عندما أصدر "نادي القلم" الدولي في العام 2000 كتاب "كتّاب في السجن" جامعاً مختارات من عيون الأدب العالمي الذي كتب في السجن وعنه، كان يظن أن هذا الكتاب هو بمثابة وداع لهذا الأدب الذي بلغ ذروته في القرن العشرين، قرن السجون والمعسكرات والحروب، وقرن التحولات الجذرية سياسياً وفكرياً وايديولوجياً. وبدا الكتاب الذي صدر في نهاية القرن العشرين أشبه بالتحية الى الكتّاب والشعراء والروائيين الذين أمضوا سنوات وراء القضبان وعانوا الكثير من الألم والعزلة واليأس، خصوصاً في سجون المعسكر الاشتراكي وسواه. إلا أنّ أدب السجن لم ينحسر كلياً في مطلع الألف الثالث، وما برح كتّاب كثيرون يدخلون السجون، يبقون فيها أو يخرجون منها، وما زال بعض هؤلاء يكتب ما يكابد داخل الزنزانات. كأن هذا الأدب الذي طالما شكل ظاهرة في القرن العشرين لم يغب مع سقوط ايديولوجيا القهر والقمع ولا اختفى تماماً مع رواج ثقافة"العولمة"التي شرّعت حدود البلدان والمجتمعات بعضها على بعض، سلباً او ايجاباً، لا يهمّ. وقبل أسابيع أحصت احدى المنظمات الدولية نحو أربعين من سجناء الرأي في العالم، وضمنهم صحافيون وكتّاب لم يرتكبوا سوى"جرم"التعبير بحرية. مثل هذا الكلام قد يكون حيز مدخل الى كتاب الشاعر السوري فرج بيرقدار"خيانات اللغة والصمت"الذي تولّت إصداره دار الجديد حديثاً في بيروت. فالكتاب كما يشير عنوانه الثاني تغريبتي في سجون الاستخبارات السورية ينتمي الى أدب السجن، ويمثل نموذجاً من نماذج الأدب العربي الجديد الذي كتب داخل السجن أو بعد الخروج منه. قضى الشاعر بيرقدار قرابة أربع عشرة سنة بين سجن تدمر الصحراوي وسجن صيدنايا العسكري. أُدخل السجن في عهد الرئيس حافظ الأسد عام 1987 وأخرج منه في عهد الرئيس بشار الأسد عام 2000 في ظل ما سمّي"ربيع دمشق". في السجن لم يكتب الشاعر إلا قصائد على عادة الشعراء المسجونين، وفي السنوات الأولى اعتمد ذاكرته وذاكرة بعض رفاقه ليحفظها من النسيان وليدوّنها لاحقاً على أوراق السجائر ويهرّبها الى الخارج. وخلال هذه"الاقامة"أو خلال هذا"الزمن الميت"كما يعبّر يانيس ريتسوس، جمع أصدقاء الشاعر القصائد وأصدروها عام 1997 في ديوان حمل عنواناً مثيراً هو"حمامة مطلقة الجناحين". وكان هذا الديوان الذي ترجم الى لغات أجنبية أحد الحوافز التي ساهمت في إطلاق سراح الشاعر، لا سيما بعد الحملة الكبيرة التي قامت بها مؤسسات دولية مثل"نادي القلم"و"اللجنة العالمية المناهضة للقمع"و"الأمنستي"ومنظمة"صحافيون بلا حدود"، وغاب عنها طبعاً اتحاد الكتّاب العرب في سورية الذي لم يبال يوماً بأي قضية مماثلة. الديوان يختلف طبعاً عن الكتاب السردي الذي هو أقرب الى المذكرات المستعادة. القصائد كتبها الشاعر في الداخل، أما النصوص السردية فكتبها بعدما خرج. وإذا استطاع الشعر أن ينقذه ويمنح حياته في السجن"معنى مختلفاً"كما يعبّر، فإن النصوص الأليمة هذه قد تكون أقرب الى"الاعترافات"التي يمكنها أن تشفيه من الألم والأسى اللذين طبعا حياته"السابقة". إلا أن الشاعر الذي كتب هذه النصوص خارج السجن لا يبدو أنه يستعيد الأيام الحافلة باليأس والذل والعذاب بقدر ما يلج عالم السجن بوقائعه المأسوية و"صباحاته المضفورة بالشوك"، وكأنه لا يزال داخله ويكتب فيه. إنه"الأمس"الذي أصبح كابوساً، بل"الامس"الذي يطغى على الحاضر. يكتشف الشاعر من خلال الكتابة خارج السجن أن إسمه لم يعد"السجين الرقم 13"ولا"أبو البيجامة البنية"كما كان يُسمى، بل أصبح يدعى كما من قبل: فرج بيرقدار. وكم هاله أن يُطلق عليه إسم حركي هو"سيف أحمد"عندما أدخل المستشفى، وكان خوفه أن يموت ميتة نكراء بلا اسم ولا سجل ولا أهل... نصوص أليمة جداً، واقعية جداً و"مكشوفة"كما يقال، تنقل تفاصيل حياة كابوسية، أبطالها سجانون لا يعرفون الرحمة، حياة يتمنى السجين فيها أن تكون"روحه الملعونة من حجر". في هذا السجن لا يتردد الشاعر عن القول:"طوبى لمن يستطيع أن يكون كما لو أنه لم يكن أبداً". في هذا السجن أيضاً يجد الشاعر نفسه أمام الانتحار أو البكاء. يختار البكاء طبعاً، خصوصاً عندما يسمع صراخ المعذّبين ينقلب"عواء مقلوباً"أو عندما يرى رفيقاً له مجبراً على ابتلاع جرذ ميت. ولكن وسط ذلك الظلام المقيت الذي لم يطفئ الحلم نهائياً ولا الأمل، كان يظهر في أحيان ضوء القمر منسلاً من خلال"الشراقة"في أعلى الجدار. هذا الضوء هو الذكرى الوحيدة الجميلة التي حملها الشاعر معه. وعبر تلك"الشراقة"كان يرى أيضاً"الجزء العلوي لسروتين متجاورتين، تتهادل عليهما وقت الأصيل حمامتان عاشقتان". أما أشد الصفحات كابوسية فتلك التي يصف فيها أدوات التعذيب وطرق استخدامها: الشبح على السلم، الفسخ، الدولاب، الكهرباء، الكرسي الألماني الذي يحلو له أن يسميه"الكرسي النازي". ونظراً الى القسوة التي تهيمن على السجن يطلق الشاعر عليه صفة"الذكورة الافتراسية"ويقابل بينه وبين الحرية واصفاً إياها ب"الانوثة الرحمانية". إنها الحرية التي جعلها الشاعر الروسي جوزف برودسكي"قرين"أدب السجن قائلاً:"ما يجيد الكاتب قوله عن السجن يجب أن يعني كل الذين يريدون أن يبقوا أحراراً". في العام 1993 اختار فرج بيرقدار عبارة"دفاعاً عن الحرية"عنواناً لنص المرافعة التي تقدم بها أمام محكمة أمن الدولة العليا في دمشق عام 1993. ولعله من أجرأ النصوص التي يمكن أن يتلوها سجين أمام محكمة. من يقرأ كتاب"خيانات اللغة والصمت"يصاب فعلاً بأسى عميق، وقد لا يصدّق ان كائناً بشرياً يستطيع أن يحتمل مثل هذه التجربة الجحيمية، التي تفقد الانسان انسانيته جاعلة منه جسداً بلا روح ورقماً مسحوقاً بلا ماض ولا حاضر.