"الأدب هو جمهورية التسامح" هذه العبارة ليست لي، بل لمعاصرنا الكاتب الفرنسي جان ماري لكلافتين. انها تصلح للحديث في عموميات التاريخ الثقافي العراقي الماضي والمقبل معاً. فالحقبة السوداء التي ما زالت تنصرم، ستطبع بصماتها، من دون ريب، على ما يطمح اليه العراقيون من بياض ناصع لبداية تاريخ جديد مبني على قواعد لعبة جديدة، منفتحة، وحرة، تأخذان فيها الفردانية البناءة والحميمية دورهما اسوة ببقية ثقافات عصرنا. يعلمنا التاريخ ان الشهود الاكثر تجربة هم الاشد مرارة وربما الاكثر قسوة من الآخرين الذين شهدوا التجربة عن بعد ولم يدركوا غير نصفها. هكذا حال غالبية مثقفي المنفى من العراقيين، خصوصاً اولئك الذين قطعوا فيه شوطاً طويلاً، وأنا بينهم - ان حسبت نفسي من فئة المثقفين - فقد مضى على مغادرتي اكثر من 27 عاماً، وعمري اليوم 48. قد تبدو هذه الحال ايجابية - وهي كذلك - للحكم، في شكل عمومي، موضوعي، على واقع الثقافة العراقية والنظر، خصوصاً، في امكان نجاح خطوتها الاولى نحو مستقبلها. قليلة هي الثقافات التي شهدت تخريباً منظماً، ولأمد طويل، في عصرنا كالذي شهدته ثقافتنا العراقية. بل لعلنا، لسوء الحظ، اكثر الشعوب التي تعرضت موهبتها الثقافية للخراب على نحو صيني، بعد الصين نفسها. فآلة السلطة، ومنذ بداياتها استهدفت البنية الثقافية على مراحل شبه مدروسة اولاً، ثم مدروسة باتقان في ما بعد، لتصل في عقد التسعينات الى النسف الكامل للبنية الثقافية للمجتمع عموماً. فبذريعة الحصارتحول بمقدار 160 درجة في البنيان الثقافي مؤسساتياً ومجتمعياً. النظام التعليمي فقد دوره - المترهل اساساً منذ عقدين - وعادت الامية والأمية الثقافية الى مستوى اوائل القرن الماضي. النظام الجامعي بدوره فقد مؤهلاته اثر الهجرة الكثيفة، التي اعقبت الهزيمة العراقية، وتخلخلت المناهج وانحدر مستوى البحث ولم تتجدد النخب الجامعية بعد ان انقرضت نخب الستينات او ابعدت او هاجرت. الرقابة القاسية للحزب الحاكم ومؤسسات الدولة حاصرت بدورها، وباتقان، عملية الانتشار الطبيعي للثقافة سواء الدينية ام العلمانية، التراثية ام الحديثة، ما اخل بمنظومة التفكير ذاتها للفرد والمجتمع. لا نتحدث في باطل ولا نتعمد جرح خاطر احد حين نصرح ان لا ثقافة في العراق بالمعنى المتداول في علوم الادب. لا ثقافة في العراق اذا اخذنا في الاعتبار وظيفة الثقافة في المجتمع، ودور طبقة المثقفين في خلقها وتسريبها للطبقات والفئات الاجتماعية عبر ميكانزم معقد يشكل جوهر الفعل الثقافي. لعل من يسأل بغضب وباحتجاج مجروح، كيف نسمي اذاً ما ينتج في العراق؟ الحقيقة ان ما هو قائم، واقعياً، هو نظام عبادة الفرد القسري المعوض لكل نشاطات المجتمع بما فيها الثقافية. باختصار، صدام حسين يمثل هدف الثقافة ووسيلتها ايضاً. موضوع الثقافة وخالقها. فكل مقالة سياسية او دينية او فكرية او تاريخية، رواية او قصة او قصيدة، تمثال او لوحة، كلمات اغنية او موسيقى، فيلم سينمائي او تلفزيوني، اهزوجة قبلية او رفع علم في ساحة المدرسة، ينبغي ان يكون في المجرى الذي يتقاطع مع دور صدام حسين ان لم يكن موضوعه الرئىس. بالتالي فإن التناقض او الاختلاف او الاجتهاد او النقاش - وهي مفردات لفعل واحد يكرس الحيوية الثقافية التي تسمح بانتشار وتطور الثقافة واستيعابها - غائبة كلياً عن السياقات التي تتم في مجراها العملية الثقافية. هذا استنتاج يصدم كل من يعاين الواقع الثقافي العراقي اليوم، وهو يشكل صدمة للحاضر وعقبة امام المستقبل المفترض! ينبغي اخذها في