أصدرت دار توبقال للنشر الدار البيضاء كتاباً تضمن أعمال اللقاء المناظرة التي كانت نظمت بمشاركة الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا وعدد من الباحثين العرب الفرنسيين قبل سنتين يونيو 1996 في الرباط. يتأسس الكتاب على تشغيل "التفكيكات" بالجمع دائماً في عدد من مجالات ومفاصل الثقافة العربية الإسلامية دون التردد في المقارنة بين الثقافات والمرجعيات الدينية المزامنة لها، لما تحمله من تأثيرات وتقاطعات معرفية وأنتروبولوجية متبادلة ومحددة للمصير المتعدد للغات والثقافات. في ضوء تاريخها كما راجعته التفكيكات المنجزة وبينت علاقاته ك"فكر" بذاته وب"الآخرين"" الأغيار في المقام الأول. وهي العلاقة التي ظلت ماضياً العصر الوسيط وحاضراً الحداثة وأوروبا رهاناً في كل محاولة انتماء للزمن أو للمقومات الوطنية والدولية. حتى وإن أصبح تعدد اللغات والثقافات يفرض القول بوجود "عوالم" متباينة بحسب الإختلافات الثقافية والسياسية والإلتزامات الجيوسياسية التي انخرطت فيها الجماعات البشرية... بل وتؤكده اختلافات المشاركين في المناظرة ذاتها: سواء لاختلاف مواقعهم أو المجالات لغة" فكر" أدب" تصوف... والأنظمة الثقافية التي يصدرون عنها. ولعل هذه الإختلافات هي ما يؤسس "ذات" الأفراد والجماعة، ضمن اللغوي والثقافي لحظة مجيء "الآخر" وضيافته ما دامت لا توجد "علاقة مع الذات ولا تماهي معها دون ثقافة. لكن ثقافة ذات كثقافة الآخر" ثقافة التوليد المزدوج والاختلاف مع الذات" كما يقول دريدا. في ضوء هذه الرؤية تقدمت أبحاث الكتاب في معالجات تفكيكية بين التصورات العربية الإسلامية والأوروبية الغربية التي راكمت عبر العصور غير قليل من الدوال والتخييلات" بل وحتى الأوهام في تأويلاتها للفكرين ولاشتغال اللغة في نسيجهما وبناء لحمة الإنتماء القومي بهما" وإليهما. غير أن هذا التراكم لم يمنع سوء الفهم المتبادل في علاقات الثقافات بالعالم، والمتسمة بخاصية العنف الذي تمارسه الأنظمة الثقافية والمجتمعية كإيديولوجيا ال"هوية". فالعنف الإقتصادي وضعف الفكر النقدي ولدا الخيبة من الرأسمالية المكتسحة للبلدان، كما أثارت ردود فعل "تطرف" يعمل على استثمار الرمزي والديني من أجل توليد مُتخيله وبناء مشروعه السياسي. سواء على خلفية الدين" كما في العالم العربي الإسلامي" أو باعتماد اللغة والانتماء القومي في أكثر من جهة بالعالم. ولعله من أجل ذلك يتفاقم الفزع من التفكيك وهو يضع الأصبع على تصدعات وتمزقات الأصول التي اعتبرت أساس مطالب الهوية والقومية. بالخصوص لأن التفكيك كان في حاجة دائمة الى العمل على نقل وخلخلة أصول الهوية والحقائق المطلقة والانتماءات الذكورية. غير أنه إذا كانت الأصول الجينالوجية والأنظمة اللغوية للفكر الأوروبي قد خضعت لعمليات التفكيك بما أظهر العنف الذي تمارسه الأصول كأنظمة اللغة التي تسعى الى محو كل أصل غيرها، فإن الفكر العربي ما زال بعيداً عن مثل هذا المشروع" باستثناء ما عرفه الميدان الأدبي والشعري بالخصوص من محاولات ابتغت خلخلة الأصول والتصورات المشكلة عنه. تعود أبحاث الكتاب وردود جاك دريدا عليها الى مجموعة من القضايا تجعلها موضوع تفكيكات ومراجعة نقدية. تستنهض العلاقات التي تقيمها بين الفكر والواقع" أو بين الذات والآخر قصد تأسيس "المستحيل" الذي "يبحث التفكيك عن نواته". وليس المستحيل غير إعادة التعرف بتفكيك وبناء العلاقة بالماضي وبالتراث، بالآخر وبالثقافة الأوروبية... عبر تجليات الأصول والرؤية الى "العوالم" في تعدديتها اللغوية والدينية - الثقافية" ومن خلال معابر الوصول اليها ما دامت الألسنة أفضل مكان للضيافة ولاختصار المسافات وتوجيه القارىء نحو الآخر. ولذلك لم يمنع اختلاف الموضوعات ومواقع المشاركين من انسجام رؤيتهم في استعمال آليات التفكيك للبحث في أصول التصورات والمرجعيات الثقافية الموجهة للرؤى والتفسيرات. فمفهوم "الأنيس" في الثقافة والأدب العربي قاد هاشم فودة الى تأمل مفهوم "الهوية" الأكثر تردداً في الكتاب في ضوء تصور دريدا لل"اختلاف"، ليخلص الى أن لا وجود "لثقافة أو لهوية ثقافية من دون اختلاف مع الذات ومع وجود الغريب وبعض العنف الممارس". يتناوله فودة من خلال مفهومي الأنيس والجماعة الملتئمين باللسان وتداول الخطابات كالحكايات والأشعار الموضحة لبعض أشكال القرابة الدموية أو المجتمعية أو حتى مع الله التصوف. وهو