أكثر من ثلاث سنوات منذ احتلال العراق، وما يقرب من خمس سنوات على هجمات 11 أيلول سبتمبر 2001 الارهابية وشن الحرب على أفغانستان في أعقابها مباشرة، كافية للحكم على مدى التغيير ومديات التأثر والتأثير التي أصابت وتصيب الولاياتالمتحدة في داخلها، كما في حروبها الخارجية، وإنعكاسات كل ذلك على نزوعها"الامبراطوري"للهيمنة على العالم، وانكشاف نزعات العولمة الوحشية وعجزها البنيوي عن إطلاق ميكانيزمات التدفقات المالية فعلياً إلى أسواق العالم، وظهور زيف حرية التجارة. وقد فتحت ما اعتبرته الولاياتالمتحدة نجاحاتها في كل من أفغانستانوالعراق شهية محافظيها الجدد ومشروعهم، إلى مزيد من حث الخطى، باتجاه عناوين زائفة لخطاها المقبلة، من قبيل أطروحات الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان. في هذا الوقت كانت ظاهرة العولمة في تغوّلها، واتساع رقعة انتشار الإرهاب المعولم، تضع العالم على شفير الحروب الطويلة والدائمة، أهلية وديبلوماسية ومدنية وعسكرية واقتصادية وثقافية، تدور رحاها عبر أشكال متعددة من صراعات النفوذ والهيمنة، وهو ما سيؤدي إلى وسم كفاح الشعوب ونضالاتها كافة بالارهاب، فيما دوله تعج بالقضايا والاحتياجات الاهم، وفي مقدمها قضايا التنمية والاستقلال والتحرر والديموقراطية، وهي قضايا يجرى استبدالها بمسائل أقل شأناً وأكثر أدلجة. وقد أدت العولمة بطابعها الاميركي الراهن إلى تنافر عالم اليوم، وتعارض، بل وتناقض الاهداف التي تسعى دوله إلى تحقيقها، في وقت تحولت فيه دول كثيرة إلى أشباه دول، ومجرد أسواق تتماهى وأهداف عولمة متوحشة، باتت تتحكم بشروط التجارة، بما فيها شروط الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، التي تمنع الدول الفقيرة من إدخال منتجاتها إلى الاسواق العالمية، حيث تنفق البلدان الغنية سنوياً أكثر من 300 مليار دولار، لدفع معونات تحول دون وصول صادرات الدول الفقيرة إلى أسواقها، وتضع العراقيل أمامها في الاسواق الاخرى. ولهذا لم تنتج العولمة الاميركية إلاّ مزيداً من الإفقار للدول النامية، وبدلاً من تدني مستويات الفقر، زادت هذه المستويات في شكل مرعب حتى داخل الولاياتالمتحدة. في حين يبقى الفقر والفقر المطلق والديون المتزايدة، والامراض الاشد فتكاً في بلدان العالم الثالث، السمة الأبرز لطابع فقدان الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. كما أن إعصاري ريتا وكاترينا كانا قد كشفا المستور الداخلي لسياسات العولمة والحروب الاميركية، وأن الفقر المعشعش في الكثير من الولايات لا يختلف في سوئه عن أسوأ المناطق فقراً في أي دولة من دول العالم الفقيرة. بل أن جزراً من الفقر والإفقار، هي في المحصلة نتاج طبيعي للتركيب الاقتصادي السائد في الولاياتالمتحدة، الأكثر استعداداً لتنمية اقتصاد رأسمالي لا يدخل في حساباته إمكانية مكافحة الفقر، عبر التركيز الضروري على التنمية الاجتماعية، بدلاً من التركيز على النمو الاقتصادي، تلك الاسطورة التي تولّدها أيديولوجيا النظام الاميركي، وتحجّر نخبه الفكرية التي ترى أن مثل هذا النمو يمكن أن يعم ليشمل الفقراء، إذ يتم بفعل مصروفات الاغنياء ومشترياتهم! في وقت يذهب منظرو العولمة والداعون لها من الليبراليين الجدد، إلى إمكانية توسيع ظاهرة الاستهلاك في مجتمعات بالكاد تسد الغالبية فيها احتياجاتها اليومية الضرورية. وفي ضوء ما بلغته فضائح الداخل الاميركي من تجاوزات موازية لتجاوزات قوات احتلالها في الخارج، يحق التساؤل: كيف لمن يسعى إلى بناء دولة بوليسية في فضائه الداخلي أن يمتلك صدقية نشر الديمقراطية وينادي بسيادة مبادئ حقوق الانسان في فضاء الخارج، في وقت أصبح المحافظون الجدد يحكمون سيطرتهم على مداخل السلطة في البيت الأبيض ومخارجها، وباتوا على النقيض من ادعاءاتهم في الخارج: ماضون في تدمير الديموقراطية وحكم القانون في الداخل بذريعة حمايتهما. ففي أعقاب هجمات 11 أيلول سبتمبر بات الأميركيون يعيشون في ظل دولة شبه بوليسية، تماماً كما تفعل الانظمة الاستبدادية الشمولية، تلك التي يزعم الأميركيون أنهم بصدد تغييرها، وكأن لعنة الشمولية تلك أضحت ترتد إلى الداخل الاميركي، في ظهور يؤطر نقمة التشارك في احتلال المجتمعات بين إمبريالية معولمة سبق أن أخضعت السلطات الحاكمة لاحتلال إرادتها، وتلك الساعية إلى الحفاظ على سلطاتها عبر آليات كسر إرادة مجتمعاتها الوطنية بهدف الاستيلاء والهيمنة عليها، وتقديمها لقمة لقوى الهيمنة الخارجية. أما في المجال العراقي، فإن السياسة الاميركية وبعد ثلاث سنوات من الحرب في العراق وعلى العراق، وإطاحة الدولة المركزية ونظامها الديكتاتوري أصبح من الصعب رؤية إمكانية أن يعيد العراقيون بناء دولتهم، فالاحتلال الاميركي مزق كل بنى العراق الوطنية والمجتمعية، معيداً إياها إلى تكويناتها البدائية القبلية والعشائرية والطائفية والمذهبية والاثنية، مكرساً كل هذا في كل ما صدر عنه وبتشجيع وتخطيط ورعاية منه، ورعاية اطراف إقليمية، من قانون إدارة الدولة الموقت إلى الدستور إلى الانتخابات الاولى والثانية وغيرها من قوانين وضعت أساساً قانونياً لمجموعة من الانقسامات التي باتت عليها السلطة الحالية في كل ما ينظّم حركتها نحو إعادة تأسيس سلطة لدولة فقدت مقوماتها، ليس بفعل إجراءات الاحتلال ورؤيته لهذا البلد، بل وبفعل رؤية كثير من القوى السياسية والدينية من أبنائه الذين سيقوا ويساقون إلى تدمير ممنهج لمؤسساته، بعد أن أتمت قوانين الاحتلال عملية التحاصص الطائفي والمذهبي والاثني، تلك التي قادت إلى اقتسام الشعب العراقي وتقاسمه بين قوى الاحتلال وقوى المصالح والنفوذ والهيمنة الاقليمية. ولهذا... ما عاد ممكناً الحديث عن أي أسس أخرى غير تلك التي تساندت وتشارطت في إجراءاتها الواقعية بدفع العراق نحو الحرب الاهلية، التي بات يرزح في أتونها. أما مزاعم النصر وتلك المزاعم التي تحاول التخفيف من وطأة الصراع الاهلي بادعاء أن العراق مازال على حوافّها، فهي ليست أكثر من مزاعم تضليلية، تعكس طبيعة فشل استراتيجية الحرب في العراق. الحرب الأهلية إذاً هي الإرث الحقيقي والواقعي للحرب الاميركية في العراق، كما هي الإرث السياسي للعملية السياسية بطابعها الاميركي والنتيجة الحتمية للمحاصصة التي أخضعت لها منذ البداية، وهي الناتج الطبيعي لعجز الادارة الاميركية عن استيعاب نتائج حربها. إن وهم أن تستطيع المباحثات الاميركية ? الايرانية إيقاف الحرب الاهلية والفوضى الشاملة في ظل استبعاد العراقيين وعدم إشراكهم فيها، إنما هو وهم مكمل لأوهام قيام حكومة وحدة وطنية من مزيج التحاصص الطائفي والاثني الذي أرسته القوى الفاعلة، سواء تلك التي قامت بالاحتلال، أو تلك الساعية إلى وراثته بالاستيلاء على مستقبل العراق، أو تلك التي تدفع به إلى التفكك وإقامة فيديرالياتها الطوائفية والمذهبية والاثنية المتقاتلة. وقد بات واضحاً أن التنازع على إستراتيجة خروج من العراق، إنما هو تنازع ذاتي داخل الادارة الاميركية نفسها قبل أن يكون تنازعاً مع أي