ينحو معظم الخطاب الفلسطيني المعارض، أو المناهض لتوجهات القيادة الفلسطينية السائدة، الى التركيز على مفصلية عملية التسوية والمبالغة بشأن التداعيات الناجمة عنها والترويج لاعتبارها السبب الرئيس لانتكاسة قضية فلسطين، وتدهور أحوال شعبها، وأنها بمثابة الطامة الكبرى لحركته الوطنية. في الواقع، فإن هكذا خطاب يساهم في تغطية التحديات الفعلية، أو في حجب الأسئلة الحقيقية التي تطرح نفسها على الساحة الفلسطينية ويحاول أن يعفي نفسه من المسؤولية تجاهها أو من عدم القدرة على مواجهتها. ومشكلة هذا الخطاب أنه يستغرق بالسياسة اليومية التي هي شغله الشاغل، وأنه يصدر، على الأغلب، عن رؤية سطحية ومتسرعة ورغبوية تتجاهل العوامل الموضوعية وتبالغ بالقدرات الذاتية وتتعامل مع الواقع باعتباره حالاً جاهزة بمعزل عن المعطيات والإمكانات، وانه لا يصدر عن رؤية استراتيجية تراكمية وشاملة وواضحة للعملية السياسية التاريخية أو للتغيرات الاجتماعية بأبعادها ومعطياتها وتعقيداتها. في كل الأحوال، فإن هكذا خطابات تتم بأوضاع الشعب المعني ولا بإمكاناته المتاحة والممكنة، وهي تحض على بذل التضحيات بغض النظر عن الجدوى أو عن مدى القدرة على استثمارها على شكل انجازات! الآن، وبغض النظر عن تقويم هذا الخطاب ووجاهته من عدمها وهذا شأن نقاش آخر، وبغض النظر عن تقويم الدوافع والمعطيات التي أدت الى انخراط الفلسطينيين بعملية التسوية، بمآلاتها السلبية أو الايجابية وهذا نقاش قديم، وأيضاً بغض النظر عن السؤال بشأن الدليل الموضوعي الممكن أو المتاح لتفويت هذه العملية التي فرضت فرضاً في ظل ظروف دولية واقليمية معروفة وهو نقاش مطروح دوماً، فإن تفحص أوضاع الشعب الفلسطيني وقضيته وواقع حركته الوطنية، تؤكد بأن عملية التسوية ليست هي المعضلة الوحيدة ولا الأساسية للساحة الفلسطينية من دون أن نقلل في هذا الاستنتاج من الآثار السلبية لهذه العملية على شعب فلسطين وقضيته وحركته الوطنية، كونها مجرد تسوية مجحفة وناقصة وغير مبدئية ولا ندية، بسبب المعطيات والشروط التي أحاطت بها حتى المتحمسون لها يصفونها كذلك. القصد مما تقدم هو وضع عملية التسوية في سياقها الصحيح، وعدم تحميلها أوزار التدهور الحاصل في أوضاع الشعب الفلسطيني وقضيته وحركته الوطنية، والمساهمة في تسليط الأضواء على مكامن الخلل الحقيقية في الساحة الفلسطينية، التي أدت بدورها الى انحطاط عملية التسوية واستهلاكها وتكريس السلبيات الناجمة عنها. وكما قدمنا، فإن تفحص حيثيات التجربة الفلسطينية المعاصرة يبين أنه ثمة معضلات أساسية لا تقتصر على عملية التسوية يكمن أهمها في التالي: 1- غياب استراتيجية سياسية وميدانية واضحة ومتفق عليها بين أطراف الطيف السياسي الفلسطيني، ما أدى الى التشويش على القضية الفلسطينية. 2- تغييب منظمة التحرير، وهي الكيان السياسي والمعنوي للشعب الفلسطيني، ومع غياب المنظمة كمؤسسة، يمكن الحديث ايضاً عن تغييب المؤسسة عن العمل الفلسطيني بمجمله، على مستوى المنظمة وعلى مستوى السلطة، كما حتى على مستوى الفصائل، لصالح القيادات الفردية الأبوات، أو القيادات والشلل الميدانية. 3- حرمان الفلسطينيين في مناطق اللجوء من المشاركة في العملية الوطنية، أو في القرار السياسي، لأسباب ذاتية وموضوعية في آن معاً، ما يشكل شرخاً موضوعياً في الجسم الفلسطيني، بما لذلك من عواقب سياسية واجتماعية وتداعيات تتعلق بالوحدة والهوية والتطور السياسي للفلسطينيين. 