لا يمكن القول انها لم تعرف، فخبأت كاميراتها في العتمة. كانت ثمة علامات واضحة: الدعوة التي تناقلتها وسائل الإعلام كافة، والتوتر بين السياسيين اللبنانيين، وشوارع بيروت ومداخلها المختنقة بالمارة الذين تقاطروا بمئات الآلاف ليصلوا الى الساحة وسط الركام الرهيب في الضاحية. لا يمكن القول ان الشاشات اللبنانية لم تعرف ما يجري في عاصمة بلدها، في النهار الذي خصّصه"حزب الله"للاحتفال بپ"الانتصار". لأسباب شتى، منها الطائفية والمذهبية والتعصبات ما دون السياسي المنفلت من عقاله لبنانياً أخيراً، آثرت الشاشات الا ترى تلك الحشود. وغطت قناة"المنار"ذلك الاحتشاد، بطريقة ذكّرت بما فعلته الفضائيات"الغائبة"اليوم في تغطيتها حركة الحشود يوم 14 آذار مارس 2005، بينما امتنعت فضائيات متنوعة المشارب، مثل"المستقبل"وپ"ال بي سي أي"وپ"نيو تي في"عن الاهتمام بالجموع. وشارك تلفزيون لبنان الرسمي في هذا التجاهل! يفترض انه القناة التلفزيونية التي تخدم جميع المواطنين. وتغتذي من أموال الضرائب التي يدفعها المُكلّفون. لكن كاميراته أشاحت عن مئات الآلاف. لم تذكرهم حتى بخبر في شريط اسفل الشاشة. غاب حضور الناس حتى عن الشريط الإخباري للأقنية اللبنانية. اهتمت فضائية منها بإبراز خبر عن اصطدام حافلة مدرسية بشاحنة في فرنسا. لفتة انسانية طبيعية من الاهتمام التلفزيوني بالناس العاديين، لكنها تناقضت بقوة مع تجاهل تلك الفضائية ذاتها مئات الآلاف من الناس الذين كانوا يسيرون قربها. أمس، تكرر حشد أكثر أو أقل في منطقة لبنانية ثانية، فاهتمت احدى الفضائيات بأمر احتشاد ناسه، فيما غيبته بقية الشاشات اللبنانية. هل ثمة ناس وثمة ناس في عين الكاميرات المستقطبة سياسياً حتى النُخاع؟ ألا يحمل الأمر لمحة من تمييز بين البشر؟ ثم ظهر القائد، في المهرجان الأول كما لاحقاً في الثاني، فتراكضت اليه الكاميرات والشاشات. ظهر القائد، مُحاطاً بالجمع الذي صار ديكوراً بصرياً للصورة الكثيفة الدلالة. ثم انتهى القائد من خطابه، فنامت عين الكاميرات، وعادت أجساد مئات الالاف الى الغياب عن الصورة. كأن التلفزيون لم ينتبه الى ان حشد البشر وليس الكلام هو أساس الخطاب السياسي، فأكمل ما تفعله السياسة، وحوّل الناس ديكوراً يكمل البث المتلفز لخطاب القائد. يتردد كثيراً ان التلفزيون أداة مشدودة للعادي واليومي، بما فيه الناس. لكن كثيراً من الأمور تُثبت، انه يفرد المساحة الأساس للنخب، سواء في السياسة أو غيرها. ما يجعل أعصابه مشدودة لإطالة الوجوه الكثيفة الدلالة، وليس لتصوير الوجه العادي واليومي، على الشاشات.