يحكى أن حكيماً استدعى أولاده وهو على فراش الموت وأوصاهم بالمحبة والتضامن والتكافل، ودعاهم إلى نبذ الخلافات ومنع الفتن وأخبرهم بأنه ترك لهم ثروة يتقاسمونها بالتساوي مع سجادة ثمينة لا تقدر بثمن طلب منهم أن تكون لهم جميعاً من دون تفرقة ولا تقسيم كملجأ أخير لهم عند الحاجة الماسة لبيعها وتأمين مستقبلهم. مات الرجل واختلف الأبناء وتابعدوا وأنفقوا ما ورثوه على الملذات بسفه وتبذير... وحانت ساعة الحقيقة عندما ضاعت ثروتهم وأفلسوا، فعادوا ألى فتح ملفاتهم القديمة فلم يجدوا سوى السجادة الثمينة التي أوصاهم والدهم بالحفاظ عليها كاملة غير منقوصة... وبعد أخذ ورد وشقاق وخلاف تغلب الجهل على العقل ودخل شيطان الطمع على الخط وصور لهم أن الحل الأمثل يكمن في تقسيم السجادة الثمينة الى حصص متساوية بين المتنازعين الذين نسوا وصية والدهم ولم يفهموا حكمتها ومغزاها، إلا عندما صعقتهم الحقيقة المرة: حاولوا بيع القطع المتناثرة فلم يجدوا مشترياً واحداً، فقد فقدت السجادة النادرة قيمتها التي لا تقدر بثمن عندما قسمت، وفقد معها الأبناء الثروة الحقيقية التي كان من الممكن أن تعينهم على مواجهة متاعب الحياة بالقيمة والحكمة والمعنى. ويحكى أن حكيماً عربياً آخر شارف على الموت، فاستدعى أولاده وطلب أن يحضر كل واحد منهم عصاه ليحاول كسرها فتنكسر بسهولة ثم طلب منهم أن يجمعوا العصي في رزمة واحدة ويحاولوا كسرها فأبت عليهم وعجزوا عن ذلك، ففهموا مغزى دعوته وعملوا بوصيته وعاشوا في رخاء وعزة وقوة بعد أن تضامنوا وتعاونوا على البر والتقوى والتكاتف والتراحم والتكافل. هذان المثلان المعروفان في كتب التراث العربي الغابر أقدمهما هدية لكل عربي ولأصحاب الحل والربط في هذه الظروف المأسوية التي نعيشها وأجواء الفرقة والتشرذم والخلاف والاختلاف، لعلهم يفهمون معانيهما ويعملون بهما قبل فوات الأوان إذا كانوا لا يعلمون ماذا يفعلون ولا يدركون حجم المخاطر التي تحيق بالأمة من كل حدب وصوب. أما من يعلم ويمضي في غيه، وفي اشعال نار الفتن، وصب الزيت على نار الخلافات، فلن نطلب له المغفرة ولا التبرير مهما كانت حججه وذرائعه ونذكره، لعل الذكرى تنفع، بدعوة الله عز وجل إلى التضامن وعدم التفرق والاعتصام بحبل الله تعالى في قوله في منزل كتابه:"واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا". وتحذيره لنا من مغبة التنازع:"ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم". وفي الأحاديث الشريفة دعوات عدة للتضامن والتآخي من بينها قول سيد الخلق:"المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالحمى والسهر". وبعد ماذا يمكن أن نقول لهؤلاء الذين يرفضون الانصياع لدعوة الحق، وكيف نصف هذه الحال التي أوصلونا إليها وما زالوا في غيهم يعمهون ويستمرون في اذكاء نار الفتن وتأجيج نار الخلافات ورفض الاعتراف بالمخاطر والتهديدات والمطامع، أما آن لهذا الجنون أن يتوقف ونضع له حداً نهائياً لنعيش حياة آمنة مستقرة ونجنب أولادنا وأحفادنا وأجيالنا القادمة مخاطر الضياع والانهيار والدمار؟ وأين العقل والحكمة؟ بل اين الحكماء والمخلصون ورجال الاطفاء الأوفياء الذين يفترض أن يسارعوا لإخماد النيران قبل انتشارها لتشمل الديار والأهل وتحرق الأخضر واليابس؟ أسئلة نطرحها بحرقة وأسى لعلنا نسمع لها صدى أو نجد لها مجيباً ينبري من بين الصفوف ليقوم بعملية انقاذ ويدعو لتغليب صوت الحق وتأمين المصالح العليا للعرب وتجنيب البلاد والعباد شرور الفتن والحروب والنزاعات والنزغات الشيطانية، وتوعية الشباب من خطر الانجرار الى ما يزرعه البعض في نفوسهم لاستغلالهم وتقديمهم قرابين لشهواتهم وانحرافاتهم وتعصبهم ومطامعهم وغاياتهم وأهدافهم الخبيثة. هذه النقطة بالذات تثير القلق والخوف والأسى فأكثر ما حز في نفسي وأنا أرى بأم عيني تصدر الشباب من 15 الى 25 سنة في مشاهد الحروب والتظاهرات والاعتصامات، وفي المنابر والتلفزيونات والفضائيات وهم يتبادلون الشتائم ويتقاذفون بالاتهامات المشينة ويغذون الأحقاد. وهذه ظاهرة لا تبشر بالخير بل تدفعنا للتساؤل عن الحاضر والمستقبل وعن مصير الأجيال المنكوبة بالأخطاء والخطايا والمبتلاة بآفة التحريض والتعصب والجهل! ومن غير أن نسأل عن الصواب والخطأ، أو أن نتخذ مواقف مسبقة من هذا الفريق أو ذاك، يحق لنا أن نتساءل عن النتائج والآثار والذيول الناجمة عن قرارات غير محسوبة أو خطوات ناقصة مثل شن حرب أو اشعال نار فتنة أو افتعال معركة. أمثلة كثيرة يمكن تقديمها كدلائل على عواقب التهور إن لم نقل الجنون وآثار تغليب الغرائز على العقل واختيار طريق المواجهة بدلاً من المضي في طريق الحوار المثمر مهما طال وامتدت فصوله والمثال الأكثر قرباً وتعبيراً شهدناه أخيراً في الصومال، هذا البلد العربي الذي لا يعترف به الكثيرون منا، فقد اكتملت فصول الحروب المجنونة والوحشية أخيراً بسيطرة"المحاكم الإسلامية"على طول البلاد وعرضها واحتفالها مع مناصريها ومؤيدي توجهاتها الذين اعتبروا أن النصر قد تحقق، وان كل شيء أصبح تحت السيطرة وأن الجماهير رحبت بها وفرحت وزغردت واحتشدت لتبايع وتنضوي تحت لواء الجيش المنصور. لكن الرياح لم تأت بما اشتهت سفن"المحاكم"فانقلبت الآية وشنت قوات الحكومة الانتقالية، المعترف بها، هجوماً مضاداً بدعم من قوات اثيوبيا أو العدو اللدود الذي يحتل قطعة غالية من أرض الصومال، هي اوغادين، فاندحرت قوات"المحاكم الإسلامية"من مدينة إلى مدينة الى أن فرت من العاصمة مقديشو وهي تتوعد بأساليب جديدة وحرب عصابات ضد القوات الغازية. وسواء تحقق هذا التهديد ام لا فإن النتائج ستكون وخيمة على الجميع بقوات"المحاكم"والقوات الحكومية وعلى البلاد نفسها التي دمرها أمراء الحروب ودفع الشعب الصومالي الثمن الغالي من دماء ابنائه واطفاله ومن الدمار الذي لحق بوطنه والتهديد الذي يتعرض له حاضره ومستقبله. والمشهد نفسه يتكرر كل يوم في العراق وفي فلسطين ولبنان. عدو على الحدود وآخر في عقر الدار والفئات والأحزاب والطوائف والزعماء والقادة يتقاتلون ويتناحرون ويتبادلون تهم الخيانة والفساد والتخريب: العراق على حافة الانهيار والتقسيم والحرب الاهلية والفتن الطائفية. وفلسطين تضيع وتغرق يوما بعد يوم في بحار الفتن والمخاوف من حرب اهلية فيما العدو يسرح ويمرح ويعربد ويقيم المستعمرات ويكمل مؤامرة التوطين والضم والقضم. ولبنان يعيش تحت وطأة التهديد بحرب اهلية وفتن طائفية ومذهبية وصراعات وتهديدات واتهامات واعتصامات أوصلت كلها البلاد الى حافة الافلاس فيما الشعب يئن ويتوجع ويرتجف خوفاً من غد قد يحمل نذر الويلات. هذا التشابه الغريب قاسمه المشترك العناد والتعنت والامتناع عن سماع صوت الحكمة والعقل. الكل يتصرف على طريقة"عنتر شايل سيفه"أو على طريقة مثل"أنا أعمى ما يشوف... أنا