1- خلال حرب ال33 يوماً في لبنان، كان صديقي يتصل بي بشكل شبه يومي، ليقول لي كلمة واحدة:"إننا نخسر"، فأتولى مهمة رفع المعنويات، وعرض الوقائع ومستجدّات الأحداث، التي تدحض مثل هذا الزعم، أي أننا نخسر، أو بكلام أوضح، إننا على طريق الخسارة. كانت هناك إشارات عدة تدعم فكرة أننا لا نخسر، منها مثلاً أن"حزب الله"مستمر في إطلاق الصواريخ على إسرائيل، ومن ضمنها حيفا، وأن مقاتليه صامدون في قراهم، ويوقعون الخسائر في جنود العدو، وأن حسن نصرالله مستمر في الظهور التلفزيوني، بالصوت والصورة، أي أنه لم يتمّ القضاء بعد على قيادة"حزب الله". وفي لحظة ما كنت أعدّد لزوجتي المحبطة بسبب حجم الخسائر التي مني بها لبنان، والأحوال البائسة للنازحين، هذه الإشارات التي تؤكّد أننا لم نهزم بعد، حين انقطع فجأة بث إرسال تلفزيون"المنار". وكان وقع ذلك علينا صادماً بحيث أننا عاجلنا بالاتصال بعدد من الأصدقاء لنتأكد مما إذا كان هذا الانقطاع شاملاً أم أنه محصور بنا فقط. وقد تكرر هذا الأمر في أيام لاحقة مرتين مع تلفزيون"الجزيرة"، وكانت ردة فعلنا مشابهة: الاتصال بالأصدقاء للتأكد من أن هذا الانقطاع ليس شاملاً. وفي مقابلة تلفزيونية أجراها حسن نصرالله بعد انتهاء الحرب، ذكر استمرار تلفزيون"المنار"في البث كحجة على ضعف الجيش الإسرائيلي المهاجم، وعدم قدرته على إصابة هدف سهل مثل التلفزيون، فكيف بقيادة"حزب الله"إذاً. وكان أمين عام"حزب الله""كافأ"محطتي"الجزيرة"و"نيو تي في"بمقابلتين حصريتين معهما بعد انتهاء الحرب إضافة إلى بعض الصحف،"حارماً"أطرافاً أخرى من هذه المكافأة، ناهيك عن"المنار"التي هي من أهل البيت على أي حال. مكافآت تعكس إلى حدّ بعيد الأهمية التي يعلقها"حزب الله"على الإعلام التلفزيوني، إلى حدّ أنه خصّ صحافياً مقربا منه، مثلما كشف الوثائقي الذي عرضته محطة"أل. بي. سي"مؤخراً، بعنوان"المقايضة الكبرى"، بمقابلة مع الأسير الإسرائيلي السابق لديه الحنان تتنباوم، وبمادة مصوّرة يظهر فيها الطيار الإسرائيلي روني أراد. الصحافي معروف بانتمائه إلى الصحافة المكتوبة، لكن هذه المادة الوثائقية أرادها"حزب الله"أن تكون مصوّرة، تلفزيونية بالتحديد. يعكس هذا كله الأهمية الكبرى التي يوليها"حزب الله"للتلفزيون بوصفه أحد الأدوات الحربية الأساسية لديه، ومن هنا تركيزه على إنشاء محطة تلفزيونية وإذاعية فضائية، قوية وفعالة، والأهمية القليلة التي يوليها في المقابل لإنشاء صحيفة أو مجلة قوية. ف"حزب الله"بطبيعته حزب جماهيري، حزب يخاطب الجماهير، ويسعى إلى التأثير فيها وكسب عقلها وقلبها، خصوصاً في زمن الحرب، فمن البديهي أن يجد في التلفزيون الأداة الأنسب والأكثر فعالية للعب مثل هذا الدور. 