هل بات منطقياً أن تسود مفاهيم مثل سياسات "الفوضى الخلاقة" أو "البناءة"، تلك الهادمة والمدمرة لبنى المجتمعات والدول، وفي ما أضحى يتجاوز مطلقيها ومروجيها، حتى إلى أولئك "الساعين" إلى مواجهتها في هذه المنطقة من العالم، مرة عبر التماهي معها، ومرات عبر وضعها موضع التطبيق والممارسة من جهات تسعى إلى تحقيق ذات الأهداف التي تتوخاها هذه"الفوضى"، وهي تذهب إلى إحلال استراتيجيات تهدف إلى فرضها منطلقاً"لشراء"الولاءات الاستتباعية، الهادفة إلى إقرار سياسات أكثر اعتماداً على القوة والنفوذ وأجندات الهيمنة الاخضاعية لإقامة"شرق أوسط جديد"، ما انفكت أوساط الادارة الاميركية الحاكمة، بل وقوى أخرى إقليمية ومحلية، تأمل قيامه من رحم سياسات الفوضى الهادمة، المتأتية عن فشل سياسات التخطيط الاستراتيجي للعقل السياسي الاميركي، والعقل السياسي المناهض لها أيضاً، في شبه اتفاق"غير مقصود"للوصول بأوضاع المنطقة وبعض أطراف العالم إلى القلب من دوائر الهيمنة المطلقة للأحادية القطبية ولأحاديات أخرى في الفضاء الاقليمي والدولي؟ لم يكن الفشل الاميركي في الحرب على الارهاب، وفي السيطرة على العراقوأفغانستان، والاخفاق الاميركي - الاسرائيلي المشترك في لبنان وفي فلسطين حتى اللحظة، والفشل الاميركي في تحقيق هيمنته الأحادية المطلقة وفق أجندة المحافظين الجدد، لم يكن كل هذا وليد سياسات المقاومة او الممانعة سياسياً وعسكرياً فحسب، بقدر ما كان يتأسس على قاعدة غياب القدرة الاميركية على الاحاطة والهضم وتوفير"مناخات التكيف"الملازمة لسياسات استراتيجية سبقت فيها عوامل العسكرة واندفاعات الغزو وغرور وعنجهية القوة، اي عامل ديبلوماسي أو سياسي، كان يمكن ان ينتج سياسات مغايرة، إلا ان عقلية امبراطورية مندفعة"بقوة الفراغ"الذي أحدثته سنوات ما بعد الحرب الباردة، افتقدت إلى حكمة ورشد السياسة، كان لا بد لها من إيقاع أصحابها في"بطر"فائض القوة وجنون عظمة الجنوح إلى أعماق مستنقعات ولجج التطرف الارهابي، في مقابل تطرف إرهابي مماثل لقوى إسلاموية وإقليمية أخرى جنحت وتجنح إلى ذات الاتجاه الجنوني - الامبراطوري، أفقدت فيه هذه الاخيرة مجتمعاتها اي منعة او قوة موحدة وطنياً، كان يمكن ان تعصمها من التفكيك والتشظي العرقي والطائفي والمذهبي، والانسياق خلف أيديولوجيات التجزئة والنحر الكريهة. هذا التمذهب والايغال في التمترس على جانبي الاصوليات المتناحرة، واستخدام الدين من جانب طرفي الصراع الراهن، لم يكن مقدراً له ان يستمر هكذا طويلاً. من هنا بدأت تنشأ طبيعة متجددة لصراع نفوذ وهيمنة على ثروات المنطقة ومجتمعاتها، أشد تعقيداً وتداخلاً. فالصراع على العراق وثرواته النفطية وموقعه الجيو استراتيجي، وفي سياقه الصراع في شأن الملف النووي الايراني، لم يعد صراعاً محدوداً في إطاراته المفترضة، بل هو الصراع الأكثر تداخلاً وتشابكاً مع قضايا سياسية ومجتمعية ناشئة، وأخرى عالقة، وقضايا أخرى أكثر احتداماً، يستهدف ملء فراغ بدأت ترسيه سياسات الفشل الاميركية، رغم كل محاولات استخدام او التلويح بالمزيد من القوة والانتشار العسكري، والتمسك بالقواعد العسكرية التي تحولت إلى"ثابت استراتيجي"، وحولت ثباتها في بعض دول