لم نكن بحاجة لهذه الحملة غير المبررة على الإسلام والمسلمين والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم لتزيد طين منطقتنا"بلة"وتصب الزيت على النار وتعطي المتطرفين من"قاعدة"وغيرها وقوداً لتبرير أعمالهم ودعواتهم وتدفع الشباب الى المزيد من التطرف والعداء والحقد والكراهية، فهمومنا تكفينا ومشاكلنا تقض مضاجعنا وأزماتنا تكفي وتوفي. وحسناً فعل البابا بنديكت في إبداء أسفه لهذا الخطأ الذي ارتكبه في محاضرته في المانيا وتكراره الإعلان عن احترامه للإسلام والمسلمين ودعوته للحوار بدلاً من الصراع: فقد كاد استشهاده بنص ظلامي حاقد من القرن الرابع عشر أن يشعل نار فتنة في المنطقة تمتد للعالم كله لتفجر غضب بليون ونصف بليون مسلم يتوزعون في شتى أنحاء المعمورة ويعيش منهم عشرات الملايين في الغرب. ولولا تدارك حاضرة الفاتيكان للأمر وتقديرها لخطورة الموقف وتحرك المسيحيين العرب لتطويق الأزمة وإعلان تضامنهم مع المسلمين، ولولا عقلاء المسلمين وحكماء الأمة الذين سارعوا لإطفاء الحريق والدعوة لتحكيم العقل، لاندلعت الفتن وحدث ما لا تحمد عقباه. وحبذاً لو راجع البابا بنديكت، وهو كما يقال منظر الكنيسة، أدبيات اسلافه واسلوبهم في التعامل مع المسلمين وتشجيعهم للحوار، ولا سيما البابا الراحل يوحنا بولس الثاني الذي كان داعية حوار حضاري وصاحب مواقف متميزة تجاه القضايا العربية وقضية فلسطين بالذات، على رغم كل ما يقال عن دوره الخطير والكبير في المتغيرات التي حدثت في العالم على مدى ربع قرن. ولا شك أن هناك أصابع اجرامية خفية تلعب لعبتها للايقاع بين المسلمين والمسيحيين في هذه المرحلة بالذات لتحقيق غايات خبيثة تهدف إلى اثارة الفتن واشعال نيران حروب دينية وطائفية لإنهاك الأمة وتقسيم الأوطان وتأليب العالم والغرب بالذات ضد العرب والمسلمين، وهو هدف تلتقي فيه الصهيونية وإسرائيل مع دعاوى المحافظين الجدد في الولاياتالمتحدة من اليهومسيحيين أصحاب نظريات"الفوضى البناءة"و"التفكيك النظيف"وتفتيت العرب وقضاياهم وشعوبهم ودولهم. ومن يتابع خط سير الحملات المغرضة يجد أنه يتجه في خط تصاعدي دائماً ويتخذ طابعاً تحريضياً مستمراً، فكلما هدأت أزمة نشبت أزمة أخرى، وكلما اشتعل حريق سارع المغرضون لصب الزيت على النار، وكلما هدأت ضجة تطوع مغرض أو حاقد أو مدسوس لإثارة ضجة مماثلة، وإلا بماذا نفسر ما نشرته صحيفة"لوفيغارو"الفرنسية بقلم فيلسوف مزعوم ضد الإسلام والرسول الكريم بالتزامن مع ضجة محاضرة البابا واستنفار العرب والمسلمين في العالم وفي أوروبا وفرنسا بالذات. إنها مؤامرة مدبرة لا بد من التنبه لخطورة مراميها وأهدافها والتعامل معها بالعقل والحكمة والموعظة الحسنة مع الحسم والحزم والرفض الكامل لأي اساءة أو تعرض لديننا الحنيف ونبينا الصادق الأمين حامل أهم وأعظم رسالة إنسانية في العالم. وعلى رغم الانتقاد الدائم والثابت لعملية التفجيرات الإرهابية في نيويورك وواشنطن وكل الأعمال الإرهابية التي طالت المدنيين الأبرياء في الغرب وفي دول عربية وإسلامية عدة، فإنه لا بد من التذكير بأن الحملة الحاقدة المغرضة قد سبقت زلزال 11 أيلول سبتمبر 2001 المدوي بسنوات، على رغم الالتقاء في الأهداف والغايات والنتائج والابعاد والانعكاسات. فعمليات الإرهاب أسهمت في اذكاء نار الحقد والفتن وأعطت الجهات الحاقدة والأطراف المغرضة مبررات وذرائع للذهاب بعيداً في حملتهم الحاقدة ضد الإسلام والمسلمين وشن ما يسمى بالحرب على الإرهاب، فيما اغتنمت إسرائيل الفرصة التي أسهمت في صنعها لضرب الشعب الفلسطيني والتنصل من التزامات اتفاقات السلام وتهويد الأراضي المحتلة وتهويد القدس الشريف ومنع حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة ومنها حقه في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس. ولكن الحملة التي نشهد بعض فصولها الآن بدأت منذ أكثر من ربع قرن بعد أن كانت خجولة ومترددة في السابق. فقد تزامن انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط الشيوعية وتفكك المعسكر الاشتراكي مع ظهور نظريات صراع الحضارات لصموئيل هنتينغتون و"نهاية التاريخ"لفرنسيس فوكوياما وصعود المحافظين الجدد في الولاياتالمتحدة وكلها تروج لمزاعم"العدو القادم"للغرب بعد انهيار الشيوعية وهو"الإسلام". ولهذا يجب إعادة العدة لمحاربته ومواجهته بشتى الطرق. وقد تراجع فوكوياما أخيراً عن نظريته بعد أن رأى بإم عينه سقوطها وبعدها عن"الهدف الروحاني"الذي قصده وتساقط بعض رموز المحافظين، إلا أن الحقد باق والحملة لم تنته فصولاً بعد، بل من غير المستبعد أن تأخذ أبعاداً أخرى في المستقبل القريب. وعلى رغم اعتذار البابا وانحسار أزمة محاضرته، فإنه لا بد من عرض مسلمات في الرد على ما أعلن بكل تعقل وموضوعية في إطارالنقاط التالية: 1- إن الإسلام أقوى من كل هذه الترهات والمزاعم وللمسلمين رب يحميهم والرسول صلى الله عليه وسلم محصن من مثل هذه الحملات، ولن تؤثر به رسوم مسيئة ولا مزاعم ظالمة وباطلة، فهو على خلق عظيم ولا ينطق عن الهوى وكل من يتعرض له سيهوي الى الدرك الأسفل ويحاسب على جريمته النكراء. 2- إن الاستشهاد بنص حاقد من القرن الرابع عشر مردود عليه بالحجة والبرلهان، بحيث ينقلب السحر على الساحر ويرتد الكيد الى صدور الحاقدين، فلو عدنا الى تاريخ هذه الفترة لوجدنا أن أوروبا كانت تعيش في القرون الوسطى أو ما يسمى بعصور الظلام حيث القتل والسحل والإعدامات والظلم والتحكم برقاب العباد والحروب الدينية من حروب الوردتين وحرب المئة عام والحروب الصليبية ومحاكم التفتيش واحراق العلماء والمخترعين والقديسين أحياء ورمي كل من يبدي رأياً أو يعلن موقفاً أو يكتشف نظرية علمية بالكفر والإلحاد والسحر والشعوذة فيلقى في غياهب السجون ليعذب ويحاكم صورياً ثم يحرق حياً أو يموت على"خازوق"! 3- إن الإسلام أعطى العالم كله حضارة إنسانية رائعة وقدم أسس العلم الحديث وأعطى المثال الرائع على الحوار والتعايش في تلك الفترة في الأندلس وبغداد ودمشق، فيما كانت أوروبا غارقة في الظلام. وقد قدم الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا في محاضرة له في مركز الدراسات الإسلامية في جامعة اوكسفورد الشهيرة قبل سنوات الحجة والدليل على هذه الحقائق، وعرض الوقائع الكاملة لعطاءات الحضارة الإسلامية للغرب وشرح كيف كان الباحثون والدارسون والعلماء يتوجهون إلى الأندلس للنهل من المكتبات الإسلامية والدراسة، فيما كانت بريطانيا وغيرها تفتقر الى الكتب والمدارس والمكتبات. 4- إن الرد على الحملات لا يكون بالعنف وحرق الأعلام والتعدي على الكنائس ورجال الدين والسفارات، بل بالعقل والحوار وتقديم الحجج والبراهين وكشف الجهات المغرضة واطلاع الرأي العام الغربي على الحقائق. وقد أشرت مرات عدة الى القصور والتقصير في الجهود العربية والإسلامية في تحقيق هذا الهدف السامي والاكتفاء بنشاطات موسمية أو"بهبات"سرعان ما تخبو عند هبوب رياح عاصفة ما. 5- ان الاسلام بريء من أعمال العنف وكل مسلم براء من الارهاب وأي عمل يؤدي الى"قتل نفس بغير حق"، فالاسلام هو دين الموعظة الحسنة والكلمة الطيبة ودين التسامح والسلام والعدل وحقوق الانسان، ولم يكن ابداً معتدياً أو كما زعموا انه انتشر بحد السيف. ولو بحثوا عن انتشار الاسلام في آسيا وافريقيا ومعظم أنحاء العالم لوجدوا انه تم بالحكمة والموعظة والدعوة الخيرة والقدوة الحسنة التي كان يمثلها الدعاة منذ ظهور الاسلام وأخلاقيات المسلمين من التجار والرحالة الذين كانوا يزورون هذه البلاد فيتعلق بهم أهلها ويعجبون بمبادئ دينهم الى ان يهديهم الله الى دين الخير. فالعرب تعاملوا مع جميع الشعوب من موقع التسامح والانفتاح على جميع الحضارات والأمم ومن منطلقات الاسلام الاساسية ولم يعرفوا التعصب والارهاب الذي هو صناعة صهيونية اسرائيلية استوردت الى المنطقة مع قيام اسرائيل وانتشرت بعد ان عم الظلم واستمر الاحتلال وكان المسلمون على الدوام في نصرة الآخرين كما جرى مع اليهود في الاندلس وغيرها عندما أنقذوهم من المذابح وأمنوا لهم الحماية. 