الحوار الفلسطيني - الفلسطيني الذي انطلق في القاهرة، تجرى اتصالات تمهيدية لاستئنافه على قاعدة النجاح في عبور المرحلة الحرجة اقليمياً، وبالتالي فلسطينياً. هنا متابعتان لمسألة الحوار بين الفلسطينيين وآفاقه يبدو ان المعنيين بشؤون الساحة الفلسطينية ما زالوا بعيدين من التوافق على هدف سياسي معين يسهم في تنظيم أو ترشيد نشاطاتهم الكفاحية، بما يتناسب ومعطيات هذه المرحلة، على رغم الصعوبات والمعاناة التي يعانيها الشعب الفلسطيني، بنتيجة الممارسات الإسرائيلية، وعلى رغم الأوضاع الدقيقة والخطرة التي تمر بها الساحتين: الدولية والإقليمية في ظل الحرب الدولية على الإرهاب والحرب الأميركية المبيتة ضد العراق. ويستنتج من الحوارات التي جرت، في القاهرة وغزة ورام الله، ان غالبية القيادات الفلسطينية ما زالت تعمل تحت وطأة علاقاتها التنافسية والشعارات الكلامية التي انشأتها وتتعيش منها وبناها البطرقية الضيقة التي تتسيّد عليها. ويبدو ان هذه القيادات تفضل العمل على طريقة الدواوين، من دون ان يعني ذلك شيئاً ملموساً ومن دون ان ينبني على مسؤوليات معينة على ارض الواقع. ومعنى ذلك ان غالبية الطبقة السياسية الفلسطينية، السائدة، ما زالت تفكر وكأنها تعيش في جزيرة معزولة وفي اطار بقايا من توهم بأن الصراع العربي - الإسرائيلي ما زال هو الهم الأوحد للأمتين العربية والإسلامية ولشعوب العالم المحبة للسلام والحرية! ومشكلة هذه الطبقة انها لم تستنبط العبر المناسبة من التفكك والعجز على الصعيد العربي: الرسمي والشعبي، على حد سواء، ولا من النتائج التي جاءت بها الانتخابات الإسرائيلية، مع كل التدهور المريع في الأحوال الأمنية والاقتصادية في اسرائيل. والأنكى من هذا وذاك انها لم تستنج، بعد، الدروس المناسبة من التحولات الدولية ولا سيما في الولاياتالمتحدة الأميركية وانعكاساتها على الساحة الفلسطينية، والتي تشير الى ان الحرب يمكن ان تبدأ ضد العراق ولكن لا يستطيع احد التكهن بامتداداتها وبتداعياتها، خصوصاً بعد ان اكدت الإدارة الأميركية على لسان كولن باول وزير خارجيتها أنها معنية بإعادة تشكيل المنطقة بجملتها، وربما انها معنية ايضاً بإعادة تشكيل اوروبا والنظام العالمي، وهو ما تؤكده معطيات المواقف والتحركات الدولية الراهنة. ومن الواضح، وعلى ضوء كل ما تقدم، ان حكومة شارون المقبلة ستحرص على استمرار دمج حربها ضد الفلسطينيين بالحرب الدولية ضد الإرهاب، كما ستحاول تجيير الحملة الأميركية المبيتة ضد العراق، لخلق فوضى سياسية عارمة في المنطقة تمكنها من الاستفراد بالفلسطينيين والبطش بهم لتدمير السلطة الفلسطينية وللتخلص نهائياً، ربما، من استحقاقات عملية التسوية برمتها، او على الأقل لتعديل خطة "خريطة الطريق" عبر فرض املاءاتها وتعظيم مكاسبها في التسوية وفي مجمل الترتيبات الإقليمية الناشئة عن الأوضاع الجديدة التي يمكن ان تنشأ بعد التخلص من الملف العراقي، سلماً او حرباً. وهكذا بينما ينهمك شارون في ترتيب اوضاع الساحة الإسرائيلية وتوحيدها في مواجهة الفلسطينيين، يفشل الفلسطينيون في ترتيب اوضاعهم وتوحيد قواهم لمواجهة التحديات الإسرائيلية والتحديات المتعلقة بالأوضاع الدولية والإقليمية، إن عبر مقاومة تأثيراتها او عبر تفويت او تقليل مخاطرها. وفي المداولات الحاصلة على الصعيد الفلسطيني يمكن القول إن قيادة السلطة الوطنية والمنظمة و"فتح"، ممثلة بالرئيس عرفات، تتحمل المسؤولية الأكبر عما جرى وعن مآل الأوضاع الداخلية، فهي التي تركت الانتفاضة تسير في هذا الشكل من الفوضى العفوية، وهي التي تأخرت كثيراً في حث القوى الفلسطينية الحية على التفاعل للوصول الى توافقات سياسية مشتركة، ولا سيما بسبب ادارتها الفوقية والمتخلفة والفردية، وأخيراً فإنها هي التي تأخرت في استيعاب حاجات التغيير والتطوير والمأسسة والإصلاح في الساحة الفلسطينية. والمشكلة الآن ان هذه القيادة، تحاول التجاوب مع حاجات الإصلاح والتطوير على طريقتها، ولكن بسبب من الضغوط الخارجية التي تتعرض لها وليس بناء على طريقتها، ولكن بسبب من الضغوط الخارجية التي تتعرض لها وليس بناء على الحاجات والمطالبات الفلسطينية! وهو ما تمثل بإعداد مشروع الدستور والموافقة على تعيين رئيس وزراء وتنظيم الأوضاع الداخلية وضبط الحسابات المالية والشروع بعملية الحوار الجارية. كذلك فإن حركة "حماس" بدورها تتحمل مسؤولية تعثر الحوارات بسبب تجاهلها إمكانات الشعب الفلسطيني