لمياء عبدالمحسن البراهيم – استشارية طب أسرة ومجتمع يعاني أكثر من 450 مليون شخص في العالم من الاضطرابات النفسية التي تشكل عبئاً على الأنظمة الصحية. وعلى الرغم من أهمية الصحة النفسية والعقلية التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بصحة الجسد علاوة على انتشار الاضطرابات النفسية والعقلية، التي قدرت عالمياً بنسبة 13% إلا أن الاهتمام بها أقل مما هو متوقع بالنسبة لانتشارها. قدرت منظمة الصحة العالمية أن أربعة من كل خمسة أشخاص مصابين بالاضطرابات النفسية أو العقلية يعانون من عدم توافر العلاج المناسب في الدول النامية، وأن 33% من هذه الدول ليست لديها موازنة مخصصة للصحة النفسية والعقلية. لهذا حرصت منظمة الصحة العالمية لتخصيص يوم (Mental health day) «الصحة النفسية« في العاشر من أكتوبر سنوياً لتنبيه الأنظمة الصحية عالمياً عبر وزارات الصحة والجمعيات الأهلية، التي تعنى بتعزيز الصحة للاهتمام بالصحة النفسية والعقلية سعياً لصحة أفضل للفرد وللمجتمع. يشكل الفصام (الذهان أو الشيزوفرينيا) أحد الاضطرابات المهمة، التي تحدث خللاً بالصحة النفسية، الذي لا يختص بفئة دون أخرى، فهو يصيب الجنسين باختلاف المستوى التعليمي والثقافي والمادي. يعاني مريض الفصام من اضطراب التفكير والإدراك والمشاعر. ويعد الفصام من الاضطرابات العقلية الشديدة التي قد تكون حادة أو عابرة، مزمنة أو متقطعة بشكل نوبات. يحدث الفصام كاضطراب أولي أو كجزء من اضطراب مزاجي، كالاكتئاب أو اضطراب ثنائي الطور أو ثانوي نتيجة لحالات كمعاقرة الكحول أو عقار أمراض طبية (كفيروس العوز المناعي البشري الإيدز، الملاريا الدماغية)، أو اضطرابات عصبية (كالخرف والسكتة الدماغية). يعاني المرضى النفسيون من متاعب كثيرة، ويعاني مرضى الفصام بشكل خاص، حيث تختلط فيه الصورة على أفراد المجتمع وعدم وضوح الصورة ينعكس على المرضى سلباً فيتهمون بالجنون والخبل. إن معاناة المريض النفسي تتعداه لتصل إلى شريك حياتهم وعوائلهم والمجتمع بسبب الضغط الواقع عليهم والمعاناة التي يشعرون بها، ما يجعلهم في حاجة إلى دعم نفسي لا علاجي قد لا توفره المستشفيات النفسية التي تعنى بالمريض النفسي المراجع لها فقط. يتميز الفصام بمعدل حدوث منخفض نسبياً، مع انتشار عالٍ، حيث يعاني 25 مليون إنسان من الفصام في كل أنحاء العالم بنسبة قدرت بين 1% إلى 1.5% وهو أكثر اضطراب ذهاني شيوعاً. بينت إحصائيات وزارة الصحة السعودية للعام 1432ه أعلى نسبة من المراجعين لمستشفيات الصحة النفسية بسبب الفصام والاضطرابات فصامية النمط. قدر عدد المراجعين في أقسام الصحة النفسية بمستشفيات وزارة الصحة عام 1432ه 74.851 ألف مريض بالفصام وبلغ عدد المنومين من مرضى الفصام في أقسام الصحة النفسية بمستشفيات وزارة الصحة عام 1432ه (1352) مريضاً منوماً. أثبتت الدراسات العلمية حتى من الدول منخفضة الدخل أن المعالجة المنتظمة تنقص 50% من النكسات الفصامية بعد سنة، مع نسبة تصل إلى 77% بدون نكسات. ولهذا يحتل الفصام