ضراب السيوف". والكل يتصرف وكأنه على حق و"الآخر"على باطل. والكل يعتبر ان النصر سيكون حليفه وينسى او يتناسى ان النصر له عنوان واحد وهو العدو. والانتصار لا يكون حقيقياً الا عندما يصبح انتصاراً على النفس الامارة بالسوء. اما النصر على الاخوة والأشقاء والمواطنين وأبناء الأمة فهو هزيمة نكراء مهما حاولنا أن نزينها ونسبغ عليها صفات قدسية سامية. لم نتعلم بعد ان الحروب في ما بيننا هي شر كامل وان من يدعي الانتصار يعرف جيداً ان من يربح معركة لا يعني انه سيربح الحرب وأن الحروب كريهة كلها كر وفر وانقلابات ومتغيرات، ومن شهد الحرب اللبنانية يعرف تفاصيلها وشياطينها ويجب ان يستخلص منها الدروس والعبر. وما ينطبق على اللبننة ينطبق على الصوملة والعرقنة و"الفلسطنة"أخيراً. لهذا فإن واجب كل عربي ان يتوقف لحظات ليلتقط أنفاسه ويعيد حساباته ويسأل عن الخطوة التالية وعن النتائج والذيول والمخاطر والأضرار فماذا ينفع لو حقق فريق اهدافه على أنقاض الخراب والدمار؟ وماذا ينفع فريقاً آخر لو ربح معركة واحتفل بها على أطلال البلاد أو فوق جماجم الأطفال والأبرياء؟ والى متى سنستمر في جر الجماهير الى حتفها واستغلال تأييدها وهتافاتها وطيبتها لتحقيق اغراض آنية وغايات في نفس"يعاقيب"هذا الزمان؟ انها أسئلة حائرة ومحزنة يطرحها كل انسان عربي هذه الأيام وهو يشهد فصولاً جديدة من مسلسل المآسي والصراعات العبثية والتحديات المكلفة والجواب الموحد عليها هو: الحوار ثم الحوار والطريق الوحيد المؤدي الى شاطئ الأمان هو طريق العقل والحكمة والمرونة والنيات الحسنة. فاذا كانت السياسة هي فن الممكن، فإن الظروف التي نمر بها تتطلب منا موازنة معادلة"المبادئ والوقائع"أو الأهداف والواقع ليصبح فن السياسة هو فن الواقع وفن التعامل مع العقل. وقد تابعت لسنوات طويلة حيثيات وتفاصيل مفاوضات قيام الاتحاد الاوروبي فوجدتها قائمة على هذه المبادئ السامية والعقلانية والاساليب البراغماتية رغم الحروب الدامية التي خاضتها دوله في الماضي وكلفتها ملايين الأرواح البشرية، ورغم التنافس والتباين في التوجهات والسياسات والاختلافات العرقية والمذهبية بين شعوبها. فبعد مخاض عسير انتصر العقل وسادت روح التفاهم والائتلاف وتأمنت الحدود الدنيا من مصالح الجميع وفق مبدأ التسوية والحل الوسط. ولا أدري ما هي العوائق التي تمنع العرب داخل كل دولة من دولهم، وعلى الصعيد العام، من الوصول الى هذه المعادلة المجدية؟ وما هي الأسباب التي تحول دون توصلهم الى حلول وسط وتسويات لخلافاتهم رغم علمنا انها مصطنعة ومستخدمة كذريعة ينطبق عليها مبدأ"ظاهرها الحق وباطنها العذاب والباطل". نسأل رغم ايماننا بأن لكل شيء نهاية، ولكل أزمة حلاً، ولكل خلاف صيغة للتفاهم فلماذا لا نحصل على هذه النتيجة قبل خراب البلاد وفناء العباد؟ ولماذا نغالي في طلب مهر الدم المراق بدلاً من أن نحقنه ونوقف نزيفه؟ انها فرصة للعقل وفرصة للحكمة وفرصة للسلام ما زالت متاحة للجميع رغم كل ما نشهده من شروخ وجروح ودماء ودمار وكل ما نعيشه من خوف وقلق. وما على"الحكماء"سوى التحرك بجدية وسرعة وإيمان وحزم وعزم وحسم لاستغلال هذه الفرصة ووضع حد لهذه التراجيديا العربية الدامية وانقاذ ما يمكن انقاذه قبل فوات الأوان، ورأب الصدع بالحوار والتفهم والتفاهم ووأد الفتن وهي في مهدها. انها فرصة متاحة وقد لا تتكرر أبداً! * كاتب عربي