2- بصرف النظر عن الكلام الفارغ الذي نسمعه من حين لآخر حول"الدور البطولي"الذي يلعبه الصحافيون التلفزيونيون وحول النجومية الصاعدة لهذا المراسل أو ذاك، فإن التجربة اللبنانية تجربة"حزب الله"ومن يؤيده إعلامياً مع التلفزيون، أثبتت فشلها إلى حدّ كبير، تماماً مثلما أثبتت التجربة الإسرائيلية ومن يؤيدها فشلها. ما رأيناه ببساطة هو ذلك الانكشاف الفاضح للدور المبتذل الذي يمكن أن يلعبه التلفزيون، وتلك الأوهام التضخيمية المعلقة على دوره. رأينا المحطات التلفزيونية الأساسية تتحول أبواقاً دعائية مع أو ضد"حزب الله"، مع أو ضدّ إسرائيل تفتقر إلى الحدّ الأدنى من هامش الحركة المستقل. في واحدة من اللحظات التلفزيونية الحربية التي لا يمكن وصفها إلا بالمهزلة، قال مراسل"الجزيرة"الشاب إن السيد حسن نصرالله يتحرّك ضمن مجموعة من ألف مرافق، فما كان من مدير مكتب"الجزيرة"في بيروت غسان بن جدو، إلا أن صحّح زلّة اللسان هذه بعد دقائق، بطريقته اللبقة، قائلاً"إننا لا نعرف شيئاً عن تحركات حزب الله". لحظات تلفزيونية أخرى يمكن وصفها بالمهزلة، كانت حين تسمّر المشاهدون نحو ثلاث ساعات أمام الشاشات، وهم يتفرجون على المراسلين"يحلّلون"ويطلقون التوقعات والتنبؤات، حول"جسم غريب"شوهد يسقط من السماء في بيروت، ويعتقد أنها طائرة"أف 16"إسرائيلية. عملياً لم يكن هؤلاء التلفزيونيون يغطون الحدث بقدر ما كانوا يشاهدونه مثل الجميع، وينتظرون عبر الهاتف، الخبر اليقين من هذه الجهة الأمنية أو تلك. تلك الساعات المربكة والمليئة بالعروض المسرحية الباهتة من المراسلين، ومعظمهم من المبتدئين، كانت بمثابة شهادة حية حول فشل التلفزيون في التحرك باستقلالية، وما العروض التلفزيونية التي قدّمها بن جدو نفسه سواء من الجنوب اللبناني، أو من الضاحية الجنوبية، إلا دليل إضافي على مثل هذا الفشل. كان"حزب الله"الذي يدير اللعبة، ويوجّه الخطاب العام، وينتقي الصور والكلمات، وربما هو الذي اقترح فكرة هذه العروض. لقد رأينا المراسل يتحرك في المكان في الجنوب بتوجيهات من أحد نشطاء"حزب الله"، الذي كشف أمام الكاميرا ما هو مسموح بكشفه الأنفاق مثلاً وأخفى ما ينبغي إخفاؤه. بالطبع هناك مخاطر جمّة في التنقل بطريقة مستقلة، وربما هناك استحالة عملية، لكن هذا لا يعني انعدام إمكانية التفاوض مع الجهة التي تسمح وتؤمن الإمكانيات "حزب الله"في هذه الحالة حول الهامش الخاص ب"الرسائل"التي يريد"حزب الله"إيصالها، والهامش الخاص بالوقائع التي يحتاج التلفزيون إلى عرضها، وإن لم تناسب صاحب الدعوة كلياً. إن لم يكن الأمر كذلك، فما مصدر الاحتجاج الذي نسوقه حول ما يسمى ب"المراسلين المزروعين"الذي أنشأته وزارة الدفاع الأميركية في تغطية حرب العراق الأخيرة؟ وما جدوى الحجة التي ساقها أمين عام"حزب الله"نفسه ضد حكومة إسرائيل و"أكاذيبها"و"لا نزاهتها"حين قررت منع الكاميرات من تصوير المواقع التي يتم قصفها؟ منع العرض هنا يساوي تماماً التحكم في ما يعرض. أي إما أن نحجب المادة وإما أن نعرضها على طريقتنا نحن. هذه كانت واحدة من السقطات الكبيرة، على الرغم من كل ما يقال ويروّج له عن"الشفافية"و"المصداقية"وما إلى ذلك. هذا التركيز على الأداء الإعلامي ل"حزب الله"مرده أنه كان القوة الأكبر والأكثر حضوراً، لكن هذا لا يعفي الوسائل الإعلامية الأخرى. فضائية"العربية"والمادة الموجهة والمبرمجة في خدمة الخطاب السياسي خطاب"المغامرة غير المحسوبة" لراعيها،"أل. بي. سي"وتركيزها على استضافة شخصيات من"الطرف المقابل"والمضاد ل"حزب الله"والمقاومة، ومن المستحسن أن يكونوا من الشيعة، تلفزيون"المستقبل"، وشعار"بيكفي"الذي أطلقه، والمنطوي على شطارة إعلامية، إذ مؤداه الأخير حيادي، لا يقول أكثر من أن لبنان شبع من هذه الحروب. 