المنطقة، منذ ما بعد حرب الخليج الثانية، إلى عنصر متقدم للدفاع عن المصالح الاستراتيجية الاميركية، في إطار ما يسمى"مصالح الأمن القومي الاميركي"، ولم تكن لتتعلق بالمصالح الآنية التكتيكية يومها، التي سعت للحفاظ على استقرار أنظمة المنطقة وأوضاعها من اهتزازات السياسات المغامرة للنظام العراقي السابق، وسياسات"تصدير الثورة"التي حملتها ايران في أعقاب إسقاط نظام الشاه كراية أيديولوجية، تستعيدها طهران اليوم، وإن في سياق مختلف، وهو ما بدأ يرتدّ إهتزازات غير مسبوقة في كامل المنطقة الخليجية والعربية المشرقية خصوصاً بدءاً من العراق وصولاً إلى فلسطينولبنان. في هذا السياق، يشكل الطموح الاقليمي لنظام المحافظين والبورجوازية القومية الايرانية، تجاوزاً لحدود طموحات الدول المستقرة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، ففي أعماق الاضطراب الايراني، تكمن فوضى من نوع خاص، تحاول المقاربة والتماهي مع فوضى أميركية"خلاقة"هادمة ومدمرة، لا تختلف في منزعها الامبراطوري عن منزع مماثل ذي منشأ قومي لدى النظام الايراني، يحاول التغطية عليه عبر تحالفات إقليمية متواجهة تتصادم أحياناً في محاولة للحد من الطموح والدور المركزي القطبي للولايات المتحدة، بما يعنيه ذلك من تبلور وارتفاع منسوب طموح طهران للاستيلاء على دور إقليمي، تريد له ان"يتكامل"مصلحياً وآنياً مع أدوار دولية لشركاء لها في قطاعات النفط والغاز واستثمارات التقنيات النووية، كما في شراكاتها مع كل من موسكو وبكين. وإذا لم يكن للتأثيرات بين الدول إلا ان تكون متبادلة، فإن التحرك في حدود المصالح المقبولة من جانب مجتمع الدول، يبقى هو المحدد الاول لمثل هذه التبادلية، وبالتالي وجود محددات لمدى هذا القبول من عدمه. فهل تجاوز الدور الايراني في العراق حدوده؟ وأي حدود هي التي تجاوزتها طهران، السياسية، الامنية ام حدود المصالح والنفوذ؟ ان تعثر المشروع الامبراطوري الاميركي في العراق يعيد الآن إحياء أمل استعادة المشروع الامبراطوري القومي الايراني، حيث الصراع على الملف النووي لم يعد يختزل الصراع الايديولوجي، او القومي الاميركي - الايراني فحسب، بل هو المؤشر الابرز لحدود القوة او وهمها وقدرة الهيبة وأوهامها الايديولوجية بين طرفين يتنازعان بعيداً عن أرضهما وعن حدود أمنهما الجيوسياسي القومي، بل عبر استخدام قوى أخرى وبلدان أخرى، يجري توظيفها لمصلحة هذا الطرف او ذاك. وعلى هذا يصبح من الخطأ اختزال السياسة الاميركية واستراتيجياتها في مسألة واحدة، تنتمي إلى فئة صراعات النفوذ والهيمنة، بل ان ما نشهده الآن، وفي أعقاب هجمات 11 أيلول، وغزو أفغانستانوالعراق، والفشل في إيجاد مخارج عملية لاستراتيجية"خروج مشرفة"، إلى جانب إخفاقات الحرب على الارهاب، باتت مفاهيم الصراعات الاميركية تنتمي إلى سلة او باقة من المسائل الاستراتيجية المترابطة التي حكمت أولويات الاندفاع العسكري والسياسي الاميركي في هذه المنطقة من العالم، وباتت أخيراً تتركز في محاولة احتواء او تحجيم الدور الايراني للحد من طموحاته الاقليمية. وعلى العموم إذا كانت لإيران كل المبررات الأمنية والعلمية والتقنية لاستثمار المعارف العلمية ومنها