مرتبة الأولوية بين الحالات التي يتصدى لها برنامج العمل في الصحة العقلية لمنظمة الصحة العالمية MHGAP وتوصي باشتمال خدمات الصحة العقلية المتكاملة للرعاية الصحية الأولية التي توصي بها «الاستراتيجية الإقليمية للصحة العقلية ومعاقرة المواد». لهذا أبدت الحكومة السعودية اهتماماً بالصحة العقلية بالتوصية بإنشاء مستشفى للصحة النفسية تحت مظلة الشؤون الصحية للحرس الوطني، كما اعتمدت وزارة الصحة إنشاء مستشفى الصحة النفسية ومعالجة الإدمان في منطقة الرياض بسعة 500 سرير ليكون رديفاً لمجمع الأمل والصحة النفسية الحالي وليرتفع عدد الأسرَّة المخصصة للصحة النفسية في مدينة الرياض إلى 1000 سرير. كما اتخذت خطوات تنفيذية لمضاعفة عدد أسرَّة علاج الأمراض النفسية والإدمان، حيث تبلغ عدد الأسرَّة القائمة 2811 سريراً، فيما يبلغ عدد الأسرَّة الجاري تنفيذها ضمن المستشفيات الجديدة 4150 سريراً بهدف استيعاب نسبة كبيرة من المرضى ومعالجتهم من خلال تنفيذ مشاريع جديدة، منها 16 مستشفى للصحة النفسية ومعالجة الإدمان موزعة على مختلف مناطق المملكة سعتها ما بين 200 – 500 سرير لكل مستشفى، وسيتم الانتهاء من بعضها خلال الفترة القصيرة المقبلة. ويذكر أن هناك عشرين مستشفى قائماً للصحة النفسية ومعالجة الإدمان في مناطق المملكة بسعة 2811 سريراً موزعة بين المرضى من رجال ونساء، من ضمنها ثلاثة مراكز متخصصة لعلاج الإدمان، و94 عيادة للنفسية ومعالجة الإدمان ملحقة بالمستشفيات العامة، ويبلغ عدد القوى العاملة فيها حسب التخصص627 طبيباً نفسياً و406 اختصاصيين نفسيين و724 اختصاصياً اجتماعياً و3025 ممرضاً نفسياً. تواجه الرعاية الصحية النفسية بعض العوائق، التي تتمثل في صعوبة الوصول للأماكن العلاجية والقائمة الطويلة للمواعيد الطبية، كما أنه لايزال هناك تحرج من المرضى وأسرهم للوصمة الاجتماعية التي ترتبط بمراجعة العيادات النفسية ما يحتم تعزيز دور الرعاية الصحية الأولية متمثلة في طبيب الأسرة لسهولة الوصول إليهم وكمعنيين بتقديم الرعاية الصحية للفرد والمجتمع بتقديم الوقاية والعلاج والتأهيل من الاضطرابات النفسية. يمثل طب الأسرة بالرعاية الصحية الأولية البوابة الأولى، التي من خلالها يتم تقديم الرعاية الصحية الشمولية، التي تعنى بالمريض بشكل كامل نفسياً وجسدياً، التي من خلالها يمكن اكتشاف حالات الفصام وتحويلها للجهات المختصة لتقديم العلاج المناسب ولمتابعتها لاحقاً ليعامل مريض الفصام كما يعاني من الأمراض المزمنة (السكر والضغط وارتفاع الدهون) التي توفر لهم الرعاية الصحية في مراكز الرعاية الصحية الأولية بالمملكة متابعة وعلاجاً وفي أيام محددة بالأسبوع بمواعيد لتعطيهم اهتماماً خاصاً ولاستماع مشكلاتهم. يتلقى طبيب الأسرة المتخصص في الزمالة لطب الأسرة تأهيلاً إلزامياً بالطب النفسي ضمن سنوات التخصص عبر العمل في أقسام الطب النفسي والعيادات النفسية بمستشفيات معتمدة لتقديم الرعاية الصحية للمرضى، الذين يعانون من اضطرابات نفسية، كما يركز تأهيلهم على