع لا محالة، وإن لم يدركهم فهو ادرك الوطن. غير ان السؤال الذي يثار امام هذا كله، ولطالما أثاره أكثر من اديب وكاتب، هو: هل سيكون ادب المستقبل العراقي ادب منفى؟ ان قلة قليلة من الذين هاجروا من قبل كتبوا ونشروا. وقلة من الذين يهاجرون اليوم يحملون معهم، الى المنفى، استعدادات الكتابة... ف"للمنفى حياته، وللمنفى ثقله على حياة المنفي وعقله، وكذلك للمنفى شروطه التي لا يستطيع الجميع الامتثال لها"، كما كتب لي احد الادباء الاصدقاء، وقد اردت ان اعرف منه ماذا كتب خلال ثلاث سنوات له في المنفى.