إنها الصورة... وحدها القادرة على "اختراق الجماهير" على نقل الوقائع من دون تعاطف أو تحيز... وحدها قادرة على ترجمة مشاعر الحزن والذهول والغضب... وها هي تنقل الاحتقان الذي يعيشه الشارع اللبناني, كما تجلّت من خلال نقل وقائع جنازة الرئيس رفيق الحريري على مختلف الفضائيات العربيّة والأجنبيّة يوم أمس. لم يتسنّ للجميع المشاركة في تلك الجنازة العارمة التي ضمّت مئات آلاف المشيّعين. لكن الجميع تابعها من خلال شاشة التلفزيون... وتفرّج على مئات الآلاف الذين تدافعوا من مختلف المناطق اللبنانية. التلفزيونات اللبنانية كانت حكماً سيدة الموقف, وحدت كاميراتها... كأن الحريري بموته وحد أخيراً - للمرة الأولى تلفزيونات لبنان, فرصدت جميعها المشاهد نفسها. ولم تختلف سوى في اختيار ما أرادت التركيز عليه وما حاول المعلقون وضعه تحت المجهر. في "تلفزيون لبنان", ركز المعلق على شخصية الرئيس الراحل, والعلاقة التي ربطت بينه وبين سورية... كما ركزت على تصريحات بعض الوزراء الذين دانوا الاغتيال واعتبروه تهديداً لسلم لبنان الأهلي. أما "المؤسسة اللبنانية للإرسال" وتلفزيون "المستقبل", فاتسمت تغطيتهما بالتقريرية. بسام أبو زيد من جهة, والثنائي زاهي وهبي ومنير الحافي من الأخرى, ابتعدوا عن التحليل, وعن شرح الصور التي تمرّ أمامهم, وامدادنا بالمعلومات العمليّة المفيدة, محاولين التذكير بشخصية الرئيس الشهيد تارة, وبأبرز الشخصيات العربية والعالميّة المشاركة في الجنازة طوراً, وأيضاً بشريط الأحداث والمواقف التي شهدتها الساحة اللبنانية في اليومين الماضيين. "المستقبل" ركزت على وصول جثامين رفاق الحريري مرافقيه الذين استشهدوا معه. فيما قرأ المعلّق في "المؤسسة اللبنانية للإرسال" البيان الصادر عن المطارنة الموارنة... لكننا كنّا نتفرّج على الصور نفسها... "إي أن بي", "الحرة", "الجزيرة", "العربية", "سي أن أن", "أورو نيوز"... وغيرها من الشاشات العالمية رصدت الحدث بالتفصيل. الجديد في المضمون تركيز التعليق الصوتي في "سي ان ان" و"اورو نيوز" على وحدة اللبنانيين, وتكاتفهم في موقف موحد... كما ركز المراسلون على الشعارات التي أطلقت ضد سورية, وطالبت بانسحاب الفوري من لبنان. الشعارات والهتافات التي أطلقت كانت في صلب اهتمام المراسلين الأجانب, وهذا طبيعي... أما زاوية النظر - من ناحية الصورة - فلم تختلف كثيراً. الحشود نفسها, الغضب الشعبي العارم والحزن الذي يرشح من الصور. بيروت من الجوّ... كما توقفت الشاشات العالمية على حجم التمثيل الرسمي العالمي الذي شارك في التشييع. وكان التركيز على أمرين أساسيين: غياب أي علامة تذكّر بطيف الحرب الأهليّة, "بعد أن تعلم اللبنانيون من الحرب وملّوا مشاهد الدم والعنف"... وعلى العبء الذي وضع على أكتاف أولاد الحريري الأربعة, واحتمالات اتباعهم النهج السياسي الذي بدأه الحريري. كانت الشاشة الصغيرة تضيق بتدافع الجموع. الصورة تنقل الانفعال الجماعي, والصوت يحاول أن يملأ الفراغات, أن يكسر الحدّة... أن يبحث عن معنى وخلفيات. لذلك كثرت البديهيات والعموميات, خصوصاً على الشاشات اللبنانيّة. نقلت الكاميرات حشود المشيعين الذين قدر عددهم بمئات الآلاف... وربّما بلغ المليون, ما دفع وليد جنبلاط إلى اعتبارها "مسيرة المليون الحقيقية", ملمّحاً إلى مسيرة أخرى أطلقتها قوى موالية قبل أسابيع بالاسم نفسه, ولم تجمع ربع العدد المعلن. الصورة رصدت وصول رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري إلى المسجد وحيداً مع مرافقيه. واكبت خطوات جنبلاط ونجيب ميقاتي وغطاس خوري وسيرج طور سركيسيان وغنوة جلول والنائب بيار الجميل على رأس وفد كبير من "الحركة الإصلاحية الكتائبية", والنائب السابق تمام سلام وعميد حزب الكتلة الوطنية كارلوس اده على رأس وفد من الحزب. والصورة رصدت الاعلام الاشتراكيّة الكثيرة التي كادت تختلط بالاعلام الكتائبيّة. والصورة التقطت حالات الإغماء الكثيرة في الموكب المهيب, والتدافع الشديد حول النعش, والحصار البشري الذي طوّق بهاء, نجل الرئيس الراحل... وواكبت مرافقة النائب بهية الحريري في سيارة الإسعاف. الصورة رصدت كيف رفع المشاركون في موكب التشييع العلم اللبناني وصور الرئيس الشهيد ولافتات تدعو إلى متابعة مسيرته. ووصل موكب التشييع إلى مسجد محمد الأمين بعد ساعتين وربع الساعة من انطلاقه من قريطم. وقد شارك أبناء الرئيس الحريري في حمل النعش. الصورة الموحدة نقلت الحدث, التقطت المشاهد. لكن كل تلفزيون, أخذ الصورة إلى حيث يريد, من خلال التعليق, من خلال التدخّل أو عدم التدخّل في المشاهد... إنها الصورة، تختصر الزمن الراهن, والتأويل يأخذنا إلى حيث سيكون المستقبل القريب, غير المحدد الملامح, والمفتوح على كل الاحتمالات. إنها الصورة ...