الاعتبار على نحو جدي. لكن، قبل الوصول الى هذا الدرك فإن مراحل عدة احرقت فيها الثقافة والمثقفون من اجل الوصول الى هذه الحال النادرة. للأسف، فإن الكثير من المثقفين، انفسهم، كانوا حاملي اعواد الثقاب بل المشاعل في هذه المحرقة، التي ستحرقهم بعد ذلك بسنوات. لا اشير الى الستينات ولا السبعينات - التي لم تنتقد بعد - والتي كانت عجلة الصراع فيها سياسية - دموية في الدرجة الاولى، سحقت بدورها نبتة المثقف وحولته من مبدع محض، متسام - ككل زرع للأرض - ذو موقف سياسي بالطبع، الى مدافع ومبرر وبراغماتي اعمى يقف خلف الاحزاب، التي بدورها خلف المجتمع. من مفارقات تاريخنا ان المثقفين كانوا اقل ديموقراطية من عموم الناس، مثلاً انما اتحدث عن سنوات الجمر والحرائق في الثمانينات والتسعينات. السنوات التي طغت فيها صورتان على صورة العراق، هما صورة صدام حسين وصورة الحرب، وكلاهما نصف صورة واحدة مكبرة بابتذال هي سمة الحقبة كلها. لن أنتقد مشاركة المثقفين في الحرب، فالذين جندوا بالقوة او تحت طائلة القوانين السائدة في العراق، حالهم حال الشعب كله الذي كان مجبراً على خوضها. انما انتقد ما هو مؤس، وهو تطوع وفرة من الادباء والكتّاب للمشاركة في الحرب والدعاية لها وتمجيدها والهتاف، عبر الادب، لمشعلها. ففي تصاعد نيران الحرب تصاعدت نيران المحرقة الثقافية وتجند غالبية مثقفي الداخل في جحافل عسكرية، وسادت الوشاية والتحريض وأصبح الابتذال موهبة، وبدأ العراق يعيش احلك مرحلة في تاريخه منذ ألف عام، ربما. لعل الكثير ممن كانت الحرب فرصتهم - بعد ان اخذ طريق المنفى المئات من ضحايا موجات العنف الاولى - او ان شجاعتهم لم تكن بالمستوى الانساني الذي يعبر عنه الادب، صاروا يرفعون اصواتهم اعلى كلما ازداد دوي الحرب كأنهم في كرنفال يطالبون، بل يقسرون الجميع على المشاركة فيه. ان ادب الحرب العراقي ليس ادب حرب كما هو متعارف عليه في الادب الانساني، بل هو كل وساخات مجتمعنا التي تراكمت عبر اجيال من القمع وسوء التربية. انه دملة في تاريخنا الحديث وعار على كتابه. حين نعلم ان غالبية من كتبوه قد اداروا دفة الحرب الثقافية بتطوعية نادرة عبر وظائف ادارية وهبات "رئاسية" وتوجيهات وابتكار افكار مسوخ واصطفافات وقمع ووشاية لمن لم يشارك في كرنفالاتهم، بل بنبشهم لقبور الاموات وحذف اسمائهم من شواهد القبور ولعن الاحياء المنفيين وتجريدهم من هوية الانتماء الى الوطن. كل ذلك ساعد على نفخ اوداج الديكتاتورية والديكتاتور والدخول في متاهة حرب اخرى اشد تدميراً من تلك التي سبقت. هكذا صار من وضعوا "سماء العراق في خوذة عسكرية" ضحية، في ما بعد لما بشروا به، ففر من فر وسكت من سكت وخاض المتبقون في الوحل حتى هاماتهم. ان عار الذين تطوعوا للحرب وأذكوا نيران المحرقة وانصاعوا وبشروا بالفكر العنصري والنزعة البدائية وأيديولوجيا العنف كنموذج عراقي وحيد، لن يمحى قبل ان تطوى صفحات جديدة مشرقة لأجيال مقبلة. الغريب، وهذا ما يستدعي من المثقفين العراقيين التأمل قليلاً والتواضع امام الآخرين، انهم لم يحتالوا على الرقيب ولم ينظموا انفسهم في جبهة رفض صامت او سري، كما حصل في بلدان عدة سحقها قمع الديكتاتوريات. بل ان الجمهرة الكبرى اصطفت مع النظام ورأسه بحماسة وبحجج متعددة لا تبرر - ابداً - في حال المثقف القادر على اجتراح "موته في برجه العاجي" بتعبير الكاتب الفرنسي المتعاون مع حكومة "فيشي" دريو لاروشيل. في سباق الجبن هذا، سقطت اسماء كان لها دور حميد في الماضي، ودخلت في قائمة العار اسماء اخرى