جاءت موافقة تركيا على ارسال كتيبة من جيشها الى لبنان في اطار قوات الأممالمتحدة"اليونيفيل"لتشكل سابقة وتحولاً استراتيجياً في سياسة تركيا الاقليمية والدولية نظراً الى حوار جهات دولية اقليمية وأوروبية وأميركية على مشاركة تركيا في قوات"اليونيفيل"لما لهذه المشاركة من أبعاد جيو- سياسية. فكيف ذلك؟ وما هي الخلفيات والتحديات التي دفعت تركيا الى اتخاذ هذه المبادرة؟ أولاً: البلد الجسر يبلغ عدد سكان تركيا 67.7 مليون نسمة ومساحتها 7805 ألف كلم2 ودخلها القومي 198 بليون دولار. وهي أشبه بجسر يربط بين خمسة عوالم جغرافية أتنية: العالم الأوروبي والعالم الروسي والعالم التركوفوني والعالم الاسلامي عبر ايران والعالم العربي عبر سورية. وفي مؤلف زيغنيو بريخسكي"رقعة الشطرنج الكبرى"تقع تركيا في منتصف المحور الذي يشمل ما يسميه"اوراسيا"أي المنطقة الممتدة من لشبونه في البرتغال وصولاً الى طوكيو في اليابان. فهي اشبه بنقطة المركز في الدائرة ولديها احتياطي ضخم من الطاقة النفط والغاز ومدخول مالي كبير وقدرات عسكرية متعاظمة. هذا الواقع المعقد والمتشعب يضع تركيا أمام تعدد الخيارات الكبرى وتعدد المسؤوليات وصلابة تحديد الأولويات بالمعنى الاستراتيجي الشامل بأبعاده الدينية والثقافية والاقتصادية والعسكرية. ولذا فإن تركيا تجد نفسها دائماً على المحك الصعب والدقيق في اتخاذ المواقف التي تؤمن لها الحد الأعلى من الاستقرار والازدهار، وها هي اليوم تواجه هذه المشكلة بعد حرب تموز يوليو 2006. ثانياً: تركيا والعرب: البعد التاريخي لا يمكن تقدير أهمية قرار تركيا بالمشاركة العسكرية في قوات الأممالمتحدة في لبنان إلا بالعودة السريعة الى تاريخ العلاقات التركية العربية في العصر الحاضر. إن انهيار الامبراطورية العثمانية عام 1918 ودور العرب في الجزيرة والشرق الأدنى في تحقيق ذلك الانهيار دفع الى الواجهة في تركيا جنرالاً شاباً هو مصطفى كمال، الذي أعطى في ما بعد لقب"اتاتورك"ومعناه أب الاتراك، واصبح رئيساً للجمهورية التركية واتخذ قرارات غير عادية تعتبر"عقابية"للعرب الذي اعتبرهم متآمرين على الدولة التي حمتهم من الغرب طوال مئات السنين. إنها قرارات قطيعة كاملة مع العرب، نشير الى بعضها: إنهاء الخلافة 1924 والكتابة بالحرف اللاتيني وليس العربي، واعتماد الايديولوجية العلمانية في مفهوم الدولة، وهو ما يفسر من بعدُ العلاقات الطيبة بين تركيا واسرائيل، وكل هذا يفسّر الطابع المعتدل للتيارات الاسلامية في تركيا ومنها حزب"العدالة والتنمية"على خلاف التيارات الاسلامية المتطرفة في ايران والعالم العربي. ثلاث مشاكل كانت منذ ذلك التاريخ ولا تزال عالقة مع الاتراك: - المشكلة العربية ببعدها الجغرافي المحدود والمتمثلة بلواء الاسكندرون. - المشكلة الكردية ببعدها الوطني - الجغرافي والقائمة على منع الاقلية الكردية من إقامة"وطنها القومي الكردي"على ملتقى حدود أربع دول فيها أقليات كردية تركيا 15 مليوناً العراق 5 ملايين سورية مليون ايران 7 ملايين. - وأخيراً المشكلة الارمنية باستعادة المجازر الارمنية الشهيرة عامي 1915 - 1916 وتهجير الأرمن وهذا جرح نازف لم يندمل بعد في العلاقات التركية - الأرمنية. وهو يفسّر بالتأكيد رفض الأرمن في لبنان مشاركة القوات التركية في"اليونيفيل". ثالثاً: تركيا والاسلام: البعد الثقافي يمكن القول، بل الجزم، إن الاسلام التركي، بتياراته الكبرى، موضوع اليوم على المحك من منظور ديني - ثقافي، في ضوء ما رأيناه من مستلزمات تاريخية الذاكرة التاريخية لزمن مصطفى كمال ومن مستلزمات