من الخطأ النظر الى مشاركة سورية في قمة عدم الانحياز على أنها تحول مفاجئ في السياسة الخارجية. ومن الخطأ أيضاً القول ان دمشق قررت أن تكون فقط في محور عدم الانحياز وأن تدير ظهرها الى أوروبا وأميركا. يعكس مستوى المشاركة الرسمية المدى الذي تعوله دمشق على هذا الحلف. قيل ان الرئيس بشار الأسد سيترأس الوفد السوري الى هافانا منتصف أيلول سبتمبر الجاري وسيوقع مع الرئيسين الإيراني محمود أحمدي نجاد والفنزويلي هوغو شافير اتفاقاً سياسياً للتنسيق، لكن ذلك لم يحصل. وقيل ان نائبه فاروق الشرع سيشارك في هذه القمة، لكن ذلك لم يحصل أيضاً. ومن مثل الجانب السوري هو وزير الخارجية وليد المعلم. ولا شك في أن عدم مشاركة الزعيم فيدل كاسترو في المؤتمر وپ"تراجع"دور الحركة ساهما في عدم مشاركة الأسد في هذه القمة، لكن وجود المعلم في كوبا تضمن أكثر من رسالة سياسية. أولاً، ترؤس الوفد السوري من قبل شخصية سياسية معتدلة تريد تحسين العلاقات مع أوروبا وفق مبدأ"البراغماتية المبدأية"، تدل الى ان الحكومة السورية تتعاطى مع عدم الانحياز وفق منظور المصالح وليس العقيدة الإيديولوجية. ثانياً، هناك عداء بين الإدارة الأميركية برئاسة جورج بوش وسورية، لكن ذلك لم يصل الى حد أن تقترب سورية من"الحديقة الخلفية"لأميركا في أميركا اللاتينية بتهديدات سياسية. أي أن الخلافات بين سورية وأميركا هي في سياسة بوش في الشرق الأوسط. ثالثاً، الواضح أن هناك ادراكاً سورياً لحجم التغيرات في العالم والوزن الحقيقي لقمة عدم الانحياز. صحيح أن الرئيس جمال عبدالناصر انطلق من باندوندغ، لكن الصحيح أيضاً أن عبدالناصر انطلق من ظروف الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة الأميركية، بينما يعيش العالم حالياً وضعاً مختلفاً تماماً من التوازنات في ظل الهيمنة الأميركية مع مساعي تحد خجولة من الصين وروسيا. رابعاً، ان دمشق لا تزال تتعاطى بسياسة ترك جميع الخيارات مفتوحة. سورية لم تقطع نهائياً مع الاتحاد الأوروبي ولا مع أميركا، لكن تبحث عن توسيع شبكة الحماية في ظل العقوبات الاقتصادية الأميركية والتزام أوروبا منذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري بسياسة العزل. وتعود جذور هذه السياسة الى العام 2003، عندما قامت القوات الأميركية والبريطانية بغزو العراق. اذ ان سورية اختارت الوقوف ضد الحرب. وجرت محاولات لتصليح العلاقات بين دمشق وأميركا وأوروبا، لكن العلاقات بدأت تتدهور في بداية العام 2004. اذ فرض الرئيس بوش عقوبات من"قانون محاسبة سورية واستعادة سيادة لبنان"في 11 أيار مايو 2004. لكن بقي بعض التواصل عندما زار مساعد وزير الخارجية وليم بيرنز دمشق في أيلول سبتمبر من العام نفسه. لكن الخلاف بقي في ضوء صدور القرار 1559 والتمديد للرئيس اميل لحود. وجرت محاولة أخيرة في كانون الثاني يناير 2005 عندما زار نائب وزيرة الخارجية ريتشارد ارميتاج سورية، غير ان التدهور ازداد، فقطع التعاون الأمني السوري - الأميركي في أيار 2005. وأجبرت سورية على الخروج من لبنان. في موازاة هذا الانحدار في علاقاتها مع أميركا وأوروبا، كانت توسع سورية من خياراتها. اذ زار الرئيس الأسد انقرة في كانون الثاني 2004 ذلك في أول زيارة لرئيس سوري منذ انفصالها عن الامبراطورية العثمانية. كما قام الرئيس السوري بزيارة الصين في حزيران يونيو 2004. وعقد قمة مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في الكرملين في موسكو في كانون الثاني من العام 2005، ذلك في أول زيارة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي - الحليف الأساسي لسورية في العقود الأخيرة. ويمكن القول ان الخطوة المهمة في سلم تدرج السياسة الخارجية حصل في خريف العام 2005، عندما قام الأسد بزيارة طهران لتهنئة الرئيس أحمدي نجاد بفوزه