دراسة الأمراض النفسية الشائعة ومن ذلك الفصام وطرق تشخيصه، وكيفية متابعة الحالات المشخصة بعد تحديد الخطة العلاجية الأساسية من الطبيب النفسي. تعتبر عيادات الصحة الأولية المختلفة في المراكز الصحية أنها البوابة الأولية لتلقي الخدمات الصحية المقدمة من وزارة الصحة للمواطنين، الذي يقوم أطباء تلك العيادات من خلالها بعمل فلترة للحالة الصحية للمريض وربط أعراض المريض لتشخيصه عضوياً أو نفسياً. إن وجود عيادات للصحة النفسية في المراكز الصحية المنتشرة في المناطق السكنية بالأحياء داخل المدن أو القرى أو الأماكن النائية يعد مؤشراً صحياً وعصرياً للعناية بالصحة النفسية لتقديم خدمة علاجية متميزة، حيث ستوفر العيادات النفسية بالمراكز الصحية الأولية سهولة وصول المرضى إليها، بسبب وجودها في المركز الصحي القريب من المنزل، مع إمكانية مراجعة بين العيادات العادية للمركز الصحي الذي سيرفع الحرج عن المريض ويشجعه على الاستمرار والالتزام بمعاودة الزيارة والمضي قدماً في العلاج بدون الخوف من الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالعلاج النفسي. وقد كانت لدولة الكويت تجربة رائدة بافتتاح أربع عيادات نفسية في مراكز الرعاية الصحية الأولية لاقت إقبالاً كبيراً من المرضى وأسرهم وروعيت فيها خصوصية المرضى والحفاظ على سرية هوياتهم ومشكلاتهم النفسية بالتنسيق مع إدارة نظم المعلومات في وزارة الصحة الكويتية لإنشاء صفحة إلكترونية خاصة بالنظام الآلي للرعاية الصحية الأولية، لتكون بمنزلة ملف إلكتروني للمريض برقم خاص به، لا يطلع عليه سوى الطبيب المعالج فقط. بالنسبة للمراكز الصحية الأولية التابعة لوزارة الصحة في المملكة العربية السعودية فلا توجد للآن خدمات تعنى بالصحة النفسية، فلا توجد سياسات واضحة للتعامل مع المصابين بالأمراض النفسية ولا تتوافر الأدوية النفسية في المراكز الصحية الحكومية. علماً بأنه قد تتوافر أدوية نفسية في بعض القطاعات الصحية الأخرى، مثل: الحرس الوطني في العيادات الصحية الأولية ولكن محدودة لعلاج الاكتئاب عادة أو الأمراض الجسدية المرتبطة بالحالة النفسية، مثل: أمراض القولون العصبي والآلام العضلية المرتبطة بمتلازمة الإرهاق المزمن. وللارتقاء بالخدمات الصحية ولتعزيز الصحية نقترح أن تكون هناك سياسات واضحة لتعزيز الصحة النفسية في القطاعات الصحية عبر مؤهلين من أطباء أسرة واختصاصيين نفسيين واجتماعيين في المراكز الصحية الأولية والاهتمام بتدريبهم للتعامل مع الحالات المشتبه في إصابتها بالاضطرابات النفسية ورعايتهم وأسرهم للتخفيف عن معاناتهم وفتح قنوات تواصل مع الجهات المتخصصة لتقديم خدمات علاجية مناسبة وقائية وتشخيصية وعلاجية وتأهيلية لمرضى الفصام، التي ستتطلب وضع حوافز للعاملين بالرعاية الصحية للمصابين باضطرابات نفسية من خلال البدلات المادية أسوة بالمستشفيات النفسية. آملين من ذلك تحسين الصحة النفسية والعقلية للمواطنين لبناء مجتمع أفضل صحة ولتخفيف العبء على المرضى وعلى المستشفيات النفسية.