قبل سنوات، سقط ابنها البالغ من العمر خمسة أعوام، من شرفة المنزل بينما كانت في المطبخ. حزنها كان عنيفاً، ودخلت في حالة اكتئاب مرضي، كاد أن يدفع بها إلى الانتحار. ولأنها تعيش في حي شعبي وزوجها عامل بسيط، ذهبا إلى طبيب في مستوصف صغير بحثاً عن دواء يفتح الشهية أو مقويات وفيتامينات تتناولها بعدما ضربها هزال شديد. فما كان من الطبيب إلا أن أحالها على استشاري في الطب النفسي، تعهد بعلاجها من حالتها، مجاناً. ثم لاحظت جاراتها أنها تتردد على "دكتور المجانين" أو "حكيم الترالَلِّي"... حتى أنهن اتّهمنها بقذف ابنها من الشرفة". وفي أحد شوارع حي مصر الجديدة الراقي قصة أخرى، بطلها شاب في مطلع العشرينات من عمره، يعيش مع والده ووالدته. ولأن العائلة لا تختلط بالجيران، كوّن هؤلاء فكرة عن الشاب بعيدة كل البعد عن"حقيقته"، ليفاجأ الجميع، ذات يوم، بوقوفه عارياً في الشارع... فهو مصاب بالفصام. فتوقّف الجيران عن تبادل الأقاويل والإشاعات، لكن"الوصمة"أبت إلاّ أن حلت على بقية أفراد الأسرة... طبيب نفسي - رفض ذكر اسمه - لاحظ أن أحد مرضاه يزور عيادته الواقعة في حي شبرا الشعبي، للعلاج، وهو متنكّر تارة بنظارات شمسية وتارة أخرى بالعمامة الصعيدية. فهو يخشى أن يراه أحد معارفه متوجّهاً إلى عيادة"كهذه"، خصوصاً أنه تاجر، وعمله يتوقّف على"سمعته". وتشير اختصاصية الطب النفسي وزميل الجمعية المصرية للطب النفسي، ندا عادل أبو المجد، إلى أن"الوصمة"من اللجوء إلى العلاج النفسي واقع بين كل الفئات، على رغم تحسّن الوضع قليلاً في السنوات الأخيرة، بفضل التوعية عبر الإعلام. وتوضّح أبو المجد، التي تعمل في أحد مستشفيات الأمراض النفسية التابعة لوزارة الصحة، أن تقبل الخضوع للعلاج النفسي تحسن بدرجة ضئيلة وإن كان الوضع العام السائد هو الخوف من"العار"الذي قد يلحق بالمريض وعائلته. وتقول:"يأتينا مرضى يعربون لنا عن رغبتهم في ألاّ يراهم أحد من المرضى الآخرين، خوفاً من تلك النظرة". لكن الاختصاصية متفائلة إلى حد كبير من مستقبل قطاع الصحة النفسية في مصر، فهي تعمل ضمن مشروع تنفّذه وزارة الصحة والسكان، بالتعاون مع الحكومة الفنلندية، ويهدف إلى رفع مستوى الرعاية الصحية في مصر. وتشرح:"نقوم بتدريب الأطباء من الممارسين العامين في المراكز الصحية المختلفة في شتى المحافظات على طرق تشخيص المرض النفسي، في مراحله الأولى، وتحويل مثل هذه الحالات إلى الاختصاصيين النفسيين، وإعطاء الوصفات الطبية الأولية لهذه الحالات". من جهة أخرى، تظهر بوادر اهتمام حكومي بهذا القطاع الذي يعاني مشكلات مجتمعية ورسمية، بعد تجاهله سنوات طويلة. وصرح وزير الصحة والسكان المصري الدكتور حاتم الجبلي بأنه"تجرى حالياً مراجعة القوانين والقرارات المطبقة لعلاج المرضى النفسيين، بهدف إدخال التعديلات اللازمة عليها لتتناسب والسياسة العامة لحقوق الإنسان والمريض النفسي والمجتمع". وقال الجبلي:"إن قوانين وقرارات علاج المرضى النفسيين أصبحت لا تناسب التطور العالمي الذي يشهده الطب النفسي ولا تساعد على الإسراع في الشفاء". والعهدة على الوزير، والعبرة بالنتيجة. المرض النفسي سببه خرافات مشكلة عدم توافر إحصاءات لا تختص بمجال الصحة النفسية فقط. وأحدث المعلومات المتوافرة هي تلك التي نشرها مكتب شرق المتوسط في منظمة الصحة العالمية، في مناسبة يوم الصحة العالمي في 2001. تؤكّد المؤشرات العامة ارتفاع معدل انتشار الاضطرابات النفسية والعقلية بين المصريين. كما أن معظم من هم في حاجة إلى الرعاية النفسية يصعب الوصول إليهم أو لا تتوافر لهم الخدمات الكافية. الدكتور أحمد عكاشة يؤكد أن 60 في المئة من المصريين يرجعون المرض النفسي إلى المس أو الخرافات. في 2003، رفض البرلمان المصري مناقشة استجواب تقدم به عضو البرلمان المسجون حالياً الدكتور أيمن نور، ويتهم فيه الحكومة بالتسبب في زيادة نسب الإصابة بالاكتئاب والأمراض النفسية بين المصريين، من خلال الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، لكن طلبه قوبل بالرفض. يقدر عدد مرضى الاكتئاب في العالم بنحو 300 مليون، مليونان منهم في مصر.