يثير الوضع الفلسطيني عدداً من التساؤلات، فإضافة الى التساؤلات والشكوك المحيطة بعملية التسوية بأبعادها المختلفة، والخطوات التي يمكن ان تتخذها السلطة الفلسطينية بعد انتهاء الفترة الانتقالية أيار / مايو 1999، تبرز ايضاً التساؤلات المتعلقة بطبيعة الوضع الداخلي الفلسطيني، سواء ما يتعلق منها بقضايا بناء الكيان الفلسطيني الناشئ ومرتكزاته: القانونية والديموقراطية والمؤسساتية، او ما يتعلق منها بالعلاقات بين القوى السياسية الفلسطينية، وصولاً الى مستقبل منظمة التحرير الفلسطينية" بما في ذلك الشكل الذي يربط الفلسطينيين، داخل الارض الفلسطينية المحتلة وخارجها في تجمعات اللجوء والشتات. ولعل التساؤلات الاخيرة المتعلقة بالوضع الداخلي للساحة الفلسطينية، تفرض نفسها بإلحاح في هذه المرحلة، خصوصاً بسبب جمود عملية التسوية، وبسبب من عدم قدرة الفلسطينيين لوحدهم في هذه الاوضاع غير المواتية على فرض قراءتهم او طموحاتهم في اطار هذه العملية. بمعنى انه اذا كان يمكن تفهّم المأزق الفلسطيني على صعيد المفاوضات، التي تحتاج الى موازين قوى ومعطيات دولية واقليمية، والى معادلة سياسية جديدة، تتيح المجال لإيجاد حالة ضغط بدرجة مناسبة على اسرائيل، تفرض عليها الاستجابة لاستحقاقات عملية التسوية مع الفلسطينيين، فإنه لا يمكن على الاطلاق تفهم التعثر او حالة الشلل السائدة في الساحة الفلسطينية والتي تعترض اجراء عملية مراجعة جادة وحقيقية، للاوضاع الفلسطينية في مختلف المجالات، وتالياً الشروع في اعادة بناء الوضع الفلسطيني داخل الاراضي الفلسطينية المحتلة وخارجها بناء على الاستنتاجات التي يجري التوصل اليها في اطار هذه المراجعة النقدية المفترضة. وهذه العملية الضرورية ليست مجرد افتراض تعسفي ارادي كما قد يوحي البعض، في محاولة للتنصل من هذه الضرورة بتعليق مختلف اوزار الوضع الفلسطيني على ظروف الاحتلال وعلى الصعوبات التي بات يواجهها العمل الفلسطيني في بعض الاقطار العربية. فعلى رغم الصعوبات والتعقيدات المحيطة بظروف العمل الفلسطيني في المرحلة الراهنة، الا ان كثيراً من مظاهر الخلل والتعقيدات انما يعود الى تكلّس البنى الفلسطينية ذاتها واهترائها، والى تخلف العلاقات الداخلية وتغييب الديموقراطية، وغياب دور المؤسسات لمصلحة الافراد، وتغييب قوى المجتمع الفلسطيني. وهذه الحال هي التي تكمن وراء استشراء قوى الافساد ومظاهر الفساد، وغياب الاسس الجماعية المؤسساتية لصنع القرار، وهي التي تكمن وراء ابقاء الحالة الهلامية للساحة الفلسطينية على وضعها الحالي، وهي السبب في تحويل منظمة التحرير بإطاراتها السياسية وبمؤسساتها المختلفة، من كيان سياسي يعبر عن هوية الفلسطينيين ووحدتهم، الى مجرد يافطة وديكور في العلاقات العامة، وهي أيضاً السبب في تهميش دور الفلسطينيين في تجمعات اللجوء والشتات، بعدما كان لهم الدور الاساسي في العمل الفلسطيني طوال العقود الماضية. ما يجب التأكيد عليه في هذا الاطار هو ان ابراز هذه الحقائق، ليس مجرد نزوة لجلد الذات وتحميل الوضع الفلسطيني زيادة على ما يقع على كاهله من اثقال، وانما هي محاولة لوضع النقاط على الحروف، لجهة ابراز القضايا التي تتحمل القيادات والقوى المتنفذة الفلسطينية المسؤولية عنها في اطار هذه المرحلة الانتقالية الصعبة، هذا