لا خلاف ولا اختلاف على أن إسرائيل دولة غاشمة وحشية تعيش على الحروب والقتل والتدمير، وتعتاش من دم الشعوب وأرواح الشهداء وتختبئ وراء مزاعم القوة التي لا تقهر من خلال تكديس ترسانة الأسلحة الحديثة والمتطورة والفتاكة الى جانب ترسانة الأسلحة النووية. ولا خلاف ولا اختلاف على أن إسرائيل تبيت للعرب المؤامرات والمخططات الجهنمية وتعد لهم الأفخاخ لجرهم الى مواجهات غير محسوبة النتائج وتسعى لتفتيتهم وتقسيمهم وزرع بذور الفتن والحروب العرقية والطائفية حتى تتمكن من السيطرة على المنطقة لتكون لها اليد العليا في كل شأن وقرار وقضية. كما أنها سعت وتسعى وستسعى للاستفراد بالعرب دولة دولة وفئة بعد فئة وطائفة بعد طائفة بعد أن تمكنت من افتراس"الثور الأبيض"بالمعنى المجازي. ولا خلاف ولا اختلاف على أن إسرائيل دولة عنصرية حاقدة تنتهك حقوق الإنسان ولا تأخذ في حسبانها أي قيمة للإنسان العربي، لا فرق بين عسكري ومدني ورجل وامرأة وطفل وعجوز. ولا نحتاج للتذكير بالمجازر والمذابح التي ارتكبتها بدم بارد وفي وضح النهار وعلى مرأى من العالم كله من دير ياسين وكفر قاسم وقبية الى صبرا وشاتيلا وقانا مروراً بعشرات المذابح الوحشية الأخرى وصولاً الى المجازر الوحشية التي ارتكبتها أخيراً في لبنان في قانا وغيرها، ويندى لها جبين الإنسانية قبل جبهات الإسرائيليين وضمائرهم الغارقة بالدم والعار. كما أننا لا نحتاج لتذكير بأن إسرائيل دولة إرهابية جلبت الإرهاب الى المنطقة ليصبح النموذج الذي يشوه وجهها من إرهاب الأفراد الى إرهاب المنظمات الصهيونية المتطرفة وإرهاب الدولة الذي مارسته إسرائيل على امتداد 58 عاماً. ولا خلاف ولا اختلاف على أن الولاياتالمتحدة منحازة الى إسرائيل وداعمة ومشجعة لها على ممارساتها وانتهاكاتها وتماديها في الغي والعدوان، وأنه لولا هذا الدعم لما تمكنت إسرائيل من الاستمرار طوال هذه السنين في عدوان تلو العدوان والخروج بلا إدانة ولا ردع ولا لوم! ونعرف جيداً أن الولاياتالمتحدة قد تسببت بسياستها الخرقاء هذه، وباعتماد مبدأ ازدواجية المعايير، بتعريض مصالحها للخطر الدائم أولاً ثم بتشجيع قيام الحركات المتطرفة والإرهابية وحالات النقمة والحقد وانتشار الحروب والاضطرابات والفتن ووضع منطقة الشرق الأوسط بأسرها على حافة بركان قد تنفجر حممه في أي لحظة لتنشر الخراب والقتل والدمار والكراهية. ولا خلاف ولا اختلاف على أن المجتمع الدولي"غائب عن السمع"منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، حيث سلم مفاتيح الحلول والقرارات لقوة أحادية هي الولاياتالمتحدة، وتحول الى متفرج لا حول له ولا قوة، أو الى كورس ينشد ما رسم له من"نوتة"أو ما كتب له من نص لا يخرج عنه إلا نادراً على رغم وجود قوى عظمى بارزة في صفوفه مثل الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي. ولا خلاف ولا اختلاف على أن الأممالمتحدة تحولت الى شاهد زور، وأن قرارات الشرعية الدولية تطبق حسب القياس الإسرائيلي والتفصيل الأميركي. ولا حاجة للتذكير بأن عشرات القرارات الدولية، إن لم نقل المئات، بقيت حبراً على ورق بسبب رفض إسرائيل الالتزام بها وتغاضي المجتمع الدولي عن انتهاكاتها لها ولكل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية. ولا خلاف ولا اختلاف على انتقاد ضعف العرب المخزي والتخاذل في مواجهة العدو، والسكوت عن احتلاله لفلسطين والقدس الشريف والأراضي العربية الأخرى، وفشلهم في توحيد صفوفهم واتخاذ قرارات جريئة يجمعون عليها ويلتزمون بها ويضعون لها آلية تنفيذ عملية وفاعلة وسريعة مما أفقدهم احترام العالم وجعلهم عرضة للسخرية والحقد والاستخفاف.