ما يؤكد أن عربية العصر الوسيط لم منغلقة دون الآخر" بل كانت منفتحة عليه وعلى أنماط رؤيته الثقافية. بيد أن الثقافات لا تلتقي في نفس معيار النظرة الى الآخر كما توضح دراسة عبدالسلام شدادي لأطروحة دريدا في "الرأس الأخرى". فأوروبا من خلال ثقافتها بالخصوص اعتبرت هوية "الإنسان الأوروبي مختلفة، ومنفصلة بتصور قبْلي ومُعدٍ للمستقبل". وهو ما يصطدم بالمفارقة التي خلقها الرأسمال فيها. إذ يقابل وجود المؤسسات الإقتصادية والسياسية وتقدم المشاريع العلمية والتكنولوجية وتجذر خطابات الصورة والإعلام المستجدة بالحرية انغلاقُ الحدود ووضع الحواجز منعاً للآخرين... ولذلك يطرح النقاش الفلسفي في كتاب "الرأس الأخرى" مسألة هوية أوروبا في علاقتها بالكوني حيث يتحسس دريدا الخطر الداهم "من مفارقة تجربة المستحيل... وحرج تحمل التناقضات المذهبية" التي آل اليها الرأسمال في أوروبا وجعلها تفاقم "هوة الاختلاف" وتخاطر بأن تبقى منعزلة عن المجتمعات، بل وأن تنفصل عن اختلافاتها الذاتية". وراجع جان جاك فورتي الأصول الدينية والثقافية لكل من الهيلينية واليهودية والإسلام عبر تقاطعات العجيب في هذه الثقافات، ومن المنظور الفلسفي بالخصوص. فقد اهتم هذا الأخير بالعلاقة بينهما سواء مع هيغل أو نيتشه أو ليفينياس... فاللقاء بين الفلسفة والدين يستوجب دوام التفكير بخصوص الثقافة العربية الإسلامية في علاقتها مع الثقافتين الإغريقية واليهودية، من دون أن يعني ذلك أبداً افتقاد الثقافة العربية لخصوصيتها، بل فقط العثور على الصلات التي أقامتها مع الآخر، فبقيت هي نفسها" غير متماهية معه ولا منغلقة دونه" هذا رغم ما تعرض له الفلاسفة من إقصاء لأسباب دينية وسياسية في الثقافة العربية الإسلامية وأعاق تجربة "المغايرة" مع الفلسفة اليونانية بخلاف ما عرفته الأصول الشعرية العربية. ان خصوبة التحديث الأوروبي كما كان لاحظ دريدا ينبثق من غياب الخاص وتطور المرئيات والتقني - العلمي مدخل العولمة، ومن مكان المفارقات التي نُسجت بين الاعتقاد المسيحي والعدمية النيتشوية. ولعل في هذه المفارقة ما يؤهل علاقة إسلام - حداثة للتغيير. وفي بحثين بصدد بعض قضايا التراث" أولهما "طلاق الأصول" تمت مراجعة أصول التوحيد الديني بالبحث عن "الأب الأصلي للحضارة"، باعتباره رهان "التعرف على الآخر والإعتراف به"... ومن هذا المنظور يستخلص فتحي بنسلامة بأن الإسلام الذي أهمله فرويد، نشأ من تطليق مفهوم الأب كما ورد في العهد القديم" ومن بنائه لذاكرة خاصة لها جينالوجيا توحيدية تجعل الطلاق بائناً في علاقة الأب بالإبن كما تصورها فرويد. ولذلك قد يكون توحيد الإسلام غريباً لكنه يجعل الغيرية مشروطة بالأصل ذاته وهو ما قد يفسر غنى التصوف الإسلامي. وفي ثانيهما لعبدالفتاح كيليطو "الكلب الضرير" الذي اعتبره دريدا "قصيدةَ توليدٍ شعري"، كان الإهتمام بقصة أبي العلاء المعري مع أسماء الكلب، والتي أظهرت أن العلاقة باللغة والإمكانات التي توفرها في تحديد نمط الكلام" من خلال المترادفات" تجعل الشاعر أبداً على حافة المعنى لاجتياز الحدود اللغوية. وعاد جان فيليب ميي في "محاورة جديدة حول تعددية العوالم" الى اهتمام الفلاسفة بوحدة العالم. ولاحظ أن الاختلافات التي تطغى بين الألسنة والأمم تجعل العالم متعدداً ك"عوالم" وتطرح الانتماء المشترك الى الأفق الكوني رهاناً: عبر أسئلة الاختلاف أولاً وضرورة الإعتراف بالحضور والتراث الخاصين وباللغة، كمقدمة لعمليات العبور بين الثقافات ومن ثمة الى الانتماء الكوني. والحال أن الباحث عن التعددية والمراهن على مجيء الآخر يحتاج الى قرار "الإنتماء" والرهان على الوطنية لإظهار الخاص به. وعالج فريد الزاهي وكاظم جهاد قضية الترجمة وما تطرحه كتابات دريدا من تحديات. ففي "اللسان ومضيفه" للأول تمت مراجعة انتقال دريدا الى الثقافة العربية عن الإنكليزية والمخاطر التي أثارتها الترجمة في الميدان الفلسفي بالخصوص. فجل الترجمات التي ابتغت تقديم مجمل فكر دريدا اعتمدت نصوصاً لا تستجيب لهذه المهمة. فيما كانت لغته الفلسفية ذات الأسلوب الخاص في التفكير وبناء العبارة مشدودة الى أماكن القوة الممارسة على اللغة في اختلافاتها. أما الثاني فقدم عرضاً عن علاقته بكتابات دريدا بترجمتها الى العربية، بالخصوص من موقع الاختلافات والمآزق التي تطرحها. موضوعاتيةً واصطلاحيةً يبرز في مقدمتها كلمة "إختلاف".