شابة. الادهي، ان سرايا من هؤلاء ملأوا كرشهم الثقافي خلال سنوات الحرب لم أجد كلمة اخرى مناسبة لكنهم تركوا البلاد، لا كقبطانات شجعان يغرقون مع سفينتهم، حالما خفتت ريح عاصفة الصحراء! ليتحولوا الى مناضلين ضد الديكتاتورية وضحايا مثلي من ضحايا القمع، من دون ان يتخلوا في عبارة واحدة عن تاريخهم السابق او يقدموا اعتذاراً لأصدقائهم وشعبهم، بل انهم اضافوا خطيئة اخرى بفتحهم جبهة عداء وتشكيك بوطنية المنفيين ومزايدة، تدعو للشفقة، في قدراتهم على تحمل اهوال الحرب والقمع وقحل الوطن! الأكثر من هذا، انهم نجحوا، بتراص نادر، في خلق تكتلات، هي تكتلاتهم ذاتها في الداخل، لزيادة الفوضى واختلال الأحكام في الدغل الثقافي العراقي في المنفى. لا يشكل هذا الحكم، اعتراضاً على توسيع جبهة العداء "للجينوسيد" Genocide الثقافي وعبارة الفرد في العراق، انما عودة لمعايير خلقية لا تجعل الآخرين، المنفيين، يشعرون بالغبن وضياع معنى مقاومتهم في المنفى طوال فواصل قرنية. نعم، فالبعض منهم قضى شطراً من القرن الماضي وصرف نصف حياته في متاهة المنفى التي يضيع فيها معنى الزمن ويغيب فيه المكان فيزيقياً ويبتعد روحياً. اي في الحيز الذي يصبح الوجود فيه ضرباً من العذاب المستمر. على نحو آخر، صحيح ان الأوراق مختلطة اليوم، على المستوى السياسي، في حمى البحث عن كل وسائل تسريع سقوط نظام صدام حسين، حيث ان غالبية معارضي اليوم، هي من بيت عنكبوت النظام قبل عقد من السنوات. وهذا ينطبق ايضاً، الى حد ما، على المستوى الثقافي. لكن، في الحال الأولى فإن الوضع الدولي وحجم المراهنة سيلعبان دوراً في تجنب نبش الماضي حال التغيير. لكن، على المستوى الثقافي، فالأمور اقل انضباطاً وأقل تأثيراً في مستقبل البلاد. وهنا نتساءل ما الذي سيفعله مثقفو العراق حينما سيعودون بعد ان تنجلي غبرة الحرب التي يستعد لها الجميع، والتي لا شك انها واقعة بما يغير جزئياً واقع البلاد السياسي؟ من دون شك، لن يعود الجميع في رحلة واحدة كما يحدث في احلامهم. لكن الكثرة سيعودون في "فوضى الشجاعة" التي ستفرضها الأحداث، بتعبير اندريه مالرو. وسيستقر البعض من جديد بحثاً عن مكان تحت شمس البلاد. لن تهدأ الفوضى في ايام، إذا اخذنا تراكمات الحال العراقية وتعقيداتها في الاعتبار. الأحداث العنيفة ستقع على رغم العواطف المفترضة. سينتقم البعض، خصوصاً الضحايا المباشرة وشهود العيان، بطرق فظة، غير انسانية وسنرى المشاهد القاسية التي رأيناها في وقائع مشابهة. كأني بمشهد شاعر، رفع طاغية العراق الى مستوى الله، يقوده الناس من شارع في بغداد الى ساحة والأكف والعصي تنهال عليه قبل ان يعلق على عمود كهرباء! ان تجارب الشعوب تشهد بذلك، في باريس المحررة عام 1944 او في بوخارست التي طرحت شاوشيسكو رمياً بالرصاص من الخلف خلال عيد الميلاد عام 1989 والأمثلة كثيرة. لكن، مرة اخرى ما الذي سيفعله المثقفون الذين قضوا شطراً من حياتهم آمنين في جمهوريات مرت بأحقاب قاسية قبل ان تثبت في دساتيرها وذهنية اهلها لغة التسامح؟ ما الذي سيفعله مثقفو العراق لكي يواصلوا جمهورية التسامح التي لم يعيشوها في بلادهم وحلموا بها طويلاً، على الأقل في ما يتعلق بالأجيال التي لم تر غير حقبة الديموقراطيات الثورية ودمويتها؟ ان الشعور بالغبن يملأ اذهان جميع العراقيين، في الخارج كما في الداخل، تلك حقيقة اولى. لكن هل ان تجربة ثلاثة عقود من الرعب، ستكفي كتجربة امام امتحان المستقبل؟ لا جواب على ذلك الآن. غير ان مثقفي العراق الذين سيعودون سيفاجأون بحجم الرعب والخراب الذي تغنى به زملاؤهم يوماً، لكنهم سيكونون مضطرين الى طي صفحة وفتح اخرى، جديدة على الأقل لمواصلة براءتهم. هل سيكون للتوابية التي حكمت الذهن العراقي طويلاً - منذ ثورة المختار الثقفي الذي انتقم من قتلة الحسين - مغزى بعد تجربة الألم الطويلة هذه؟ هل سيكررون تجربة المحاكم الثورية كما حصل بعد انقلاب 14 تموز يوليو 1958 أو حركة الشواف في الموصل عام 1959 او بعد انقلاب شباط فبراير 1963 لكي لا نمضي ابعد في التاريخ؟ ام انهم سيمضون ابعد من ذلك، بمعنى ان يتغلبوا على الثأرية المتأصلة عبر اجيال وتجارب ويقهروا الشعور بالغبن بمفهوم حضاري؟ ان مفهوم العفو قديم في تراث ثقافتهم الإسلامية خصوصاً. وبالتالي فإن عليهم اجتراح دار ابو سفيان جديدة في بغداد، دار للطلقاء الذين لن يكون اسلامهم إلا إنقاذاً لأرواحهم. وحفظاً لماء وجه العائدين تواً. لا بد لكل مثقف عراقي من بردة، هي رمز عفوه عن الماضي. لا شك ان منطق جمهورية الأدب، جمهورية التسامح، هو الذي ينبغي ان يحكم منطق المنفيين منذ اليوم. فمنطق هذه الجمهورية ليس اقل قسوة من منطق القانون الجنائي، ذلك انه منطق تاريخي ايضاً له ثقله. لقد اعدم الكاتب الفرنسي برازياك بعد تحرير باريس بقرار محكمة، وانتحر دريو لاروشيل في مطبخ شقته، غير ان التاريخ الأدبي الفرنسي اكثر قسوة عليه من برازياك. اما حال فردناند سيلين - اعظم كتّاب فرنسا في القرن العشرين - فهي ما زالت حاضرة في اعين النقاد ومؤرخي الأدب، بعد نصف قرن من انتهاء الأحداث، على رغم فوز كاميلو ثيلا بجائزة نوبل، فإن مثقفي اسبانيا ظلوا يلومونه على سكوته خلال الحقبة الفرانكوية. وليست حال كارمن لافوريت، التي تقضي أرذل عمرها في مصحة عقلية بعدما فقدت ذاكرتها نهائياً، بأفضل منه، وقد كتبت كل رواياتها من دون ان تدين فرانكو مرة واحدة أو لأنها وافقت على جائزة "ندال" الرسمية. بل ان الفيلسوف الألماني هايدغر ما زال يثير الجدل والانتقاد لتعاونه مع رايخ فايمار. لا بد للمثقفين العراقيين منذ الآن ان يفكروا بمفهوم عفو تاريخي، سيكون تأثيره بحجم الخراب الذي حل بالعراق وفي الثقافة العراقية. سيقاضي القانون الجنائي من ارتكب جرماً مادياً، وسيثبت براءة من هو بريء كما يثبت اليوم براءة اكثر المنفيين. وليس على الأخيرين إلا كتابة تاريخ وقائع هذه الحقبة بتفاصيلها وقراءتها ونقدها ادبياً كدرس تاريخي، اسوة ببقية ثقافات الدول المتمدنة، تجنباً لتكرارها. لا بد من قراءة تبحث وتفسر وتترجم الحقبة كلها الى درس مثمر. فالقراءة كما يكتب الأرجنتيني ألبرتو مينخل "تجنبنا فرض الصمت على الآخرين. اذ انه من المؤكد اننا لا نطمح الى غياب آخر، أو فراغ لمئة او ألف عام اخرى، بل حقبة صلح تعلو فيها اصوات ويؤخذ فيها حق الكلام الذي صادرته السلطات لوقت طويل". سيعزل منطق الأحداث والخبرة التاريخية المتعاونين مع نظام صدام حسين عن ادارة شؤون الثقافة في زمن قياسي. من شاء منهم ان يجرب المنفى، فليجربه، ليرى انه ليس الفردوس الذي اتهم الآخرين بالنزهة فيه. لن يتشفى به احد كما تشفى الشاعر سامي مهدي حينما صرح الى جريدة عراقية ب"انه ينعم بشواطئ دجلة والمنفيون يموتون شوقاً إليها". جمهورية الأدب العراقي ينبغي ان تضم كل من له علاقة قربى بها، ولن يحاسب احد على درجة حبه المعلن او المضمر للوطن، فحب الوطن لا بد من ان لا يكون سؤالاً يطرح، هو امر خاص كشأن اي عاطفة. وجمهورية التسامح تبدأ حينما يصير الحياء قانوناً ادبياً والعفو اعلى درجات الحياء. * كاتب عراقي مقيم في فرنسا.