«كلّ هذا الإيماء» أو كلّ هذا الموت وكل هذه السخرية السوداء... هكذا يمكن الدخول الى عالم مسرحية فائق حميصي الإيمائية الجديدة «كلّ هذا الإيماء»، وهي مسرحيته كما هي مسرحية الممثلين الذين يرافقونه (أكثر مما يعملون معه) وكأنهم عناصر اللعبة تجسيداً وتكويناً: عايدة صبرا، جمال كريّم، حسين نخّال، سني عبد الباقي وزكي محفوض. اللافت أولاً في هذه المسرحية الإيمائية هو الجوّ الذي أحاط بالأفكار والحركات (أو العلامات) والشخصيات التي ليست هي بشخصيات مألوفة، ما عدا طبعاً الرجل المسنّ والمقعد (فائق حميصي) الذي وحده تقريباً حمل قناعاً (إيمائياً) بالأبيض الذي يعني هنا خصوصاً مقاربة الموت أو الوقوف على شفيره قبل الوقوع فيه. فالقناع الأبيض هذا يضفي عليه حميصي (ممثلاً ومخرجاً) بعداً إضافياً، رمزياً علاوة على دوره الأساس المتمثل في تقنية الأداء. لكن الممثلين الآخرين (أو الأشخاص الآخرين إذا صح الوصف) أخفوا أقنعتهم من دون أن يخلعوها، وراحوا يمثلون من ورائها منخرطين في هذه اللعبة التهريجية السوداء، التي تخفي خلف كاريكاتوريّتها وعبثيتها موقفاً مأسوياً من العالم. كان لا بدّ من أن يذكّر شخص هذا الرجل المقعد على كرسيّه المتحرّك بشخص «كراب» في مسرحية صموئيل بيكيت «الشريط الأخير» على رغم الاختلاف بين الشخصيتين. فالشريط المسجّل الذي راح يستمع «كراب» اليه في مسرحية بيكيت بأذنيه بدا «شخص» فائق حميصي كأنه يبصره بعينيه ويعيش فصوله. لكن مضمون الشريط السمعي هناك لا يشبه البتة مضمون الشريط البصري هنا، نظراً الى الاختلاف بين رؤيتي النصين، ف «كراب» يستمع الى شريط ماضيه بينما «شخص» حميصي يعيش أمام الجدار الأسود الفاصل بين حياة المرض وهاوية الموت، مستعيداً «أشلاء» بصرية من ماضيه. وهذا الجدار الذي فصل بين عالمين بدا أشبه بالجسر الذي يجمع بين عالمين: عالم الحياة التي تشبه الموت وعالم الموت الذي يشبه الحياة. هكذا اختلط الموت بحياة الأشخاص وحياتهم بموتهم. وكم كانت موفّقة فكرة الشاشة الصغيرة التي ظهرت عليها «أشلاء» عالم وذكريات وصور شملت السياسة والحروب والفنون والثقافة ومن بين الصور تلك ظهرت أيضاً صورة لصموئيل بيكيت رائد المسرح العبثي. وكانت هذه الشاشة كأنها ذاكرة العجوز البصرية، بما تحوي من مآسٍ فردية وجماعية، مآسي العالم المعاصر والإنسان الحديث. إلا أنّ العجوز المقعد كانت تدفعه مخيّلته الى النهوض عن الكرسيّ واستعادة حركته بغية اللهو العبثي واللعب، لا سيما عندما كان يغيب ممرضه القاتم الوجه واللباس وكأنه القدر المتجهّم. وكان لا بدّ له من مواجهة بضعة أشباح أو أطياف ومنها طيف «الملاك» الذي أدّته ببراعة الممثلة والمخرجة عايدة صبرا. إنها الملاك غير المبشر وغير المتشح بالبياض، انها ملاك الموت ربما، ملاك الإغراء الذي يشعل في حياة هذا «الشخص» نار الغيرة، فيروحان كلاهما يتواجهان و «يتصارعان» رمزياً... ولا غرابة في أن يتحول هذا الملاك - الأنثى الى راقصة باليه تملأ الخشبة وعيني «الشخص» حركات وإيماءات وعلامات تدلّ على حال الصراع الذي يعيشه هذا «الشخص» داخلياً. ولم يغب الرقص عن اللعبة فقد أطلّ الممثل جمال كريّم مقلّداً شخصية الراقصة الشرقية ببراعة وكأنه يسخر من هذ الرقص ويبجّله في وقت واحد. وبدا هذا الممثل صاحب حضور لطيف وساخر، مثله مثل الممثل الآخر الذي أدّى وصلة من الرقص الآسيوي، كاسراً بسخرية «بارودية» هالة الطقس الذي ينبع منه هذا الرقص. أما زكي محفوض فأطل أولاً في صورة العسكري، مجسداً صورة كاريكاتورية للقائد المتسلّط والواقف على حافة الحياة والموت، ثم أدّى شخصية تشبه «المهرّج» ولكن في إطلالة عبثية وبدا بملابسه وعلامات وجهه (وقناعه غير الظاهر) كأنه شخصية كوميدية هاربة من المسرح البريطاني الإليزابيثي. أما الفكرة البديعة في المسرحية فتجلّت في الجدار الذي فصل بين سينوغرافيا الحياة أو الواقعي وسينوغرافيا الموت أو العالم الماورائي... لكن حميصي والممثلين لم يشاؤوا ولوج الأبعاد الميتافيزيقية برصانة أو جدّية مقدار ما سعوا الى السخرية (السوداء أيضاً). فالأيدي التي ارتفعت من وراء «الجدار» (الستار الأسود) راحت تؤدّي أفكاراً جميلة وصوراً وقصصاً، بين الهزل والمأساة. انها الأيدي المقطوعة التي تبحث عن أصحاب كانوا لها ذات يوم. أيدٍ مقطوعة كأنها نجت من التشوّه والحريق، بل أشلاء أيدٍ تتحرك في فضاء الموت مختلقة قصصاً وشخصيات ولوحات كوميدية طريفة ترافقها أصوات وأصداء أصوات لا تقل سخرية وهزلاً. وكان مشهد حمامة السلام التي قتلت برصاص الجماعة المنقسمة على نفسها، بديعاً ومعبراً جداً. وقد نمّت لعبة الأيدي عن نضج تقني وحرفية عالية في اللعب والتحريك والتقليد وخلق الأشكال التعبيرية. وفي الختام كان لا بدّ أن ينشق الجدار الأسود ليزفّ الرجل العجوز الى عروس الموت بثيابها البيضاء الفضفاضة في لوحة «عرس» أسود هي مزيج من التخييل والترميز والكابوسية، وأدت صبرا كعادتها لقطة العروس هذه ببراعة وشفافية آسرة. ولئن كان العرض الإيمائي هذا قائماً على فكرة «الأشلاء» المبعثرة في تمثلاتها المتعدّدة عبر اللقطات واللوحات والرقصات والحركات التي تواصلت، فهو بدا يحتاج الى المزيد من السبك. والخيط الداخلي (الخفي) الذي جمع بين المشاهد والذي تجلّى عبر التسلسل في توليد الأفكار والمشاهد، كان يحتاج بدوره الى القليل من الحبك، كي تشتد اللحمة الدرامية بين المشاهد أو «الأشلاء» بالأحرى التي قصد المخرج والممثلون الارتكاز الى فكرتها لخلق هذا الجوّ الإيمائي، الجميل والموحي. «كلّ هذا الإيماء»... فعلاً كلّ هذا الإيماء، وكلّ هذه السخرية وكلّ هذه الحرفية الراقية في خلق عرض مسرحي يفيض حركة وأشكالاً وصوراً ومعاني. * يعاد تقديم المسرحية على مسرح مونو الأشرفية في 25 و26 و27 و28 تشرين الثاني (نوفمبر).