ثقافية متصلة بالاسلام المعاصر في حركاته وتياراته المتعددة. واختزالاً وتبسيطاً للشرح، هناك ثلاثة تيارات كبرى تخترق الاسلام وغيره من الاديان والايديولوجيات الشمولية: 1- تيار التقليد: وهو المتمسك بالتراث والاصولية fondamentalione والتمامية integrisme. والماضي عنده هو المرجع الافضل والأنقى الخط الدائري للتاريخ وبالتالي لا بد من العودة الى معيار الماضي ورفض الحداثة والتعددية، والتمسك بالوحدانية وحرفية النص. 2- تيار العصرنة والحداثة: وهو التيار المقابل للتقليد، ويشدد على العلم والتقنية والثقافة والايديولوجيات، ويدافع عن أهمية الانسان ونمائه وتطوره مركّزاً على ملاقاة الحاضر للمستقبل وليس للماضي، وطارحاً فلسفة العلمانية من أجل التغيير والتجديد. وعنده ان الانسان قيمة مركزية في التاريخ، والعقل أساس هذه القيمة وبالتالي فإن جوهر الحداثة يقوم على العقلانية. 3- تيار الاصلاح: وهو الموجود في تركيا وفي بلدان اسلامية عدة، وهو تيار يقف في حد وسط بين التقليد والحداثة فيحاول الجمع والتوفيق بينهما، فلا اللاهوتانية تنكر الانسانوية ولا العكس. وبالتالي لا بد من الوصول الى خيار ثقافي على الجمع بين الايمان والعقل، وتلك مهمة ليست سهلة على أي حال. السؤال المطروح: في أي اتجاه يسير أو سيسير الاسلام التركي؟ وأين سترتسم حدود العلمنة"الاتاتوركية". إنه سؤال مصيري في حياة تركيا المعاصرة... وفي علاقاتها الاقليمية والدولية. رابعاً: تركيا والمياه: البعد الحيوي في الحديث عن دور تركيا الاستراتيجي الاقليمي، خصوصاً تجاه العالم العربي، لا يمكن اغفال أهمية المياه التركية التي، من حيث كونها ثروة كبرى تركية، فإن لها دوراً في تحديد مسار العلاقات التركية العربية. وباختصار فإن تركيا هي بلد المتساقطات المطرية الأغزر في المنطقة التي يصل حجمها الى 215 بليون متر مكعب، فيما تبلغ حاجتها أقل من ذلك بكثير. ولهذا فتركيا هي البلد الوحيد والخيار الوحيد لتزويد دول المشرق العربي بالمياه وهو مشروع يجرى حوله الجدل منذ عهد تورغوت اوزال في تركيا. وفي الاطار نفسه يلحظ مشروع الغاب GAP المائي الشهير انشاء 23 سداً ومحطة على نهري الفرات ودجلة وارواء منطقة الاناضول التركية وأشهر هذه السدود"سد اتاتورك"بسعة 48 بليون م3 وهو من أكبر السدود في العالم. هذه الطاقة المائية الحيوية، قد تكون عاملاً مساعداً لدور تركيا الاقليمي وذلك ضمن الاعتبارات الآتية: - ان تشكل مؤشراً لتعاون مائي بين تركيا والمنطقة العربية. - أن تسهم في اضعاف العلاقة السلبية التركية - العربية منذ زمن اتاتورك فلا تعود تركيا تستخدم المياه كقوة ضغط حياتي وسياسي على العرب، ولا يبقى العرب أسرى الحساسيات التاريخية فيرفضون فكرة ان يكونوا رهينة لتركيا وذلك في اطار سياسة بنّاءة للاثمار والإعمار والسلام. - ان خطة تركيا في انشاء السدود الكبرى على نهري دجلة والفرات تعود في جزء كبير منها الى الحركة الكردية في منطقة الاناضول. وفي تحليل الاستراتيجي الفرنسي ايف لاكوست، فإن اقامة هذه السدود على المجاري العليا للنهرين وعلى منحدرات جبال طوروس، إنما تهدف، اضافة الى الفائدة الزراعية والطاقة انتاج الكهرباء الى الحد من نشاط الحركة الكردية في المنطقة، لا سيما حزب العمال الكردستاني، وذلك بضخ يد عاملة تركية في هذه المشاريع. - خامساً: تركيا السنّية المعادلة لايران الشيعية لقد كان لافتاً كيف أن تركيا رفضت استخدام قاعدة انجرليك العسكرية الاميركية في أراضيها لضرب العراق وهو على حدودها ويشكل خطراً مباشراً عليها، وها هي اليوم تشارك في قوات"اليونيفيل"الدولية في لبنان! هذا يفرض أخذ مجموعة أمور في الاعتبار درستها القيادة التركية بتأنٍ قبل اقرار المشاركة في"اليونيفيل"ومنها: 1- إن ما يحصل اليوم هو تحوّل كبير ليس على مستوى لبنان الذي هو الرأس الظاهر من جبل الجليد الاقليمي ولكنه نقطة الصدام والحسم الأولى والأبرز في نوعية الشرق الأوسط الذي سينشأ لاحقاً. 