كلما سرت أنباء عن عزم الدولة ترك العمل ببرنامج توزيع الغذاء الشهري المجاني الحالي، المعروف بالبطاقة التموينية، سادت مخاوف في أوساط صناعة الحبوب في العراق، من معامل منتجة أو كوادر حكومية مشرفة. فبموجب نظام البطاقة التموينية، توزع وزارة التجارة في العراق دقيق القمح مجاناً على العائلات بمعدل تسعة كيلو غرامات شهرياً للفرد الواحد من السكان المقيمين من عمر سنة واحدة وما فوق، مع مواد غذائية أخرى تشمل الرز والبقول والشاي والسكر ومواد التنظيف بمقادير مختلفة للفرد الواحد، تتناسب وأهمية المادة في ميزان الاستهلاك الفردي والأسري. وتوزع هذه المواد عبر شبكة تضم حوالى 18.6 ألف وكيل توزيع في القطاع الخاص من أصحاب البقالات والدكاكين، منهم حوالى 5.4 ألف وكيل في بغداد. آلية عمل مطاحن القطاع الخاص وينتج الدقيق حوالى 175 مطحنة في القطاع الخاص مع خمسة مطاحن حكومية. وتعمل هذه المطاحن بصيغة التعاقد مع الدولة، فتجهز الدولة المطحنة بالحبوب بحسب طاقة الطحن الفعلية لها، مقابل تسليم المطحنة كمية طحين تساوي 80 في المئة من وزن الحنطة المجهزة إليها، موضبة بأكياس تحمل اسم المطحنة وعنوانها ويحتوي الواحد منها على 50 كيلوغراماً. وتدفع الدولة الى صاحب المطحنة أجور طحن وتعبئة بقيمة 10دولارات للطن الواحد من حب الحنطة. وبذلك يكون عائد صاحب المطحنة من عملية طحن الطن الواحد 10 دولارات مضافاً إليه نسبة 20 في المئة نخالة وشوائب تنقية وطحن. ويبلغ متوسط سعر بيع طن النخالة والفضلات مطروح ساحة المعمل 135 دولاراً متوسط سنوي عام، ويزيد السعر عن ذلك بنسبة الربع في الصيف وفي الخريف، وينقص بالنسبة نفسها في الشتاء والربيع لعوامل تتعلق بموسمية الطلب وعرض البدائل العلفية. تنفرد مطاحن الحبوب في العراق منذ عام 1990 بميزات عدة ، لا تتمتع بها صناعة عراقية أخرى. وتتمثل هذه الميزات في: 1- أن إنتاجها مضمون البيع والتسويق، فهي لا تعرف أزمة سوق أو تأرجح مبيعات أو نوبات كساد موسمية أم غير موسمية كما في صناعات أخرى، بل كل ما ينتج يباع مدار السنة. 2- أن مشتري إنتاجها شخص واحد هو الدولة، ومن ثم فإن المطحنة في منأى عن مشاكل ومشاغل تعدد أطراف الشراء. 3- أن إمدادها بالمواد الأولية وهو القمح أمر مضمون ويتصف بالاستقرار والديمومة، فهي في منأى عن اضطراب عمليات التجهيز، واحتمالات تلكؤ المجهزين أو تأرجح أسعار المدخلات. 4- إن الشركة العامة لتصنيع الحبوب الحكومية المشرفة على هذه المطاحن تمدها بقطع غيار مستوردة بأسعار صرف أجنبي تفضيلية مدعومة. 5- أن باب الدخول الى هذه الصناعة موصد، اذ لا يسمح لمطحنة أو مطاحن جديدة بالدخول الى هذه الصناعة ومنافستها، بل هي حكر على المطاحن الموجودة فيها وعددها 175 مطحنة قطاع خاص مع خمسة مطاحن حكومية. وهذه ميزة مهمة جداً وذات أثر اقتصادي كبير. 6- صغر مبلغ رأس المال التشغيلي في هذه الصناعة. ففي ظل نظام البطاقة التموينية، وهي ميزة مهمة أيضاً، لا يشكل مبلغ رأس المال التشغيلي أكثر من واحد في المئة من رأس المال المستثمر في المشروع. ذلك أن المطحنة لا تحتاج الى توظيف مبالغ في شراء القمح. فصغر حاجة المشروع أي مشروع كان الى رأس المال التشغيلي ميزة مهمة، ولنا ان نتصور كبر مبلغ رأس المال التشغيلي في هذه المطاحن، فيما لو اعتمدت المطحنة على نفسها في توفير الحنطة شراءً. فالعراق يعتمد على الاستيراد بنسبة 10 الى 15 في المئة تقريباً من احتياجاته السنوية للقمح، فالمبلغ اللازم توظيفه عند ذاك يكون كبيراً بسبب طول الوقت الذي تستغرقه عملية فتح الاعتماد ووصول الحنطة. إن مطحنة بطاقة طحن فعلية مقدارها 100 طن حب يومياً، ستحتاج في الأحوال الاعتيادية في غير النظام الحالي الى رأس مال تشغيلي ربما بحوالى 1.5 مليون دولار، يوظف معظمه في توريد الحنطة من الخارج واحتياجات الخزن الاحتياطي. 