لم تكن السنوات الماضية سهلة في الشرق الأوسط. دفعت دول المنطقة الى حافة الخيارات الحادة. بعضها اختار الانحناء الى الرياح العاصفة، فيما اختارت دول اخرى الوقوف في وجه العواصف. لم تختر سورية هذا ولا ذاك. لم تختر «سياسة الانتظار» ولم تعتمد على «الحظ». بنظرة تحليلية الى الوراء، يبدو أن الخيار السوري كان ركوب العواصف واستثمار الرياح السياسية لمصلحتها وتحويل السلبي ايجابياً والازمات أو بعضها فرصاً. كان العقد الماضي استثنائياً بحجم التغييرات الدولية وبالتحديات التي فرضها على المنطقة. بدأت العشرية الأخيرة بدخول جورج بوش البيتَ الابيض مع مجموعة من «المحافظين الجدد» حملت معها تصوراً عقائدياً للعالم والمنطقة مستمداً من «وصفة» كانت قدمت الى بنيامين نتانياهو في منتصف عقد التسعينات إزاء «التغييرات» المطلوبة في العراق ولبنان وسورية وإيران «دفاعاً عن امن اسرائيل». كما أدت استفزازات آرييل شارون في المسجد الاقصى الى انتفاضة فلسطينية في نهاية عام 2000 ثم مجيئه الى الحكم في بداية العام اللاحق. وجد «المحافظون الجدد» في أحداث 11 ايلول (سبتمبر) 2001 منصة لانطلاق سياساتهم. وتلحفت هذه السياسة ب «الحرب على الإرهاب» لتجد لها ادوات في الحرب على افغانستان في تشرين الاول (اكتوبر) من هذا العام، ثم بغزو العراق في 2003. وكان رئيس الوزراء الاسرائيلي آرييل شارون ردَّ على المبادرة العربية للسلام في 2002 بإعادة احتلال الضفة الغربية وقصف رام الله. وأضيف الى ذلك الحصار على الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الى حين تسميمه في نهاية 2004 والانسحاب الانفرادي من قطاع غزة في خريف 2005. وبعد غزو العراق وتغيير النظام فيه، بدأت مرحلة ثانية من السياسة الاميركية. سعت الى محاولة «معاقبة» الذين وقفوا ضد الحرب سواء بالتهديد بالتغيير في سورية وإيران أو بالضغط عليها بأدوات مختلفة بعد فشل اسلوب «الاغراءات» المنفعية. وتلاقت مساعي بوش ب «المعاقبة» مع مساعي الادارة الفرنسية وبعض الدول الاوروبية الى اصلاح ذات البين بعد الاختلاف إزاء مبررات الحرب على العراق أو بسبب التعاضد مع واشنطن. فكان لبنان ساحة الالتقاء. كان عام 2005 نقطة انعطاف. ذروة الضغط تقابل بذروة ترتيب اوراق الصمود. نزعت سورية الكثير من الذخيرة المجمعة لدى «المحافظين الجدد» في واشنطن وباريس عبر الانسحاب من لبنان. خرج المؤتمر القطري لحزب «البعث» الحاكم في حزيران (يونيو) بتوفير عوامل تعزيز اللحمة الداخلية بالسير قدماً في مسيرة الاصلاح الاقتصادي وتسريع تنفيذ قرارات تأسيس المصارف والجامعات والمدارس الخاصة و «التشارك» مع القطاع الخاص في مواجهة العقوبات الاقتصادية الاميركية التي كانت فرضت في أيار (مايو) 2004، استناداً الى نهضة تشريعية إصلاحية هائلة، ذلك بالتوازي مع إعطاء أولوية للاستقرار والامن في البلاد وعدم السماح بالتأثر سلباً من ارتدادات الحرب على العراق لجهة تسلل «الجهاديين» الى البلاد ولا باستخدام اجندة اميركية تغييرية في الوضع الداخلي. وعبر الرئيس بشار الاسد عن الموقف في خطاب القاه في تشرين الثاني (نوفمبر)، عندما اكد الصمود في مواجهة التحديات، بالمقاومة. وقال: «الآن، المنطقة أمام خيارين لا ثالث