والظروف المحيطة به في هذه المرحلة، وبسبب اصرارها على فرض مشروعها الخاص على الساحة الفلسطينية. والمشكلة ان حركة "حماس" استدرجت المناقشات، التي يفترض ان تتمركز حول هدف الكفاح الفلسطيني وسبله في هذه المرحلة، الى ابعد من ذلك بكثير، اي الى النقاش حول شرعية القيادة الفلسطينية وطبيعة منظمة التحرير والبرنامج المرحلي، وهي مناقشات مشروعة، ولكن كان يمكن تأجيلها في هذه المرحلة. واللافت ان ثمة قطاعاً واسعاً في "فتح" يتقاطع مع "حماس" في تأكيده شرعية المقاومة المسلحة، وإن بتركيزها ضد المستوطنين والعسكريين الإسرائيليين في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، ولكن "حماس" لم تستثمر هذا الوضع بطريقة سياسية ناجعة، على رغم اتقانها السياسة البراغماتية في كثير من الأحوال، بل انها على العكس من ذلك اثارت المزيد من الريبة في شأن حقيقة توجهاتها بعد اعلان بعض قادتها الاستعداد لقيادة الساحة الفلسطينية. اما الجبهتان الشعبية والديموقراطية فكان يمكنهما ان يضطلعا بجهد افضل في تثمير الحوار الجاري وإيصاله الى غاياته المرجوة، وربما في بلورة قطب ثالث في الساحة الفلسطينية، ولكنهما وجدتا في هذا الحوار فرصة سانحة لهما لطرح اجندتهما الخاصة، في مواجهة حركتي "فتح" و"حماس"، لتعزيز مكانتهما في صوغ القرار الفلسطيني، كل بحساباته الخاصة، ازاء هاتين الحركتين. وهكذا بينما حاولت الجبهة الشعبية ان تشتغل على "فتح" و"حماس" من دون ان تبلور رأياً خاصاً وحاسماً في القضايا الخلافية المطروحة الهدف السياسي وأشكال النضال، بسبب من ضعف ثقتها بقيادة السلطة وعلى خلفية اعتقال امينها العام، قامت الجبهة الديموقراطية بجر النقاش الى مشكلات التفرد في صنع القرار وضرورة اعادة تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية. وفي ذلك فإن هذين الفصيلين لم يكسبا شيئاً لا لجهة بلورة قطب ثالث لتيار وطني ديموقراطي، تبدو الساحة الفلسطينية بحاجة إليه، ولا في تصويب علاقتهما مع "حماس" و"فتح"، ولا في ايصال الحوار الى جدواه التي تخدم المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني. عموماً لم يكن مطلوباً من اي طرف كان في الساحة الفلسطينية التخلي عن مشروعه الخاص، في الحوارات الجارية، وإنما كان من المفترض التركيز، اولاً، على معطيات اللحظة العصيبة الراهنة في شكل واقعي ومسؤول، وثانياً، كان من المهم لأي طرف، مهما كانت فاعليته اليوم، ان يأخذ في اعتباره انه من غير الممكن العودة الى الخلف او البناء من العدم، وفق قياسات معينة ومحددة سلفاً، وإنما المطلوب البناء على الموجود على قاعدة تطويره، مع الأخذ في الاعتبار التنوع والتعددية في الساحة الفلسطينية، وثالثاً، كان من الأجدى لو ميز الحوار بين متطلبات تعزيز السلطة ومتطلبات تطوير حركة التحرر الوطني، وبين التزامات الأولى واستحقاقات الثانية. فالخلط بين الجانبين اضر سابقاً بالقيادة الرسمية وبالقضية الفلسطينية، كما بينت تجربة الانتفاضة، وأثار، في المرحلة الراهنة، مشكلات في الحوار الدائر بين الفصائل الفلسطينية. وفي الواقع فإن ضرورة التمييز تنبع، ايضاً، من واقع ان حركة التحرر تستمد شرعيتها من نشاطاتها وصدقيتها الكفاحية، بغض النظر عن مدى تمثيلها الشعبي والمؤسساتي، في حين ان شرعية السلطة تنبع من العملية الانتخابية، بغض النظر عن ملابساتها، ومن المؤسسات التمثيلية الشرعية المنتخبة وهي تخضع لقوانين وتشريعات ومعادلات رسمية، وعليه فإن الخلط بين الجانبين، من العمل الفلسطيني، يثير شبهة ازدواجية السلطة ويضعف الساحة الفلسطينية ويفككها كما انه يكرس نظام "الكوتا" او الامتيازات الفصائلية، الذي عفا عليه الزمن، والذي بات من الضروري العمل على تجاوزه بتكريس العلاقات الديموقراطية على قاعدة التمثيل النسبي، الذي يمكن ان يعيد لفصائل الساحة الفلسطينية توازنها الطبيعي. ويخشى الآن ان الفلسطينيين، على رغم كل الأوضاع والمعطيات الخطرة وإزاء كل التحديات التي تعصف بهم وبعموم المنطقة العربية، غير قادرين على التصرف وفق حسابات سياسية موضوعية تخرجهم من اسر الارتهان للتمنيات والرغبات والحساسيات والحسابات الفصائلية، لكأنهم اعتادوا على هذه الحال من الفوضى والتكلس وتبديد الطاقات التي تتسم بها الساحة الفلسطينية منذ زمن. على كل، فإننا نأمل ان يثبت المتحاورون عكس ذلك في حواراتهم المقبلة، حفاظاً على صدقيتهم وصدقية القضية التي يدافعون عنها. * كاتب فلسطيني.