مهما عظمت تجربة السجن التي خاضها الشاعر فرج بيرقدار طوال أربعة عشر عاماً، فهي يجب ألا تنسينا أن السجين "المحرر" هو شاعر أولاً وآخراً. وهواء الحرية الذي بدأ يتنفسه بعدما أُخرج من زنزانة الألم والعزلة والموت يجب أن يردّ اليه حياة الشعر فيرجع كما كان في منتصف السبعينات شاعر "الكرّاس الأدبي" وشاعر الحلم والتسكّع. يصعب طبعاً على شاعر سجين أن ينسى ما عانى وكابد طوال تلك الأعوام. فالألم محفور في القلب والروح، والعذابُ الذي حلّ به يفوق الوصف والعتمة التي غرق في هاويتها سرقت منه ضوء الحياة. يستحيل على فرج بيرقدار أن يستعيد ما فاته من سنوات ومراحل سلبته إياها رتابة الزنزانة المحفوفة بالخوف والوحشة. فالتاريخ لا يرجع الى الوراء واللحظة التي تضيع تسقط في حفرة الزمن. لكن الشاعر قادر حقاً على صنع معجزته الشخصية حتى وإن غدا منهكاً ومجروحاً... ولم تكن عودة فرج بيرقدار الى الشعر في السجن إلا دليلاً على صنع تلك المعجزة. فالشعر الذي كان هجره قبل الدخول الى السجن منصرفاً الى النضال السياسي سرعان ما عاد اليه داخل الزنزانة كي يتمكّن من استعادة الحياة المفقودة والمغيّبة. كتب فرج بيرقدار الشعر في السجن، وعلى غرار السجناء من أهل الشعر والأدب، عانى الكثير من أجل أن يكتب. فهنا لا أقلام ولا أوراق، بل كتابة بالذاكرة والعينين. وإذا لم تسعف ذاكرة الشاعر كثيراً فذاكرة الرفاق خير ملاذ لانقاذ تلك القصائد أو المقاطع من نار النسيان. لم يكتب بيرقدار الا ليرسم نافذة في خضم ذلك الظلام وليطلّ من تلك النافذة على الشمس والقمر، على السماء والذكريات. لم يكتب شعراً نضالياً ولا قصائد غاضبة عالية النبرة، بل كتب شعراً ملؤه الحنين والحب وقصائد فيها الكثير من الحزن الشفيف والعبث والألم. وقد لا تكون قصائد السجن من أهم ما كتب لكنها قصائد الحياة حين تصبح الحياة فعل مواجهة للموت، قصائد الأمل حين يصبح الأمل شعلة البقاء، قصائد الذكريات والأحلام حين تصبح الأيام يوماً واحداً، رتيباً وكئيباً... كان الشعر عزاء فرج بيرقدار في تلك اللحظات القاتمة والطويلة. يكتبه كيفما توافر له أن يكتبه، عفوياً وصادقاً، جارحاً في مرارته، في سخريته وعبثه. في السجن لا يحتاج الشاعر إلا أن يعبّر. فالتعبير هنا هو حاجة وتجربة في الحين عينه. لا يحتاج الشاعر أن يتأمل في ما يكتب ولا أن يتأنّى في ما يكتب. فما يكتبه يخشى عليه من أعين السجّانين وأيدي الجلاّدين. ولكن ما من سجّان استطاع أن يصادر أحلام سجين ولا أفكار سجين ولا تأملات سجين. ولئن بات شعر فرج بيرقدار يُصنّف بحسب تجربة السجن: شعر ما قبل السجن وشعر السجن، فالأمل الآن أن يكون شعر ما بعد السجن هو النتاج المنتظر. فشجرة الشعر حان لها أن تينع وحان لثمارها أن تنضج بعد كل ذلك الألم وكل تلك الكآبة! ويا لشجرة الشعر حين تلمسها نار الألم!