3- يمكننا، بالعودة إلى أداء"حزب الله"التلفزيوني، الاستفادة قليلاً من دروس التاريخ. لقد كانت الحرب الأولى التي يغطيها التلفزيون بشكل واسع هي حرب فيتنام، وكان الجيش الأميركي هو المبادر إلى منح التلفزيون ابتداء من منتصف الستينات، مثل هذا الدور، بل كانت قيادته العسكرية مصدراً أساسياً من مصادر المادة المصورة، على اعتبار أن هذا قد يكسب الحرب المزيد من التأييد الشعبي، وأيضاً انطلاقاً من عدم القدرة على تجاوز الدور المتعاظم للتلفزيون. النتيجة في النهاية جاءت عكسية، فقد ساهم التلفزيون بدور كبير في ارتفاع الأصوات المندّدة بالحرب، هناك في الديار، وفي العالم أجمع، والسبب بسيط: لا تستطيع أن تكون رابحاً حين تعرض صور الحرب، سواء كنت منتصراً أم مهزوماً في الميدان. صور الحرب، ومهما تحكمت بها، خصوصاً حين تحتشد بصور الضحايا والدمار، هي إعلان لهزيمتك. هكذا كان"حزب الله"يبدو مهزوماً كل مرة كانت تعرض فيها صور الضحايا في إسرائيل على قلتها، مثلما كانت إسرائيل مهزومة كل مرة تعرض فيها صور الضحايا في لبنان. أكثر من ذلك: كانت إسرائيل مهزومة أيضاً لدى عرض صور الضحايا في إسرائيل، مثلما كان"حزب الله"مهزوماً لدى عرض صور الضحايا في لبنان. الخدمة نفسها التي يقدّمها التلفزيون كمجال دعائي لهذا الطرف أو ذاك ترافقها خدمة مضادة، فهو لا يستطيع إلا أن يكون مادة دعائية ضد الحرب نفسها، وليس فقط ضد المسؤول عن الجرائم المرتكبة فيها. يستعين تلفزيون"المنار"غالباً بمادة مصورة من التلفزيون الإسرائيلي، وبعض تعليقات الصحافيين في الصحف العبرية، التي تؤكّد وجهة نظره بأنه خرج منتصراً من هذه الحرب، وهو نصر يقوم على"حال الإرباك والفوضى"، التي تعيشها البيئة السياسية الإسرائيلية، والإحساس بأن كلفة هذه الحرب كانت باهظة جداً، فضلاً عن أنها لم تحقق أهدافها، ومن هنا الكلام الذي أطلقه مؤخراً حسن نصرالله في مقابلة مع غسان بن جدو على"الجزيرة"مجدداً التأكيد على محورية الإعلام وخصوصاً التلفزيون بأن"بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية كانت تنصفنا أكثر من هؤلاء ومن بعض وسائل إعلامهم"... وبصرف النظر عن الوقائع السياسية، وما أفرزته وستفرزه على المدى البعيد المواجهة العسكرية بين"حزب الله"وإسرائيل، ومن سيعدّه التاريخ منتصراً، ومن سيعدّه مهزوماً، فإن"المواجهة التلفزيونية"التي حصلت لم تفرز بعد انتهائها إلا الخاسرين والمهزومين. ما يبقى بعد عودة كل من الطرفين إلى قواعده، هو الجثث، وصور الجثث، وهذه - إذا كنا لا نزال نعتبر أن التلفزيون في النهاية وسيلة جماهيرية تخاطب الجماهير أولاً وأخيراً - هي ما يبقى في ذهن هذه الجماهير، سواء أحبوا"حزب الله"أم كرهوه، أيدوا ما قام به أم لا، وكذلك الأمر بالنسبة إلى إسرائيل، التي وعلى الرغم مما يعتقده"حزب الله"من لا فاعليتها إعلامياً خلال الحرب، أدّت بجثث اللبنانيين عروض"تلفزيون الواقع"الخاصة بها، ل"تنتصر"مؤقتاً، وتخرج مثله مهزومة في النهاية. * كاتب لبناني.