7- زيادة عدد الأسر العراقية التي تعتمد على المخابز والأفران التجارية في الحصول على احتياجاتها من الخبز والصمون جاهزاً، مع تحسن المداخيل النقدية للأسرة العراقية وازدياد معدلات انخراط المرأة في العمل خارج المنزل، في الوظائف العامة وفي الشركات. وتشكل هذه الأسر الآن نسبة 30 في المئة من مجموع أسر العراق. وعلى مستوى محافظة بغداد تبلغ النسبة 40 في المئة دراسة منظمة الغذاء العالمية. وعليه فإن هذه الأسر لا تستعمل حصتها من طحين البطاقة التموينية، كما كانت تعمل أيام الحصار، بل تبيعه بسعر بخس متوسطه 0.08 دولار للكيلوپغرام، ويساوي 80 دولاراً للطن. ويقدم عدد من أصحاب المطاحن شراء هذا الطحين بسعر 0.1 دولار للكيلوپغرام أي 100 دولار للطن. ثم يجهزه مرة أخرى وفق صيغة العقد المبرم بينه وبين وزارة التجارة، على أنه قد أنتج في مقابل الحنطة الحب التي استلمها من الوزارة. وبهذا تكون المعادلة بينه وبين الوزارة قدر تعلق الأمر بهذه العملية: أن الوزارة تعطي 1.2 طن حنطة مضافاً اليها 12 دولاراً، في مقابل استلامها طناً واحداً من الطحين. ان مجموع قيمة ما تعطيه الوزارة هو 178 دولاراً، في حين ما يعطيه صاحب المطحنة اليها يكون بكلفة 100 دولار. فالربح الصافي في هذه العملية التبادلية هو 78 دولاراً للطن الواحد من الطحين المسترجع. أما الحنطة التي يستلمها المصنع في مقابل هذه الكميات من الطحين المستبدل، فإن صاحب المطحنة يطحنها لحسابه ولإنتاج الطحين الأبيض نمرة صفر، فيبيعه في الأسواق المحلية بسعر جملة 0.25 ? 0,30 دولار للكيلو أو ما يعادل 250 ? 300 دولار للطن الواحد، أو يبيع الحنطة كما أستلمها من الوزارة بسعر 200 دولار للطن تخميناً. وهذا مصدر آخر من مصادر الربح لمطاحن القطاع الخاص التي تمارس هذه العملية في ظل البطاقة التموينية، ولو كان ذلك محظوراً رسمياً. وتشير دراسة أعدها برنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة بالتعاون مع وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي والجهاز المركزي للإحصاء في بغداد، الى أن الأسر العراقية التي اعتمدت على الشراء لتأمين الصمون والخبز عام 2005 بلغت نسبتها 30 في المئة من مجموع عدد أسر العراق، فإذا علمنا أن كمية طحين البطاقة للعراق لعام 2006 حوالى 3.7 مليون طن طحين. فإن نسبة 30 في المئة تكون 1.1 مليون طن تقريباً هي الكمية السنوية التقديرية من طحين البطاقة التي تستغني عنها الأسر العراقية بالبيع أو غيره، وتستعيض عنها بالاعتماد على الشراء المباشر للخبز والصمون من الأفران والمخابز التجارية. إن كمية الطحين التي تعود الى المطاحن مرة أخرى ليعاد ضخها لا يعرف مقدارها، وربما يعود الكيس نفسه الى المطحنة لأكثر من مرة. وهذا هو تعليل انتشار ظاهرة الطحين المتعفن والفاسد الذي بات يستلمه كثر في الآونة الأخيرة. إن التمتع بالمزايا السبع المذكورة منوط باستمرار العمل بنظام البطاقة التموينية الحالية، ويدرك أصحاب المطاحن ذلك تماماً. وهذا ما يفسر مخاوفهم من إلغاء النظام المذكور. إن السياسة الاقتصادية الجديدة في العراق تتحول الآن من اعتماد استراتيجية الأسعار المدعومة الى استراتيجية المداخيل المدعومة. وبموجب الاستراتيجية الجديدة، يفترض أن تحول المبالغ التي تنفقها الدولة على شراء مواد البطاقة التموينية الحالية والمقدرة بحوالى 2.7 بليون دولار سنوياً، الى مدخلات نقدية تدفعها الدولة الى الأسر الأشد فقراً والأدنى