ولا خلاف ولا اختلاف على حق العرب في استرداد حقوقهم وتحرير أراضيهم بشتى الوسائل المتاحة ورفضهم للمخططات الصهيونية واصرارهم على أن يقوم أي سلام مطروح على اساس العدالة والشمولية ومبادئ الشرعية الدولية وقرارات الأممالمتحدة من دون تفريط بأي شبر أو تنازل عن أي حق وفق مبادرة السلام العربية التي قدمها الملك عبدالله بن عبدالعزيز في قمة بيروت وأقرت بالاجماع لتصبح مبادرة كل العرب. الخلاف والاختلاف بين العرب اليوم، وبعد كل ما جرى، يتركز على الأساليب والوسائل والتوقيت وجهة اتخاذ قرار السلم والحرب والظروف المحيطة بالمنطقة والعالم وفلسطينولبنان وبالأهداف المرجوة من كل خطوة وما يمكن أن تؤدي اليه من نتائج سلبية أو ايجابية. ولا مجال الآن لدخول في جدل حول حسابات الربح والخسارة والتوصل الى تقويم للموقف في لبنانوفلسطين وفي العالم العربي بعد كل الذي جرى من قتل ودمار ومتغيرات ناجمة عن العدوان الإسرائيلي المتمادي في الغي والوحشية، والمتجاوز لذرائع خطف الجنود الإسرائيليين الثلاثة في غزة وجنوب لبنان في وقت متزامن. ولكن الواجب يدعو الجميع الى أخذ الدروس والعبر والاستعداد للحوار والمساءلة والمحاسبة حتى لا تتكرر الأخطاء وتعاد الكرة من جديد ومعها دوامة الفعل ورد الفعل ودفع الاثمان مضاعفة من الأرواح الطاهرة وأرزاق الناس الطيبين والبنى التحتية المعمرة بعرق الشعوب ودمها وثرواتها وصبرها وجهود أبنائها المخلصين. الدرس الأول هو وجوب حصر قرار الحرب والسلم بيد سلطة واحدة هي السلطة الشرعية المؤتمنة على الشعب والوطن والمصير، فما من دولة عاشت واقع ازدواجية السلطة أو تعددها إلا ووقعت في المحظور ودفعت الثمن غالياً، خصوصاً أن العدو الإسرائيلي يحمل من الأحقاد والضغائن والمخططات والنيات السيئة ما يدعونا لمضاعفة الحذر واليقظة وتجنب منحه أي عذر أو ذريعة لتنفيذ مخططاته. والدرس الثاني يدفعنا للدعوة الى التركيز على البناء والإعمار والتنمية وتحصين الذات بالعلم والمعرفة والثروة واقامة بنيان اقتصادي متكامل وقوي يستطيع الصمود في حالتي الحرب والسلم. ولا يختلف اثنان ان الحرب ليست مجرد آلة عسكرية نستخدمها ولا صاروخاً نطلقه، بل هي ايضاً انسان متعلم وقادر على الصمود ورعاية عائلته واقتصاد قوي ومؤسسات صامدة وفاعلة. ولنا في اليابان والمانيا المثل الصالح والصارخ. فقد دمرت قوات الحلفاء كل مرافق ومؤسسات هذين البلدين في الحرب العالمية الثانية وأكملت نسف البنى التحتية بعد انتهاء الحرب واستسلامهما... وكان بالإمكان أن تظهر على السطح منظمات عدة للثأر والانتقام والقيام بعمليات نسف وقتل لقوات الحلفاء، لكن الحكمة دفعت الشعبين الى الصبر والمكابرة وتحمل الضرر والأذى والالتفات الى الإعمار وإعادة بناء كل ما دمر حجراً حجراً وشبراً شبراً في فترة قياسية، بعيداً عن الشعارات والمزايدات ليصبح البلدان في طليعة الدول العملاقة اقتصادياً وسياسياً وحضارياً. فحربنا مع إسرائيل حرب طويلة تدخل فيها كل أنواع الأسلحة والوسائل... ومهما قيل عن