في الرئاسة. كانت دمشق تحت ضغوطات هائلة بعد انسحابها من لبنان وبسبب التحقيق باغتيال الرئيس الحريري. وكان الخطاب الغربي السياسي يتراوح ما بين الحديث عن"تغيير النظام"وپ"تغيير سلوك النظام"في دمشق، في مؤشر لمستوى الضغط الخارجي. كانت زيارة الأسد استمراراً للعلاقة بين دمشق وإيران منذ"الثورة الإسلامية"في العام 1979، لكن التوقيت أعطاها بعداً سياسياً اضافياً. وجرت الخطوة اللاحقة بقيام أحمدي نجاد بزيارة دمشق في كانون الثاني الماضي ثم قيام رئيس"مجلس تشخيص مصلحة النظام"هاشمي رفسنجاني بزيارة مهمة الى سورية في آذار مارس الماضي، قبل أن تصبح عادة في أن يقوم مسؤول ايراني بالقدوم الى سورية في كل تطور سياسي إقليمي. ولا يكاد يمر أسبوع من دون زائر إيراني في دمشق. وكل مسؤول سياسي ايراني يزور سورية يلتقي رئيس المكتب السياسي لپ"حركة المقاومة الاسلامية"حماس خالد مشعل وزعيم"الجهاد الإسلامي"رمضان عبدالله شلح. ويلتقي بعضهم في دمشق أيضاً الأمين العام لپ"حزب الله"حسن نصرالله. هذا التنسيق بين سورية وإيران وكل من"حماس"وپ"الجهاد"وپ"حزب الله"كان يحصل تحت عنوان ضرورة أن تنسق الأطراف المستهدفة مع بعضها وتحت عنوان"تحالف المقاومة". أي، أراد هذا"الحلف الرباعي"السوري - الإيراني - اللبناني - الفلسطيني، القول: اذا كانت أميركا تستهدفنا فإننا سنتوحد وسنقاوم. ويمكن القول ان هذا"الحلف الرباعي"حقق بعض النتائج: فوز"حماس"في الانتخابات التشريعية الأخيرة. وصمود"حزب الله"في لبنان. ثمن الانتصار الانتخابي والصمود العسكري كان غالياً في الأراضي الفلسطينية ولبنان، لكن ذلك عزز من المواقع الإقليمية لإيران وسورية ولپ"خيار المقاومة"ومن وضع كل من"حماس"وپ"حزب الله". إذاً، هناك خياران لسورية: إقليمي في تعزيز"خيار المقاومة"ودولي في توسيع شبكة التحالفات في"التوجه شرقاً"الى آسيا والهند والصين وروسيا وأميركا اللاتينية في تقوية العلاقات السياسية والاقتصادية. وكلما كان اتفاق الشراكة مع أوروبا يزداد تعقيداً وتفرض عقوبات اقتصادية أميركية على سورية، كانت سورية توقع اتفاقات نفطية وتجارية وصناعية مع شركات روسية وهندية وصينية وإيرانية، كان آخرها توقيع عدد من الاتفاقات مع فنزويلا خلال زيارة شافيز الى دمشق منتصف الشهر الماضي. وكانت السياسة السورية تزداد تشدداً في ما يتعلق بحقوق الإنسان والعلاقة مع المعارضة الداخلية بالتزامن مع الضغوطات الخارجية. وفي ضوء خيارات كهذه، يمكن ان تتوقع دمشق أن تبقى أبواب أميركا مغلقة وأبواب أوروبا"مترددة"في الانفتاح مع تدهور في العلاقات مع"الدول المعتدلة"في العالم العربي مثل مصر والسعودية والأردن. لكن اللافت أن أزمة لبنان الأخيرة، فتحت الباب أمام دمشق لاحتمال إعادة علاقتها مع أوروبا. اذ ان قدوم آلاف الجنود الأوروبيين الى لبنان ضمن"يونيفيل"للانتشار في جنوبلبنان، دفع دولاً أوروبية للحصول على رضا سورية ومباركتها. سورية وعدت أوروبا بالسماح بنشر مدربين وخبراء ومعدات لمساعدة القوات السورية على الحدود مع لبنان لضبط هذه الحدود وفق المادة 15 من القرار 1701، أي منع تدفق أي سلاح الى"حزب الله"مع العلم ان الحكومة السورية تنفي رسمياً تزويد الحزب بالسلاح، وأوروبا تنتظر تنفيذ الوعد السوري. مسؤولون في ايطاليا وألمانيا واسبانيا والنمسا وعدوا دمشق بتحريك اتفاق الشراكة الاقتصادية مع أوروبا أمام الممانعة الفرنسية. وسورية تنتظر تنفيذ الوعد الأوروبي. لذلك، فإن تنفيذ كل طرف ما وعد به الأخير، سيكون بداية"بناء الثقة"المفقودة بين أوروبا وسورية. والفشل في تنفيذ هذه الوعود سيدفع دمشق الى مزيد من تعزيز علاقتها مع محور عدم الانحياز أو ما يسمى"محور الشر". نحن في مرحلة انتقالية تتسم بتوسيع الخيارات الدولية أمام سورية. وستحسم الأسابيع المقبلة في أي اتجاه ستسير سورية.