طرف آخر. على رغم ذلك فإن المساومة في هذا النطاق من أجل الوصول إلى تسوية ما يمكن أن تتجاوز حدود الوضع العراقي في المباحثات مع طهران، تبقى إمكانيتها قائمة في ظل المدى الذي يبلغه مأزق الاحتلال، لكن من دون تقديم"تنازلات مؤلمة"في نظر المحافظين الجدد، فما زال البقاء في العراق أحد أكثر الخيارات وضوحاً والاكثر قبولاً من جانبهم لاستكمال مهمة الهيمنة ليس على العراق وثرواته النفطية، ومحاولة إخضاع دول الجوار العراقي المتمردة، بل والهيمنة على جيوإستراتيجيات ما يتعدى نطاق المنطقة وصولاً إلى آسيا وجنوب شرقها. لاسيما ان الطموح الإقليمي للنظام الايراني تعدّى محاولات التأثير المذهبية وحيازة العراق في نطاق هذا الطموح، وضم الرصيد النفطي إلى الطموح الاقتصادي الايراني، بل والمساومة على العراق مع الاميركيين وتحالفهم الدولي للإقرار بالطموح النووي، وقد تسعى طهران إلى عكس الموضوع، أي إلى التنازل جزئياً عن طموحها النووي في مقابل تحقيق نفوذ أوسع لها في العراق. ولهذا لا تخضع الاستراتيجية الاميركية في العراق لأجندة محلية عراقية، إنما هي وفي طياتها المضمرة تحمل أكثر من توجه وطابع إقليمي ودولي، وتخضع لمحددات الضرورات الاميركية أولاً، والاسرائيلية ثانياً، وفق رؤية أشمل لواقع المنطقة، ما يعني أنه لن يكون ممكناً التعويل على خطوات تؤسس لمستقبل العراق، من قبيل العملية السياسية بطابعها الأميركي، وإذ تنتهي اليوم عند هذا الحد من فشل الرهان على كون الانتخابات وتشكيل الحكومة، ربما تكون بداية الخلاص من كابوس العراق، إلا ان واقع العراق الراهن وفي المستقبل القريب سيؤكد مقولة أن العملية السياسية في ظل الاحتلال، وغلبة الاقليميات الطائفية باطلة، وباطل الاباطيل كل ما يخرق القانون والمعايير الدولية، ويزعزع الوحدة الوطنية للعراقيين. الاحتلال الاميركي ? كما اي احتلال بالمطلق ? لا يمكن أن يؤسس لمصالح أخرى غير مصالحه هو، حتى وهو يستعين بقوى متعارضة او متناقضة جزئياً معه لتحقيق تلك المصالح، لاسيما وان الاصطفاف السياسي ? الديني الجديد الناشئ في عراق اليوم، يناهض مصالح الشعب العراقي وتطلعاته الوطنية، وهو يصب في كل الاحوال في طاحون الاحتلال ورؤيته السياسية لمستقبل العراق في بوتقة المصالح الاميركية، في الوقت ذاته الذي تصب التشكيلة النخبوية الجديدة في بوتقة المصالح الطائفية وتمذهبها السياسي ? الديني الناشئ بفعل الاحتلال، وبفعل غياب المؤسسات والدولة ككيان سياسي جامع، وانحلالها وهيمنة قوى أجنبية عليها هي الاحتلال وشركاؤه من قوى إقليمية ومحلية تابعة. على أن التأسيس لمستقبل العراق، مهمة وطنية بالضرورة، ولا يمكن لها أن تكون نتاج التحالف بين نخب طوائفية ومذهبية متناحرة، بنزوعها الاستبدادي للهيمنة على السلطة، واتجاه أقسام واسعة منها للتحالف والاستناد في تحقيق غلبتها إلى أوضاع إقليمية ناشئة. إذ ليس من مصلحة الاحتلال أو اي قوى إقليمية أخرى التأسيس لمستقبل وطني واعد، لعراق وقع ضحية أكثر من إحتلال في وقت واحد: احتلال الارض والوطن، واحتلال إرادة أقسام واسعة من قواه البشرية، وتحويلها إلى رصيد للاحتلال، في الوقت الذي تحولت فيه إلى رصيد لبعض القوى الاقليمية المتربصة في نزوعها الثأري ? الانتقامي من سلطة استبدادية ? ديكتاتورية أطاحها الاحتلال الاميركي، وأطاح معها الدولة بكامل مؤسساتها، وترك الشعب العراقي نهباً لتجاذبات شتى معادية لوحدته الوطنية، ولانتمائه العربي واحترام تعدّده الإثني والطائفي. * كاتب فلسطيني.