القدرات العسكرية وتوازنات الرعب، فإن القدرات الاقتصادية هي الوسيلة الناجعة في إطار هذه الحرب مع بناء الإنسان السوي والمتفوق علمياً وفكرياً. والدرس الثالث المستخلص من هذه الحرب هو عقم تجارب التفرد بالقرار على المستويين الوطني والقومي ولا سيما في قضايا الحرب والسلم. فهذا التفرد لم يجلب على الأمة سوى الخراب والويلات والهزائم والنكبات والنكسات. ولو عدنا قليلاً الى الوراء لأدركنا أهمية هذا الدرس ولا سيما في حرب الخامس من حزيران يونيو 1967 فقد أدى التفرد في قرار طرد القوات الدولية من شرم الشيخ والمضائق الى استغلال العدو لهذه الفرصة وشن حرب غادرة أدت الى ضياع الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان وسيناء وما نجم عنه من حروب وأزمات وهدر للثروات، وكل ثمن دفعناه وما زلنا ندفعه منذ ذلك الحين ناجم عن هذا التفرد.والأمثلة على ويلات آفة التفرد كثيرة ودافعة من إشعال نار الحرب العراقية - الايرانية الى احتلال الكويت مروراً بحروب فلسطينولبنان والفتن المرافقة لهما. المرة الوحيدة التي انتصر فيها العرب هي تلك التي غابت عنها آفة التفرد وحلت محلها الحكمة والروية والعودة للتشاور والتنسيق، وأقصد بها انتصار 6 تشرين الأول اكتوبر 1973 عندما اتفق الرئيس المصري أنور السادات مع الرئيس السوري حافظ الأسد والملك فيصل، رحمهم الله، على جهاد حقيقي يهدف الى تحرير الأرض وصيانة العرض واستعادة الكرامة والسمعة للجندي العربي وللإنسان العربي مهما كان الثمن فنصرهم الله. أما التفرد في قرارات السلم فكانت ويلاته أعظم من كامب ديفيد الى أوسلو وها نحن ندفع الثمن مضاعفاً نتيجة لتفرق العرب وضياع بوصلتهم وتعدد قراراتهم وأهدافهم ومصالحهم. أما الدرس الرابع فهو شبه إجماع على رفض الوصاية على الأمة وقراراتها واحتكار الوطنية والقومية والدين والمقاومة والتحرير. فمنذ عقود ونحن نسمع ونرى من يدعي أنه يتخذ قراراته باسم الأمة أو باسم الوطن أو باسم العرب أو باسم الاسلام ثم تكون النتيجة وبالاً على الأمة والأوطان والعرب. والأمثلة على ذلك كثيرة ايضاً مثل الرئيس المخلوع صدام حسين الذي ادعى انه حارب ايران ليدافع عن شرف الأمة وحاضرها ومستقبلها ثم احتل الكويت ليحرر فلسطين باسم العرب. وايران التي تكرر كل يوم انها حامية الاسلام الى اسامة بن لادن وقادة"القاعدة"الذين يزعمون ان عملياتهم تهدف للدفاع عن الاسلام والمسلمين، الى الحرب الأخيرة التي سمعنا فيها أقوالاً مماثلة بأن سلاح المقاومة هو سلاح الأمة كلها وأن من يستخدمه يقوم بذلك باسمها. والأكثر غرابة وسخرية من ذلك ان الولاياتالمتحدة تدعي على لسان رئيسها وكبار مسؤوليها بأن حروبها تهدف الى أمر واحد وهو إقامة الديموقراطية في المنطقة والدفاع عن الحريات وحقوق الانسان في شرق أوسط جديد لم نحصد منه سوى القتل والدمار والارهاب وانتهاكات حقوق الانسان. حتى اسرائيل لم تخف"حبها"للعرب والمسلمين عندما زعمت ان حربها الحالية تهدف لإنقاذهم وتحريرهم من الارهاب ونشر السلام والاستقرار في المنطقة، فعبّرت عن حبها بارتكاب المذابح وتدمير البنى التحتية. وأخشى ما أخشاه ان ينطبق علينا مع جميع الأوصياء والمتحدثين باسمنا قول الشاعر"ومن الحب ما قتل"أو قول الطبيب الجراح لأهل المريض: لقد نجحت العملية ومات المريض. وما يهمنا هنا ان يحمي الله فلسطين