لهما: اما المقاومة والصمود او الفوضى. لا يوجد خيار آخر. والمقاومة هي التى تمنع الفوضى. المقاومة لها ثمن والفوضى لها ثمن. لكن ثمن المقاومة والصمود أقل بكثير من ثمن الفوضى». وفيما استمرت العلاقات السورية - الايرانية على متانتها بعد فوز محمود احمدي نجاد بالرئاسة في خريف 2005 وزيارة الاسد طهران لتهنئته بذلك، كانت العلاقات بين سورية وتركيا تمضي على ارض ثابتة بعد الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الاسد الى انقرة واسطنبول في بداية 2004. حيث نجح البلدان في تحويل نقاط الخلاف الى نقاط قوة وبناء مشترك. وفي السياسة الخارجية أيضاً، بحثت سورية عن تحالفات جديدة او جددت قديمها بأسس عصرية. العالم لا يضم فقط اميركا وأوروبا «الموحدة» وراء البوصلة الاميركية، فظهر ما يعرف ب «التوجه شرقاً» باتجاه فتح نوافذ جديدة - قديمة في الصين والهند وآسيا مع حض سورية روسيا الاتحاديةَ لإيجاد توازن في الشرق الاوسط ولعب بعض أدوار كان يقوم بها الاتحاد السوفياتي. كما فازت «حركة المقاومة الاسلامية» (حماس) في الانتخابات التشريعية بداية 2006 ثم فشلت حكومة ايهود اولمرت وآلتها العسكرية في تحقيق أهدافها في حرب 2006 مع صمود للمقاومة كما حصل خلال العدوان على غزة في نهاية 2008. ومع مرور السنوات، بينما كانت السياسة الاميركية تنتقل من فشل الى آخر في افغانستان والعراق والمنطقة عموماً كانت السياسة المقابلة تنتقل من الممانعة الى الصمود والمقاومة وصولاً الى التقدم والنجاح. وكانت السياسة السورية في جوهر هذا التحول في المعادلة أثراً وتأثيراً وفي ان تكون نتائج «مخاض» الشرق الأوسط باتجاه معاكس لما بشرت به وزيرة الخارجية الاميركية السابقة كوندوليزا رايس. وبينما كان «يتحدث» بوش عن زيادة عزلة ما سماه «محور الشر» المباشر او غير المباشر، كان الواقع يسير عكس النظرة الدعائية المنكرة لحالة الواقع. وكان الجدار الهش لمحاولات العزلة بدأ بالتصدع ثم بالتفكك في نهاية 2006، حيث «تجرأت» دول اوروبية على السباحة بعيداً من «المنقذ» الاميركي في مياه الشرق الاوسط. وراحت تقرأ الواقع من المنطقة وليس من واشنطن. وما شجع على ذلك أيضاً توصيات بيكر - هاملتون ب «الحوار» مع سورية وأيران الى ان «اعلن» رسمياً فشل سياسة بوش بانتخاب باراك اوباما تحت عنوان «الحاجة الى التغيير» داخلياً وخارجياً. وبين عناصر التغيير الخارجي في السياسة الاميركية، كان نهج «الانخراط المباشر» مع سورية على أساس «الاحترام المتبادل» و «المصالح المشتركة». وهي مبادئ تتناقض جوهرياً مع فكرة «الإملاءات» التي كان يحاول بوش ومساعدوه تنفيذها في المنطقة. وأوفد أوباما عدداً من مساعديه الى دمشق. وعنوانا التبادلية بين سورية وأميركا، هما: السلام الشامل واستقرار العراق. الى الآن، لم تترجم نيات أوباما الى واقع لا في الاطار الاقليمي بهذين العنوانين ولا في الاطار الثنائي: قدوم السفير المعين روبرت فورد ورفع العقوبات الاقتصادية. لكن ما حصل ان إقراراً أميركياً تبلور بفشل سياسة الضغط ولا بد من الحوار. بنظرة متأنية الى الوراء، يحق لسورية القول انها نجحت في استثمار الرياح السياسية لمصلحة مصالحها الوطنية. لم يكن ذلك فقط منطلقاً من إدراك