بعكس الزيارة التي قام بها للبنان الشهر الماضي الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد، فان زيارة رئيس وزراء تركيا رجب طيب اردوغان كانت منسجمة مع موقف لبنان الرسمي، لهذا اقتصرت حفاوة الترحيب على المسؤولين، وعلى بعض غلاة السنّة ممن توقعوا من أردوغان تحويل الزيارة الى مظهر استقواء لموازنة دور احمدي نجاد. ويستدل من طبيعة الزيارة التي قام بها اردوغان للقوات التركية العاملة في «اليونيفيل»، انه حريص على دعم القرار 1701 وكل ما يعزِّز الشرعية الدولية في الجنوب اللبناني. ومن المؤكد ان هذه السياسة تناقض سياسة الرئيس الايراني، الذي اقترح في خطبه تحويل لبنان الى ساحة مواجهة عسكرية وحيدة ضد اسرائيل، بينما يرى أردوغان ان الولاءات للخارج تجعل الوضع الداخلي اللبناني اسيراً لقوى خارجية تتدخل دائما لإعاقة تحقيق الاصلاحات المطلوبة في مؤسسات الدولة. وحول هذه المسألة بالذات، تتطلع تركيا الى لبنان كنموذج مشابه لتركيبتها السكانية التعددية، المؤلفة من خليط كبير من القوميات والاعراق. ولكن وزير الخارجية احمد داود اوغلو عرف كيف يُبعد بلاده عن الصراعات الخارجية لئلا تنقلب الى صراعات داخلية، وهو بالطبع يدرك ان المجتمع التركي المركب من إتنيات كردية وعلوية وآذرية وبوسنية وألبانية، يمكن ان يتعرض لنزاعات داخلية في حال رفضت الدولة انصهار هذه العناصر وترسيخ وجودها، وعليه قرر اعتماد سياسة الانفتاح على كردستان ومصالحة أرمينيا واليونان. الجالية الارمنية في لبنان تظاهرت ضد الزيارة للتعبير عن احتجاجها على المذابح التي وقعت سنة 1915، ولكن أردوغان أحال هذه المسألة للمراجعة وتَقَصِّي الحقائق منذ زيارة الرئيس عبدالله غل لعاصمة ارمينيا يريفان في خريف سنة 2008. يومها دعي الرئيس لحضور مباراة كرة القدم بين فريقي البلدين بحضور الرئيس الارمني سرج سركيسيان. وحدث اثناء لقاء الرئيسين ان شكلت لجنة مشتركة من اجل مراجعة احداث تلك الحقبة التي تعرَّض الارمن خلالها للقتل والطرد. وادعت تركيا في حينه ان الارمن انحازوا الى جانب روسيا، وان عدد القتلى كان مضخَّماً، بهدف استدرار عطف العالم المسيحي. الموضوع الثاني الذي راجعته اللجنة المشتركة كان موضوع الترويج لمنتدى امن القوقاز والدخول في عضويته، وطمأن الرئيس غل نظيره سركيسيان الى ان تركيا لا ترمي الى إقصاء ارمينيا او عزلها، بدليل انها اعترفت باستقلالها فور انفصالها عن الاتحاد السوفياتي. ثم شجَّعه على الانتماء الى هذا المنتدى المعني بحل قضايا دول القوقاز وتنمية التعاون الاقتصادي بين بلدانها، كما حثّه ايضاً على الانضمام الى منتدى البحر الاسود الاقتصادي، علماً بان أرمينيا لا تطل على البحر الاسود. يعيش في تركيا اليوم اكثر من خمسين ألف أرمني يعملون من دون إذن عمل، وقد غضَّت حكومة أردوغان النظر عن مخالفاتهم، فلم تعاقبهم او تطردهم. كل هذا بغرض تمتين التقارب الارمني – التركي، لعل هذه الخطوات تساعد على حل قضية قره – باخ. قبل خمس سنوات، كتب اردوغان