4- الاخفاق في مختلف التيارات التي أخذت بها الساحة الفلسطينية، فلا عملية التسوية نجحت ولا عملية بناء الكيان انجزت، كذلك فإن الانتفاضة الشعبية تبددت لصالح العمليات الفدائية المحترفة وضمنها العمليات التفجيرية، وعمليات العسكرة للنظام الفلسطيني. وحتى هذه الأخيرة فإنها ادخلت الفلسطينيين في مواجهات غير محسوبة استنزفت قدراتهم وأضعفت صدقية قضيتهم وكادت أن تكسر صورتهم كضحايا للاحتلال والعدوان الإسرائيليين. 5- انقسام الساحة الفلسطينية بين تيارين، احدهما يمثل الوطنية السياسية تقوده حركة"فتح" والثاني يمثل الإسلام السياسي تقوده حركة"حماس. وهو الانقسام الأول من نوعه في الساحة الفلسطينية بخلفياته السياسية وبتوظيفاته الايديولوجية والاقليمية. 6- المبالغة بظاهرة العسكرة في المجتمع الفلسطيني الذي باتت فيه الميليشيات الميدانية تتحكم بالشارع وبتوجهاته وتقود عصبياته وتحسم في خلافاته. 7- تراجع مكانة القضية الفلسطينية على الصعيد العربي، الرسمي والشعبي، بعد أن باتت ثمة قضايا أخرى على غاية الأهمية مثل لبنان والسودان، وخصوصاً العراق. وفوق كل ما تقدم، فإن واقع الساحة الفلسطينية اليوم، بما آلت إليه، يعرّي كثيراً من الفرضيات التي قامت أو تأسست عليها التجربة الفلسطينية المعاصرة، ويكشف تواطؤ الطبقة السياسية السائدة فيها، على اختلاف مشاربها وتوجهاتها وخطاباتها، مع هذا الواقع، وهو ما يمكن تبينه في المجالات الاساسية التالية: أولاً: وحدة الشعب الفلسطيني. فعلى رغم مركزية هذه الفرضية، وأهميتها في هذه الحالة الاستثنائية المعقدة، فإن واقع الحياة السياسية للفلسطينيين يشي بتجاوز أو بحجب مقصود لهذه المسألة بنوع من الخفة ومن دون خلق المعادلات المناسبة لها، ومن دون التصريح بإشكالياتها وتعقيداتها الموضوعية، ومآلات حلها المختلفة. هكذا فثمة صعوبة في تعيين كيفية قيام الطبقة السياسية السائدة بتعزيز وحدة الشعب الفلسطيني، وتعميق إدراكه لهويته، ولوحدة نضاله، ومصيره المشترك. والمشكلة ان الحركة الفلسطينية، التي تجاوزت لاسباب مفهومة نوعاً ما قضية فلسطينيي 1948، من دون ان تفتح الآفاق لنوع من مسار سياسي يعيد التلاقي بهم مستقبلاً، عبر شعارات مثل"دولة ثنائية القومية"، أو"دولة لمواطنيها"أو"دولة ديموقراطية علمانية"أو"دولة كونفيديرالية"، فإن هذه الحركة غضت النظر، ايضاً، عن كيفية اسهام فلسطينييالاردن في العمل الفلسطيني، وهي بدورها لم تفتح المجال لخلق معادلات مستقبلية، تفضي ربما الى نوع من المستقبل الواحد، للكيانات السائدة في المنطقة، في إطار رؤية معينة من التطور السياسي والاجتماعي في هذه المنطقة. والملفت ان الطبقة الفلسطينية السائدة، على اختلافاتها، باتت تتعامل مع الواقع الفلسطيني باعتباره متجسداً في الضفة والقطاع، مع كل الاحترام للحديث"الفولكلوري"عن اللاجئين، الذي لا يجد تمثلاته في مبنى الفصائل السائدة، أو في سلم اهتماماتها، بدليل أفول وتهمش المؤسسات والتجمعات الفلسطينية في سورية ولبنان. ثانياً: واقع التخلف في الحركة السياسية الفلسطينية، لطالما افتقدت الساحة الفلسطينية لحركة سياسية، بمعنى الكلمة الصحيح، أي حركة تتمتع بحياة مؤسسية، وبحراك سياسي - تنظيمي داخلي، حركة تشتغل على مراجعة أوضاعها وبناها وشعاراتها وأشكال عملها، وجدوى طرق كفاحها. والواقع فإن معظم الحركات الفلسطينية السائدة، ظلت تدين بالقياد لمؤسسيها، الذين أجادوا صوغها على مقاساتهم، وبحسب مستوياتهم وخبراتهم في عقد الستينات. وبصورة جعلت معظم مفاتيحها في أيديهم بالذات. وهذا ما يفسر ان هذه الحركات على رغم تآكل دورها، وانحسار مكانتها، واخفاقها في عديد من المهمات التاريخية، ما زالت على حالها، في إطار القيادة الأبوية، والعلاقات الزبائنية، وتهميش المشاركة، وتغييب الديموقراطية. طبعاً لا يمكن احالة هذا الخلل في البناء الفلسطيني لقيادة بعينها، فهذه القيادة هي من نسيج هذا الشعب، الذي