2- لقد هندس البريطانيون الشرق الأوسط بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وكرّسوا السيطرة العربية - السنيّة عليه وكان تأييد الغرب لصدام حسين في قتاله مع ايران وتزويده بالسلاح والمعلومات أبرز دليل على هذا التوجه المستمر منذ نحو قرن لكن التطورات اللاحقة أصابت صمام الأمان وأدت الى استمرار الفشل العربي/السني في ايجاد حل للقضية السنية بامتياز التي هي القضية الفلسطينية. 3- في المقابل انطلق الشيعة متسلحين بخمسة أمور: - سلاح ايديولوجي: عموم ولاية الفقيه كما شرحها الإمام الخميني. - سلاح نضالي: مبني على فكرة الجهاد والاستشهاد الحسيني. - سلاح مالي: تعاظم الدخل الماليلايران مع ارتفاع ثمن النفط. - سلاح قتالي: تعاظم القدرات العسكرية وليس آخرها العمل لامتلاك سلاح نووي بالاضافة الى الاسلحة الصاروخية. - وبالتأكيد سلاح القضية: القضية الاسلامية السنية بامتياز وهي القضية الفلسطينية التي ذهب بها الشيعة بعيداً في راديكالية المواقف. سواء في مواقف الرئيس احمدي نجاد أو في ما يفعله"حزب الله". 4- هذا التحول الكبير، الذي عسكت جانباً منه معبّراً ومهماً، حرب لبنان تموز يوليو 2006 ودور"حزب الله"فيها كذراع ايرانية على شاطئ المتوسط، جعلت دول الغرب كلها أميركا وخاصة أوروبا تصر على ضرورة مشاركة تركيا في القوة الدولية: - فهي الوزن السني المقابل لايران الشيعية. - وهي الوزن والدور المقبول: من الغرب واسرائيل والعرب السنّة. - وهي الوزن القابل للعب دور اقليمي حيوي قد لا تتهيأ له تركيا مرة أخرى، وقد ينعكس سلباً عليها في حال بقائها محايدة ومتفرجة. - وهي الوزن الذي قد يلعب دور"القابلة القانونية"لولادة سلام عربي/اسرائيلي. وهكذا، فإن تركيا التي تعمل جاهدة منذ سنوات للدخول في الاتحاد الأوروبي، تجد نفسها أمام مطلب أوروبي لا تستطيع التملص منه، خصوصاً أنه يفتح أمامها آفاقاً جديدة للعمل، ويمنع المنطقة من الانزلاق في تغيير جذري في وقت تجد أميركا نفسها في وضع الالتباس: ضد ايران و"حزب الله"من جانب... ومع شيعة العراق من جانب آخر! انها المرة الأولى منذ ما يقارب المئة عام منذ زمن جمال باشا يعود الجيش التركي الى لبنان كجزء من قوات الأممالمتحدة. ان النظر الى الجيوش والاساطيل والطائرات وحتى أقمار الرصد، التي تحيط بلبنان يؤكد بشكل كاف وجازم ونهائي طبيعة القضية اللبنانية التي سرعان ما تتحول من قضية محلية الى قضية اقليمية الى قضية دولية. بمعنى آخر ان الارادة الدولية في أوسع صورها لن تسمح بحدوث مثل هذا التحول المخطط له محلياً واقليمياً انطلاقاً من لبنان. ولعل هذا الحشد الدولي، السياسي والعسكري، هو الذي جعل القوى المعنية بالصراع وبالتحول، تعيد حساباتها موقتاً على الاقل. لقد قلت أمام بعثة تركية ثقافية زارت لبنان 11/5/2004 : "إن لبنان ضرورة اقليمية ودولية. وهو حدود ثقافية ومساحة ثقافية لكل دول المنطقة ولكل واحدة منها منفعة ومصلحة فيه". وتساءلت آنذاك:"أليس من باب الدفاع عن القيم والحرية والعدالة والسلام أن تقوم تركيا ودول المنطقة بالدفاع عن استقلال هذا البلد وحريته وتحريره؟ كان ذلك عام 2004 قبل وقوع الكارثة! * كاتب لبناني