وشعبها المناضل ولبنان وشعبه الصابر. وكم ترحمت على شاعرنا الغالي نزار قباني وأنا أتابع مشاهد القتل والدمار في لبنان وأردد أشعاره التي عبر فيها عن حبه الأصلي والأصيل للبنانوبيروت ومنها قوله: آه يا عشاق بيروت القدامى هل وجدتم بعد بيروت البديلا ان يمت لبنان متم معه كل من يقتله كان القتيلا كل ما يطلبه لبنان منكم ان تحبوه تحبوه قليلا أو قوله: ماذا سيستفيد الرابح من سجادة مثقوبة بمليون رصاصة وأتذكر نزار، الذي نفتقده في الليلة الظلماء كالبدر، عندما دعوته للمشاركة في حملة دعم لبنان التي رعاها مركز تلفزيون الشرق الاوسط عام 1996 اثر مذبحة قانا الأولى فاستجاب بحماس وألقى قصيدة بعنوان آكل من خبز لبنان وأنا مقيم في لندن قال فيها: ولأن بيروت مدينة جميلة جداً فقد دفعت ثمن جمالها ولأنها مثقفة جداً فقد دفعت ثمن ثقافتها ولأنها مدينة حرة حتى آخر حدود الحرية فقد دفعت ثمن حريتها الى أن يقول: أتضامن مع لبنان كما يتضامن القميص مع الجسد والعين مع أهدابها والشجرة مع أوراقها والحمامة مع ريشها والطفل مع ثدي أمه! نعم نتضامن مع لبنان ولكن التضامن الكلامي لا يفيد في إعمار ما تهدم أمام حجم الدمار الهائل ولا بد أولاً من مساعدة المنكوبين وإعادة المهجرين الى ديارهم وبناء مدنهم وقراهم ومساكنهم ثم الالتفات الى أخذ الدروس والعبر وتجنب ارتكاب الأخطاء السابقة وإعادة الهيبة لسلطة الدولة ووضع استراتيجية دفاعية جديدة وفاعلة في جميع المجالات وتوحيد جهة قرار الحرب والسلم بشكل حاسم ونهائي. وهذا لا يمكن ان يتحقق الا بتوحيد الصفوف وتقديم التنازلات ضمن اطار الوطن الواحد وتعزيز الصمود ونبذ الفتن الطائفية والعودة الى طاولة حوار حقيقي وفاعل وصريح لا غالب بنتيجته ولا مغلوب، فما جرى يجب ان يضع النقاط على الحروف ويدفع كل المخلصين الى التفاني وتقديم التضحيات من أجل تجنيب لبنان المزيد من الأخطار والخسائر في الأرواح والأموال، فقد دفع هذا البلد الصغير الطيب أفدح الأثمان وقدم القرابين من أجل أمته وآن له ان يرتاح قليلاً ويريح شعبه المنكوب منذ اكثر من 40 عاماً، خصوصاً أن المقاومة قد اسقطت الكثير من الهالة التي كانت اسرائيل تحيط نفسها بها.كما ان هذا لا يمكن ان يتحقق الا بدعم عربي شامل هلت تباشيره بالمبادرة الخيرة من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز بتقديم 500 مليون دولار لصندوق الإعمار وبليون دولار كوديعة لحماية الليرة و50 مليوناً للإغاثة وملايين أخرى من تبرعات أبناء الشعب السعودي. وعلى الدول العربية وشعوبها ان يكملوا المشوار ليعاد بناء هذا البلد الجميل بعد أن حذت الكويت حذو السعودية. أما مسؤولية الدول الأخرى فكبيرة جداً لا سيما الدول الكبرى وفي طليعتها الولاياتالمتحدة اذ انها مطالبة ليس بتأمين الدعم والحماية للبنان وردع اسرائيل لمنعها من تكرار اعتداءاتها فحسب، بل بتأمين الحصة الكبرى من موازنة اصلاح ما أفسده العدوان الغاشم واعادة اعماره لما تتحمله من مسؤولية مباشرة وغير مباشرة. أما ساعة الحساب والمحاسبة فلم تحن بعد، ورحم الله الشهداء الأبرار وألهم الشعب اللبناني الصبر والسلوان فما حدث قد حدث والحزن في القلب لا بد أن نتبعه بإرادة التحدي والصمود والحرية، وكلي ثقة بأن لبنان سيعود كما كان وأحسن كما انبعث طائر الفينيق من بين الرماد. * كاتب وصحافي عربي.