يدين بدوره للعلاقات الابوية والعشائرية، والمناطقية، التي تشكل أطره المنظمة والسائدة. وبديهي ان هذا الخلل هو ايضاً، نتاج ضعف الخبرات السياسية للمجتمع الفلسطيني، وتدني مستوى الاشتغال في حقل الفكر السياسي لديه، في مقابل انشغاله بحقل الشعارات والسياسة اليومية. لكن مسؤولية هذه القيادة تتحدد في انها بنت اقطاعيات سياسية، في إطار العمل العام، وأنها لم تفتح الأفق لإحداث تغيرات، أو تطورات، لا في إطاراتها السياسية/ الفصائلية، ولا في إطار المجتمع. هكذا فإن"الثورة"الفلسطينية لم تعرف من هذا المصطلح إلا شكلياته، ولكنها لم تشتغل على تكريس معناه، وفي ذلك فقد كرست هذه"الثورة"البنى العائلية والعشائرية والمناطقية، في المجتمع الفلسطيني، وعززت علاقات المحسوبية والزبائنية، على حساب الانتماء الوطني والسياسي، وعلى حساب العلاقات المدنية - الديموقراطية. وعلى صعيد الفكر فقد كرست هذه"الثورة"السياسة باعتبارها حقلاً لتجاذب الشعارات والعواطف، وليست باعتبارها تتأسس على موازين القوى والمعطيات السياسية المحلية والاقليمية والدولية. وهذه"الثورة"بدلاً من ان تعتمد على الشعب، جعلته يعتمد عليها وفق صيغ"التفرغ"ما خلق مجتمعاً فصائلياً على هامش المجتمع الفلسطيني في الداخل كما في الخارج. والمؤسف ان المتحكمين في العمل الفلسطيني لم ينطلقوا، على الاغلب، من إدراك حقيقة مفادها ان المقاومة، في حال الفلسطينيين، لا تقتصر على الصراع ضد العدو، وانها تشتمل على متطلبات بناء المجتمع والكيان، بتعزيز وحدته وبناء مؤسساته وتطوير امكاناته وترشيد توجهاته. فالمقاومة هنا ليست فعلاً للهدم أو للثأر أو للقتال فحسب في حساب الخسائر لدى العدو، وانما في انعكاس هذه المقاومة على المجتمع الفلسطيني وعلى مستوى وعيه وتطوره السياسي والثقافي ايضاً. ثالثاً: مكانة القضية الفلسطينية. لقد أدى تدهور وضع الحركة الوطنية وتخلف ادارتها، واستحكام الخلافات فيها، الى تراجع مكانة القضية الفلسطينية، من الأجندة العربية والدولية. هكذا على الصعيد العربي، لم تعد قضية فلسطين بمثابة القضية المركزية للأمة العربية، بسبب من الانشغال بقضايا أخرى على غاية في الخطورة. والمشكلة ان الخلافات الداخلية وغياب الاجماع الفلسطيني، عن هدف موحد وواضح، أدى الى تعزز هذا المسار عربياً، فلا يمكن مطالبة العرب بالحشد من أجل التحرير مثلاً، في هذه الظروف والمعطيات! كما لا يمكن مطالبتهم بدعم حال فلسطينية غير متوافقة أو منسجمة مع الوضع العربي. أما على الصعيد الدولي، فالحالة تبدو أكثر تعقيداً، إذ كادت القضية الفلسطينية تتحول من قضية حركة تحرر وطني الى قضية استقلال، ومن قضية سياسية الى قضية انسانية. والمشكلة ان التشويش الناجم عن غياب توافقات سياسية فلسطينية، وعن عدم تفهم حدود الدعم الدولي لقضية فلسطين، يكاد ان يفقد القضية الفلسطينية صدقيتها، وان يصم كفاحها المسلح بوصمة الارهاب، وان ينزع عنه صفة الضحية. وبكل أسف، فإن الاقتتال الدامي والمؤسف، الذي جرى أخيراً، بين حركتي"فتح"و"حماس"، وهما أكبر فصيلين فلسطينيين، مثلاً، يعبر بكل جلاء عن مدى هشاشة الحركة الوطنية الفلسطينية، وربما هو يؤشر الى انفتاح مسار هلاكها وأفولها، في هذه المرحلة، بسبب عدم قدرتها على الإجابة على الأسئلة الحقيقية أو على التحديات الفعلية التي تواجه الساحة الفلسطينية، وبسبب استهلاكها لأوضاعها وبناها وشعاراتها، كما بسبب عدم قدرتها، أو رغبتها، في التأقلم مع المعطيات والوقائع الحاصلة على الصعيد الفلسطيني، وعلى الصعيدين العربي والدولي. فكفى تلاعباً وتسلياً وتحججاً بموضوع التسوية، وليبحث الجميع عن مكامن خلل الساحة الفلسطينية في مكان آخر. * كاتب فلسطيني