عمق للموقع الجيو - سياسي بالتمركز غرب العراق الممتد الى واشنطن بسبب وجود القوات الأميركية فيه و «شمال» اسرائيل الممتدة أيضاً الى اميركا وأوروبا بحكم عملية السلام وجماعات الضغط اليهودية وقرب لبنان التي حاولت واشنطن ادخاله في استقطاب اقليمي مستولد من لعبة دولية، وجنوب تركيا حليفة «ناتو» تاريخياً والتي راحت تنظر الى دورها في طريقة مختلفة وخلاقة في المنطقة، وشمال الاردن المجاور لإسرائيل والجسر الرابط مع الخليج. النجاح في استثمار الرياح السياسية، انطلق أيضاً من الثبات على القناعة بالدور السوري ومدى حاجة الآخر الى هذا الدور وأن سعي أي طرف لعزل دمشق يعني عملياً الانعزال عن القدرة على أداء الدور والتأثير في إيجاد حلول لأزمات المنطقة المؤثرة في الإقليم الاوسع والعالم. لم يكن الدور السوري حيادياً - انتظارياً في السنتين الاخيريتين. إذ حصل انتقال الى البحث مع دول اقليمية عن حلول لقضايا المنطقة خصوصاً بالتعاون مع ايران وتركيا، متزاوجاً مع تعزيز للعلاقات الثنائية بين هذه الدول. وتأسست مجالس تعاون استراتيجية بين تركيا وسورية والعراق والاردن ولبنان. وتبلورت «شراكة» بين هذه الدول منطلقة من عوامل محلية وليست خارجية. كما طرح الرئيس الاسد خلال جولاته على عدد من الدول الاوروبية والاسيوية والإقليمية تصوراً لتكون سورية نقطة ربط لخطوط النقل والغاز والنفط والطاقة بين البحور الخمسة: المتوسط، الاحمر، قزوين، الاسود والخليج العربي. كما عادت العلاقات السورية - اللبنانية الى طبيعتها في وقت تجرى المفاوضات لتشكيل حكومة وحدة وطنية عراقية بعد الانتخابات الاخيرة. واستعادت دمشق والرياض التعاون بعد تبادل الرئيس الأسد وخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز الزيارات الرسمية. ومع اقتراب العقد من نهايته، تمضي دمشق خطوة اضافية في تجسيد رؤيتها لنفسها ودورها. إذ قام الاسد في الايام الاخيرة بأول زيارة لرئيس سوري الى اميركا الجنوبية. وستدخل سورية في مفاوضات لتوقيع اتفاقات تجارية مع تكتل «ميكوسور» الذي يضم البرازيل والارجنتين ودولاً أخرى في هذه القارة. كما ستدخل في مفاوضات مماثلة مع تكتل يضم روسيا وروسيا البيضاء وكازاخستان، مع توقع زيارة في المستقبل الى ماليزيا والفيليبين واندونيسيا. اي، الى ما وراء «التوجه شرقاً». لهذه التوجهات - الزيارات أبعاد كبيرة. سياسية واقتصادية. انه استشراف دقيق للتحولات الحاصلة في العالم الآخذة في التبلور نحو التعددية العالمية. وبزوغ شمس قوى اقليمية مهمة مثل البرازيل والدول الآسيوية. انه بمثابة نفض للعباءة التي كانت قد لبستها المنطقة لسنوات وتعرضها لشمس أخرى غير الموروثة من تقاليد الاستعمار. العالم لا يضم فقط اميركا وأوروبا. أوروبا مهمة جغرافياً لقربها من المنطقة. وأميركا مهمة لتأثيرها العالمي، لكن السياسة الدولية لم تعد تقف فقط عند حدود الجغرافيا والتأثير التقليديين. ذلك، ان توسيع دوائر التحالفات الاقليمية والدولية واجتراع الحلول لأزمات المنطقة، يساهمان في العودة الى السياسة وتعزيز عوامل القوة. وتبقى الجولان في كل ذلك أولوية وطنية، تسعى سورية الى استرجاعها باعتبارها حقاً غير قابل للمساومة. * صحافي سوري من أسرة «الحياة»