رسالة الى الرئيس الارمني آنذاك روبرت كوتشاريان، يطلب فيها موافقته على تشكيل لجنة مشتركة تضم مؤرخين واكاديميين بهدف مراجعة أرشيفي البلدين، على امل توضيح هذا الموضوع الشائك. وكتب له في الرسالة انه من المستحسن عدم استخدام عبارة «الإبادة الجماعية» قبل تحديد الأحداث التي وقعت سنة 1915. واستند الى الارشيف التركي لنفي حصول مجازر جماعية ارتكبت ضد الارمن. ووصف ما حصل بانه مجرد معارك اسفرت عن مصرع العديد من الارمن والاتراك الذين كانوا مواطنين داخل الامبراطورية العثمانية. ويبدو ان بعضهم تأثر بالتحريض الخارجي (يعني روسيا) وقام بعملية تمرد مسلح اخمدته الدولة بقسوة. وفي آخر الرسالة اعرب اردوغان عن استعداده لمراجعة تاريخ بلاده خلال تلك الحقبة. وتساءل ما اذا كان الارمن على استعداد لمراجعة تاريخهم والقبول بتحكيم المؤرخين. في مختلف المواقع اللبنانية التي زارها، حرص رئيس الوزراء التركي على اظهار سياسة بلاده المعارِضة بقوة لمواقف اسرائيل، والتي أكثر ما تَجَلَّتْ في عبارات الاستفزاز التي وجهها اردوغان للرئيس شمعون بيريز في مؤتمر دافوس. ثم ترسخت اكثر فاكثر بعد عملية «الرصاص المصبوب» في غزة. ولما تعمَّد نائب وزير الخارجية الاسرائيلية داني ايالون اهانة سفير تركيا، اضطر نتانياهو لتقديم اعتذار الى انقرة عن المعاملة السيئة التي ابداها نائب الوزير. وكادت هذه الواقعة تحدث شرخاً سياسياً بين الوزير ليبرمان ونتانياهو لولا تدخل بيريز. في مطلق الاحوال، فان اعتراض القافلة البحرية التركية المتوجهة الى غزة كان السبب المباشر الذي استثمره الوزير احمد داود اوغلو لصوغ سياسة خارجية تنسجم وتطلعات «حزب العدالة والتنمية». يقول المؤرخون ان مؤسس الجمهورية كمال اتاتورك وضع سياستها تحت وطأة الشعور بالحصار من كل الجهات، ذلك ان تركيا عقب الحرب العالمية الاولى كانت محاطة بدول معادية، مثل اليونان وايران والدول العربية، ومن اجل بناء قوة ردع وتخويف، اضطر اتاتورك الى انشاء جيش قوي اصبح اداة الحماية والدفاع عن النظام الجديد. يقول الوزير اوغلو ان تركيا خرجت تدريجياً من الاحساس بالحصار بعدما طورت نظرية تدعو الى ازالة الصراعات في المنطقة. وفي رأيه، ان البنية المركبة للمجتمع التركي قد تجعل من السهل انتقال النزاعات الخارجية لتصبح نزاعات داخلية، خصوصاً ان نسيجها القومي – الاجتماعي يتألف من عناصر مختلفة. وفي ضوء هذا الواقع، وضع اوغلو انقره في موقع مركزي، اقتصادياً وسياسياً، للافادة من ثلاثة محيطات جغرافية هي: الشرق الاوسط والبلقان والقوقاز. واستهل نشاطه بانشاء منطقة للتجارة الحرة بين تركيا وسورية ولبنان والاردن، متوقعاً ان يدشن هذا المشروع الحيوي مطلع السنة المقبلة. ورأى في انضمام لبنان الى هذه المجموعة نقلة نوعية تريحه من اعبائه الاقتصادية وتفتح له ابواب السياحة والتنقل والتجارة بين اكثر من 14 دولة. ولكن هذه التطمينات لا تمنع تركيا من القلق على استقرار لبنان، خصوصاً في ظل التوتر القائم بسبب المحكمة الدولية