إنها قمّة التحدي، أن تجمع الممثلة والمخرجة وأستاذة المسرح في الجامعة اللبنانية عايدة صبرا، شمل اللبنانيين حول الخشبة التي باتت تفتقر في السنوات الأخيرة، إلى مَن يمسح عنها غبار النسيان وإلى عيون سرقها بريق الشاشة الصغيرة وتكنولوجيا المعلومات. إنها قمّة التحدي، أن تختار وسط العاصمة بيروت، المنقسم بين ساحتي اعتصام المعارضة والسراي الحكومي، لتُعبّر مع مجموعة من الممثلين الشباب عن أحوال البلد في مسرحية"حمام عمومي"التي تقدم على خشبة مسرح"مونو". تفاجئنا عايدة صبرا التي تميّزت بالتمثيل الإيمائي، في كل مرّة تنوي فيها إنتاج عمل جديد. تراها مرّة تظهر في معرض للكتاب، وأخرى في وسط شوارع المدينة التي تعشقها والتي لا تغيب في عروضها، عن ضوضائها وأزماتها ومشكلات مجتمعها بدءاً بالقضايا التي عالجتها في مسرحيات قدّمتها منذ بداية مسارها المسرحي. ويمكنك أن تقرأ لها كتاب شعر بعنوان"كبريت"، يلامس في طياته حب المرأة المجنون للفن في كل أشكاله. حتى كتاباتها لا تخلو من نشوة غير مألوفة. لكن عايدة التي انتظرها مشاهدون كثر تومئ لهم على المسرح، اختارت هذه المرّة أن تكون مخرجة لمسرحية أسمتها"حمام عمومي"وابتكرت فكرتها من الوضع الراهن، مستندة إلى مجموعة من النصوص المسرحية للكاتبين يونسكو وإدوارد ألبي. المسرحية التي يؤديها ثمانية ممثلين جيزيل بويز، سينتيا كرم، ايلي متري، ايلي يوسف، شربل عون، يارا بونصّار، فؤاد يمّين، ادوم خوري وجمال خريس، وهي المرّة الأولى التي تعتمد فيها صبرا عدداً كبيراً في أعمالها، تنتمي الى المسرح التجريبي المعروف بنخبويته في العالم العربي، الذي يقوم على الارتجال ومشاركة الجمهور بالعرض. ويمكننا القول إن المسرح التونسي هو من أكثر المسارح التي نجحت في إنتاج هذا النوع من المسرح. موضوع المسرحية يدور حول رغبة ممثلين في القيام بعرض مسرحي، لكن العرض يفشل بسبب الخلافات الدائمة بين الممثلين وشجاراتهم، من دون أي سبب واضح. وقُدّم العرض في شكل لافت فهو عبارة عن مجموعة مواقف تتقاطع بعضها مع بعض، وعلى المُشاهد أن يركّبها في رأسه. وهذا ما يجعل المشاهد وهو يتابع العرض متحمّساً، مشغولاً، يفكّر، يتذكّر، وتروح عيناه وتجيئان مع هذا الممثل الذي يترك الخشبة ويركض بين المشاهدين، أو مع تلك المذيعة التي يُحتّم عليها الدور أن تكون مزعجة من خلال أسئلتها المتعبة:"ما هو لون الديمقراطية؟، أنت حزين أم سعيد؟، أي لون تُفضّل؟". أسئلة تجعل الجمهور عنصراً مشاركاً ومتفاعلاً إيجابياً مع العرض، حتى ان وقت المسرحية الذي يقارب الساعة ونصف الساعة يمر من دون أن يشعر المشاهد بذلك. تجدر الإشارة إلى أن العرض لم يكن بعيداً من الإيماء، كون التعبير الجسماني حاضراً ولو أنه غير مباشر، من خلال مرونة الممثلين وليونة حركاتهم، إضافة إلى أن النص المسرحي قليل الكلام. ويركّز العمل على شخصيات الممثلين المركبة التي يختلف أداؤها أثناء وجودها في الحمام وخارجه. فالحبكة تقوم على الإزدواجية. وكان من الذكاء المسرحي استخدام عناصر عدّة في المسرحية كالفيديو، والموسيقى المصاحبة للعرض، والمَشاهد المتنقلة بين الكواليس والقاعة. ديكور المسرح بدا استفزازياً، مع كرسي الحمام الأبيض الذي ينقل المشاهد إلى عالم حميمي لم يكن يخطر في باله أنه أكثر الأمكنة حرية، وأنه من أكثر الأمكنة التي يمكنه أن يشاطر فيها الحديث مع نفسه، من دون معلّق أو ناقد، أو كاميرا تراقبه. إضافة إلى الإضاءة القوية التي ظلت حاضرة في كل أنحاء القاعة، وهو أمر لم نعتده في المسرحيات التقليدية. أثبتت عايدة صبرا وفريق عمل"حمام عمومي"أن المسرح اللبناني ما زال قائماً، وما زال قادراً على الإبداع لجذب الجمهور، حتى في أحلك الظروف السياسية الصعبة. ومن اللافت أن تجذب مسرحية في عرضها الأول، المواطن اللبناني الذي قرّر مقاطعة نشرات الأخبار والبرامج الحوارية السياسية المتواصلة في التلفزيون، وتجعله يشارك فيها، ينتقد، يضحك وربما يبكي، ولكن من دون أن يُحسب على فريق سياسي معيّن. وعلى الأرجح أنه خرج من المسرح أول من أمس، مفعماً بالحيوية التي انتشرت عدواها من الممثلين الذين بدوا كالعصافير الطائرة وهم يغزلون برشاقة بارزة بين الخشبة والكواليس وقاعة الجمهور، أو أنه سيبكي لأن"الحمام العمومي"بدا كالمرآة التي عكست الفوضى العارمة في بلده، من دون أن يعرف السبب.