النووية السلمية، فإن انعدام الثقة التي تشهدها المنطقة، أضفى ويضفي شكوكاً متزايدة إزاء السلوك الايراني في العراق وفي المنطقة عموماً، إلى حد التساؤل عن نوعية الصراعات القائمة، هل هي من نوع الصراعات الايديولوجية، ام من نوع صراعات المصالح والنفوذ والهيمنة، لا سيما أن الأمن القومي العربي بات في مرمى انتهاكات متعددة في سياق الصراع الجاري أميركياً وإيرانياً، إلى جانب الانتهاكات الاسرائيلية المتواصلة بالطبع. فإذا كان الوجود العسكري الاميركي في المنطقة يشكل جزءاً من الاستراتيجية الكونية للولايات المتحدة، وقد تخطى متطلبات استراتيجية الدفاع عن إسرائيل او عن أنظمة حليفة، فإن مفاهيم المجابهة الايرانية الحالية، أضحت تتعدى هي الاخرى نطاق الدفاع عن الأمن القومي الايراني، وهي تأخذ أبعاداً أيديولوجية تجزيئية، تتمازج مع أبعاد من طبيعة صراعات المصالح والنفوذ والهيمنة. لهذا تتعدى الرغبة الاميركية او الاميركية - الاسرائيلية المشتركة محاولة وقف تطوير إيران لبرامجها النووية، إلى محاولة تغيير سلوك النظام الايراني، طالما هي غير قادرة على تغيير النظام، وضبط سياساته العراقية عند الحدود المقبولة اميركياً وإسرائيلياً، والحد من قدرته على التدخل في المحيط الاقليمي، وعرقلة وإحباط إنماء علاقاته بسورية و"حزب الله"في لبنان وبعض قوى"الاسلام السياسي"في فلسطين والمنطقة بشكل عام. وإذ تبلغ الامبراطورية الاميركية عمق حالة هبوطها وتعثرها، فإن مقتضيات المصلحة العربية المشتركة والأمن القومي العربي، باتت وأكثر من أي وقت سبق، تتطلب ضرورة استنهاض الارادة العربية المشتركة، من أجل قيام نظام إقليمي دولي متوازن، يغاير منطلقات وأهداف القطبية الأحادية. إذ ليس من مصلحة شعوب ومجتمعات وأنظمة المنطقة عموماً، وفي سياق الصراع الراهن على العراق، وإزاء الملف النووي الايراني، الانسياق خلف صراعات عنيفة، تجزيئية وتفتيتية، قد تعصف بكامل الاوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تحققت، وأفادت منها شعوب هذه المنطقة، وحققت عبرها نوعا من الاستقرار والازدهار. وهذا يتطلب تغييراً في البيئة الاقليمية، يقوم على الحوار والتعاون، وليس على الصراع والعنف لتحقيق استقرار النظام الاقليمي، بديلاً من الاستجابة لنفير دعوات الصراعات الايديولوجية، أو تنافس المصالح الجيوسياسية والطموحات الجيواستراتيجية القائمة على نزعات ومنازعات الهيمنة والاخضاع لأنظمة وشعوب هذه البلاد. وهنا لا بد من التساؤل: لماذا لا تلجأ واشنطن إلى حوار إقليمي بشأن الملف النووي الايراني، فيما هي تلجأ إلى إقامة مثل هذا الحوار بشأن الملف النووي الكوري الشمالي؟ ولماذا يتماهى بعض النظام الرسمي العربي مع الاهداف الاستراتيجية الاميركية، أو يساق بعض آخر إلى تحالفات معادية لمصالح الشعوب العربية، هذه المصالح التي تفترض التفكير بعلاقة غير صراعية مع دول الجوار الاقليمي إيران وتركيا وقبلها جسر الهوة التي تقوم اليوم بين أجنحة النظام الرسمي العربي، وبما ينهي او يساهم في إنهاء حالة تفكيك الارادة العربية، حتى لا يبقى الوضع العربي عرضة لتدخلات إقليمية ودولية مختلفة من الخارج، وهجمات إرهابية متطرفة من الداخل؟ بالتأكيد ليس من مصلحة الشعوب العربية ولا الشعب الايراني، الانسياق خلف تبني رؤى ومفاهيم تقوم وتبنى على المشاركة في أدوار وطموحات ذات دوافع تدميرية في مآلاتها الآنية القريبة والاستراتيجية البعيدة. فلا النظام الايراني ولا الادارة الاميركية، قادران على استيعاب مقتضيات المصلحة القومية المشتركة لكل من الشعب الايراني او الشعوب العربية، تلك المقتضيات التي تحتم الحوار والتعاون او التنافس الايجابي في أسوأ الاحوال، بديلاً عن تلك المقتضيات التي تنساق إليها المصالح الانانية الضيقة لأنظمة أيديولوجية، تذهب في الدفاع عن مصالحها وعن رؤاها الذاتية وتصوراتها الواهمة لذواتها ولايديولوجياتها الى حدود ممارسة وتشجيع التطرف والعنف والارهاب، ونقض كل أطر الشرعيات المحلية والدولية، ومغايرة أهدافها إلى حد نقل الصراعات والحروب من أطرها المحلية إلى البيئة الاقليمية و/ أو الدولية إن أمكن، ما يعني ان صراعات من طبيعة هيمنة إخضاعية كهذه، لن تقدم سوى وعود الدمار والتفكيك، وإحلال لغة التطرف والارهاب والتفتيت، وفرضها في واقع أنظمة ومجتمعات وشعوب، تتعرض هي الأخرى إلى محاولة تجزيئها، وإعادة رسم ملامح اصطفافاتها وفق أطر اكثر أدلجة، تتجاذبها قوى إسلاموية محلية معادية لمنطق بناء الدولة، وقوى إقليمية لا تقل عداء هي الاخرى، كما وقوى التحالف الدولي بزعامتها الامبراطورية التي لا تقل في سلوكها وممارساتها عن عداء قوى التفتيت بممارساتها الارهابية المتطرفة، الساعية إلى"منافسة"الهيمنة الدولية على قاعدة وأرض مشتركة في ما بينها تنطلق وتتفق على نحر وتدمير المجتمعات وأنظمتها ودولها على اختلاف حالاتها وإحالاتها ومرجعياتها. وعلى هذا يصح القول ان التخبط الذي تعانيه السياسات الاميركية في كامل المنطقة والعالم، يعيد اليوم توليد أسس جديدة لسياسات الهيمنة التقليدية، وهي السياسات التي لا تفيد ولا تساعد في أي حل سياسي، ولن تؤدي إلى قيام أي تسوية من أي نوع. فالخيارات الاميركية الراهنة تبتعد عن مدارات اي شكل من أشكال التسوية، فيما هي تذهب بعيداً بسياسات الفوضى التي ما فتئت في صلب استراتيجية المحافظين الجدد، أو بقاياهم، وفي مقابلها مثيلتها تلك الاستراتيجية الخاصة بمحافظي النظام الايراني، على الرغم من تراجع نسب التأييد الشعبي للرئيس نجاد في الانتخابات الاخيرة. من هنا يمكن ملاحظة ان التخبط الاميركي بدأ يفرز سياسات إسرائيلية تتخبط هي الأخرى في وحول خياراتها الغائمة، وهو ما باتت تعكسه تلك المشروعات التسووية غير المتفق أو المجمع عليها لا حكومياً ولا شعبياً. كما ان التخبط العراقيوالفلسطينيواللبناني في قعر أزمات أضحت وتضحي أكثر استفحالاً، يؤشر إلى المضي في سياسات إدارة الأزمة او الأزمات القائمة على استعصاءات تكوينية أو بنيوية في بنى الادارات السياسية لبلدان أضحت تشكل مسرح المواجهات الاقليمية الدولية وساحاتها الملتهبة، على خلفية صراعات النفوذ والهيمنة من جهة، وصراعات الايديولوجيات المتناحرة لأصوليات التمذهب السياسوي والطوائفي، التي توغل يومياً في تقديم أضحياتها على مذبح أوهامها"المنتصرة"دائماً، فيما الشعوب ووحداتها الوطنية وقضاياها هي الخاسرة على الدوام. * كاتب فلسطيني