من ناحية" ومن ناحية ثانية فإن هذه الحقائق يؤكدها الطابع الفريد والمعقّد للعملية الوطنية التحررية الفلسطينية، بمعنى انها ضرورة من ضرورات الترابط والتكامل بين بعدي هذه العملية، الصراعي، ضد المشروع الصهيوني، والبنائي بمختلف ابعاده واستهدافاته بما يتعلق بإعادة بناء الوضع الفلسطيني لتأكيد حضور الشعب الفلسطيني وإبراز قضيته، عن طريق بناء مؤسساته ومرتكزاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية... داخل الاراضي المحتلة وخارجها. في كل الاحوال قد تبدو هذه الافتراضات مجرد اطروحات اخلاقية، بالنظر الى حالة الصمم والتجاهل والمزاجيات التي تتحكم بالقوى المعنية باتخاذ القرارات في الساحة الفلسطينية، وبالنظر الى حالة التكلّس والتراجع المحيطة بأحوال بعض القوى الفلسطينية المعارضة، كما بالنظر الى حالة الاحباط والتغييب واللامبالاة، المحيطة بقوى المجتمع الفلسطيني، ولكن هذا الواقع لا يقلل من أهمية هذه الافتراضات ولا ينفي ضرورتها لإعادة الحيوية للساحة الفلسطينية، ولتجديد شبابها ولتصويب اوضاعها. ولعل مأزق العملية التفاوضة، وانسداد أفق إيجاد حل عادل ومتوازن للقضية الفلسطينية في هذه المرحلة وفي ظل هذه المعطيات، هو الذي يستدعي ضرورة الشروع بمراجعة نقدية سياسية جريئة لأوضاع الساحة الفلسطينيية بإطاراتها ومؤسساتها وطرائق عملها وشكل علاقاتها الداخلية. وهو يستدعي ايضاً ايلاء البعد البنائي اهميته اللائقة باعتباره وجهاً من وجهي العملية النضالية التحررية في الساحة الفلسطينية، خصوصاً ان القرار في هذا الاطار في يد الفلسطينيين وحدهم في اغلب المجالات بالمحصلة فإن القيادات الفلسطينية كلها، والقوى صاحبة القرار والامكانيات فيها، تتحمل المسؤولية في هذه المرحلة عن ضرورة اتخاذ قرارات وخطوات شجاعة ومسؤولة وملموسة تجاه اعادة صوغ مختلف الاوضاع في الساحة الفلسطينية، في سبيل تعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية وتفعيل منظمة التحرير على اسس مؤسساتية وديموقراطية، وهي مسؤولة ايضاً عن ترشيد صنع القرار على هذه الاسس كما انها مسؤولة عن بناء المرتكزات السياسية المجتمعية والاقتصادية للكيان الفلسطيني الناشئ، تمهيداً لبناء دولة المؤسسات والقانون واعادة صوغ العلاقة مع قوى المجتمع الفلسطيني على اساس اطلاق مبادراته وتفعيل اطاراته المدنية في الداخل والخارج. ان هذه المهمات المشتركة لمجمل قوى الساحة الفلسطينية تفترضها حقيقة ان البعد البنائي للساحة الفلسطينية هو شكل ضروري من اشكال الصراع مع اسرائيل، كما ان هذه المهمات تستند الى رؤية سياسية تفترض استمرار البعد الصراعي ضد المشروع الصهيوني بمختلف تجلياته الظاهرة والكامنة، كما تستند الى ضرورات مقاومة الاستيطان ومحاولات تهويد القدس، وصولاً الى دحر الاحتلال. هذه الافتراضات الاخلاقية للوهلة الاولى هي ضرورة حيوية لإخراج الساحة الفلسطنية من حال الجمود والاهتراء والتراجع التي تعتريها، وهي ضرورة للخروج من المأزق الراهن ولكنها تحتاج الى بصيرة والى توفر الشجاعة والارادة للمراجعة المطلوبة ولاتخاذ القرارات اللازمة. فإلى متى تبقى الساحة الفلسطينية، اسيرة العقلية المزاجية، الفردية، التكتيكية؟ ومتى تتحرك القوى المعنية لانتشال هذه الساحة من الاهتراء الذي يعتريها؟