6- ان العرب والمسلمين عاشوا مع المسيحيين في ديارهم المشتركة كالأخوة ولم يتعرضوا لهم على رغم كل ما نعرفه عن مجريات التاريخ. وحصلوا على حقوقهم وحافظوا على أعراضهم وممتلكاتهم وأماكنهم المقدسة وأكبر دليل على ذلك الكنائس والأديرة والمعابد التي ما زالت قائمة منذ مئات السنين لتشهد على هذا التسامح والتعاطي الحضاري والانفتاح، ولو كان هناك اي تعصب أو عداء لكان بالإمكان تدميرها والقضاء عليها في أوج عهود الانتصارات والفتوحات من دون أن يعترض أحد أو يتمكن من منع ذلك. ولكن العرب لم يفعلوا ذلك وحافظوا عليها وأمنوا الحماية والأمن والحرية الدينية لكل من يقطن على الارض العربية. وتكفي الإشارة الى عظمة الاسلام من خلال ما فعله سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما دخل الى القدس حيث ابى البطريرك صفرونيوس ان يسلمها الا الى خليفة المسلمين الذي كتب وثيقة الأمان التي عرفت ب"العهدة العمرية". هذه العهدة التي شهد عليها سنة 15 للهجرة من أبطال العرب خالد بن الوليد وعبدالرحمن بن عوف وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان تعطي الصورة الناصعة والسامية للتسامح ولعظمة الدين الحنيف... وكم نحن في حاجة للعودة الى هذه المبادئ لتحكم بيننا ولتعيد اللحمة وتقوي الروابط وتضع حداً للفتن ولأي محاولة للتفريق بين مسلم ومسلم وعربي وعربي ومسلم ومسيحي. وفي القرآن الكريم آيات تحدد حدود الله وتنير لنا معالم الطريق وبينها قوله عز وجل"لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا اليهم ان الله يحب المقسطين". والاسلام لا يفرض عقيدته على الآخرين بالقوة التزاماً بقوله تعالى"لا إكراه في الدين". ويؤكد على حرية الانسان وتحريم قتله بقوله عز وجل"انه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن احياها فكأنما احيا الناس جميعاً". كما يقر الاسلام مبدأ الحوار بين الناس لإنهاء اسباب الخلافات العقائدية والحضارية في قوله تعالى"قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله". وفي قوله ايضاً:"ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن"وأيضاً"إدع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن". وبعد ماذا أزيد وكيف يمكن ان نرد على الحملات المغرضة وهل من أمل في مواجهتها ووضعها عند حدها وكسب الرأي العام العالمي والغربي بالذات ونزع صاعق تفجير صراع الحضارات وزرع بذور حوار الحضارات وتلاقي الأمم والشعوب حتى نبني مستقبلاً زاهراً لأجيالنا قوامه التسامح والمحبة والأمن والأمان وجوهره العلم والإيمان وتزاوج الحضارات بعد فضح المغرضين وشل يد المتآمرين وكشف المؤامرة الصهيونية الكبرى ليس على العرب والمسلمين فحسب بل على العالم كله بعد أن سيطرت على معظم مفاصله الاعلامية والمالية والاقتصادية والفكرية والثقافية والسياسية. والرد لا يكون إلا بالعقل والحكومة ودحض المزاعم بالحجج والبراهين وتجنب العنف والارهاب والممارسات المسيئة التي تصب كلها في خدمة أصحاب الغايات الخبيثة والأصابع الخفية التي تحرك مثل هذه الفتن الرخيصة. ولا بد من خطة عربية اسلامية فاعلة لتحقيق هذه الأهداف السامية ومن مشاركة الاخوة المسيحيين العرب في هذه الجهود وتكليفهم بالقيام بدور رائد في هذا المجال وهو بكل أسف دور مهدور منذ عشرات السنين. وقد أشرت الى هذا الهدر في كتابي"العرب والغرب بعد الزلزال"وقدمت نسخة منه للبطريرك الماروني نصرالله صفير في بكركي فشكرني وتمنى لو أسهم كل عربي في إثارة هذه القضية المهمة وإنارة طريق الخلاص: طريق المحبة والتعايش والحوار والتفاهم. وتحدثت في الكتاب عن الأوراق التي يملكها العرب وهي كثيرة ولكنها مهدورة ومهملة ولم تتم الاستفادة منها على رغم أهميتها وجدوى دورها الفاعل في الغرب. هذه بعض جوانب الرد المطلوب. والتحرك المنشود بالعقل والحكمة والموضوعية واستخدام أوراق القوة وبناء الأسس السليمة لحوار بناء وتفهم ايجابي يبدأ اولاً باحباط الفتن ومنع تجدد الحملات المغرضة. * كاتب عربي