وما يرافقها من خلافات يخشى ان تتطور الى الاسوأ. وقد تطوع أردوغان للعمل على ازالة العثرات القائمة في طريق حكومة الوحدة الوطنية بعدما بلغه ان لبنان يمر بعاصفة سياسية خطيرة ربما تقوِّض روابطه الوطنية. أما بالنسبة الى وضع ايران داخل هذه المنظومة، فان تركيا تتوقع استمرار التوافق بينهما، كونها مستعدة للانضمام الى منطقة السلام، أي المنطقة الخالية من السلاح النووي، والذي عارضته انقره على الجبهتين الاسرائيلية والايرانية. وهي تتوقع حل مشكلة طهران بالوسائل الديبلوماسية، لان ضغوط العقوبات الاقتصادية لن تؤثر على الاتفاقات المعقودة مع الصين والهند وروسيا وتركيا. من هذه الزاوية، يتطلع أردوغان الى المشكلة القائمة بين ايران وخصومها، وقد نقل رؤيته الى فرنسا وألمانيا وكل الدول التي طلبت وساطته، وقال لها ان العقوبات التي فرضت على ايران لم تمنع البضائع الاميركية والفرنسية والالمانية من الوصول اليها، بما في ذلك سيارات المرسيدس الالمانية والبيجو الفرنسية. وعليه، يرى رئيس وزراء تركيا ان الديبلوماسية تظل الوسيلة الفعالة لمنع المنطقة من الانفجار. يبقى السؤال المهم المتعلق بعودة العلاقات بين تركيا واسرائيل، وما اذا كانت الوساطة الاميركية ستثمر أم لا؟ يقول الرئيس عبدالله غل ان العلاقات المقطوعة مع اسرائيل لن تُستأنف الا اذا ارتضت اسرائيل منح الفلسطينيين حقوقهم في اقامة دولة مستقلة، والا اذا تم تطبيق المشروع العربي. وهو كثيراً ما يحيل المتسائلين على الموقف الشجاع الذي اعلنه السلطان عبدالحميد الثاني (1887) يوم رفض الاستيطان بكل اشكاله. وقد اتخذ في حينه اجراءات استثنائية لمنع تنفيذ المخطط الصهيوني، واصدر عدة قوانين ادارية وسياسية تحول دون وصول اليهود الى اهدافهم، وجاء في مقدم تلك الاجراءات ربط سنجق القدس مباشرة بالباب العالي كي يشرف السلطان بنفسه على منع تغلغل النفوذ الصهيوني في فلسطين. على اثر المذابح التي قامت بها الحكومات القيصرية الروسية ضد اليهود، وتهجير اعداد كبيرة منهم، بدأ هؤلاء المطرودون يتوجهون نحو فلسطين. وحاول الصهاينة للمرة الثانية الضغط على السلطان عبدالحميد الثاني، مستغلين الضائقة المالية التي تمر بها الدولة العثمانية. وتدخلت بريطانيا والمانيا من اجل حل ضائقته المالية مقابل فتح باب الهجرة الى فلسطين والسماح لليهود باقامة مستوطنات فيها. ودوّن هرتزل في مذكراته جواب السلطان عبدالحميد على العرض المالي الذي قدمه له بقوله: «لا اقدر ان ابيع ولو قدماً واحداً من فلسطين. لانها ليست لي بل لشعبي». ونتيجة ليأس الصهيونية من الحصول على موافقة رسمية من السلطان، عمد هرتزل الى مضايقته والتآمر على حياته. يُجمع المؤرخون على القول ان المواقف الصلبة التي وقفها السلطان عبدالحميد الثاني، هي التي أدت الى خلعه، وقد كتب في مذكراته تفاصيل تلك المرحلة الصعبة. ولكن اردوغان ورفاقه في الحزب يحتفظون بتلك المذكرات، ويؤكدون لأنصارهم انهم ملتزمون المحافظة على موقف السلطان! * كاتب وصحافي لبناني