دخلاً، فينتهي بذلك نظام البطاقة التموينية. فتؤمن الأسر العراقية على مستوياتها المختلفة احتياجاتها من المواد المعنية بالشراء المباشر. فالاستراتيجية الجديدة أكثر إنصافاً وعدلاً وتوازناً اجتماعياً، وأكثر التصاقاً بالتنمية المستدامة، شرط إكمال إلغاء دعم الأسعار والتحول الى دعم حقيقي للمداخيل مع إجراءات أخرى مكملة تدعم التوازن الاقتصادي والاجتماعي. نصف الشعب العراقي يعيش بدولار واحد يومياً ويشار الى أن ما يزيد على نصف الشعب العراقي أو 15,7 مليون نسمة يعيشون بدولار واحد يومياً، منهم أكثر من أربعة ملايين نسمة يعيشون بنصف دولار للفرد، وهم يعيشون في فقر مدقع على رغم تسلمهم مواد البطاقة التموينية. فلو رفع العمل بالبطاقة التموينية من دون برنامج تعويض فاعل فسيكون هناك كارثة كبرى. إن اصحاب العمارات الممتدة على طول شارع الجمهورية والسعدون والنضال وعرصات الهندية والجادرية، وأضعاف إضعافهم من أصحاب العقارات ومئات آلاف التجار والمستوردين والمصدرين وأصحاب المصانع والعائلات ذات الأسماء اللامعة في عالم الأعمال، وكذلك أعضاء البرلمان السابقين والحاليين والوزراء وموظفي الدرجات الخاصة والصيادلة والأطباء والمقاولين، هؤلاء كلهم وأمثالهم ومنهم أصحاب معامل الطحين أنفسهم، يستلمون الطحين ومواد البطاقة التموينية الأخرى مجاناً. فالأموال المنفقة على المواد التي تستلمها هذه الفئات فرص ضائعة بل مسلوبة من الفقراء في مجال الصحة والتعليم والنقل والسكن والغذاء وغيرها. إن أصحاب المطاحن يعلمون ماذا يعني التخلي عن نظام البطاقة التموينية واتباع استراتيجية التحول من الأسعار المدعومة الى المداخيل المدعومة، ليس أصحاب المطاحن فقط، وانما الكادر الحكومي الواسع المشرف على تطبيق هذا النظام أيضاً. وأول ما ستجد المطاحن نفسها فيه هو فقدان الامتيازات المذكورة، فضلاً عن وضعها وجهاً لوجه أمام منافسة بعضها لبعض ومواجهة المنافسة الخارجية، حيث يجتاح الطحين التركي أسواق العراق اجتياحاً متعاظماً. أضف الى ذلك التخلف التكنولوجي، اذ أن نحو 100 مطحنة من مجموع مطاحن القطاع الخاص متقادمة العهد، يعود زمن تأسيسها الى السبعينات وما قبلها، فيما هناك 60 مطحنة من تصنيع عراقي. فيما الوضع التكنولوجي لحوالى 90 في المئة من هذه المطاحن متخلف، ومن الخصائص الأخرى انخفاض معدلات الإنتاجية وكثرة التوقف والأعطال. ان أصحاب هذه المطاحن لا يريدون حلول ذلك اليوم الذي ينتهي العمل فيه بالصيغ الجارية الآن. والمفارقة الكبرى هي أن وزارة التجارة والشركة العامة لتصنيع الحبوب تنشئ 11 مطحنة في أنحاء العراق بطاقة طحن حبوب سنوية مقدارها 660 ألف طن سنوياً من مناشئ أوروبية إيطالية وغيرها. وهي تعلم علم اليقين: 1- أن الدولة في المرحلة الجديدة ومنذ مجيئها اختطت لنفسها التخلي عاجلاً أم آجلاً عن دور المنتج. والانتقال الى دور المساند. ومن ثم سيأتي اليوم الذي تعرض فيه هذه المطاحن للبيع أو التأجير أو أي صيغة من صيغ التخصيص. 2- أن الدولة وضعت لنفسها خططاً وباشرت في الانتقال من سياسة الأسعار المدعومة الى سياسة المداخيل المدعومة. وسيشتد هذا الاتجاه بعد عام 2007. 3- سبق للدولة أن خاضت تجربة امتلاك معامل طحين ثم تخلت عن عدد منها وباعتها من القطاع الخاص أثناء الحكم السابق. بل أن التجربة الأخيرة فشلت وتسير الآن على عكازات تدعمها الدولة، وهما معمل طحين التاجي ومعمل طحين الدورة. اذ لا يستعمل أصحاب المخابز وأفران القطاع طحينها الأبيض، ما اضطر الدولة الى تحويل إنتاجهما الى طحين البطاقة التموينية. 4- قرر العراق الانضمام الى منظمة التجارة العالمية، ما يعني عدم إمكان فرض حماية لهذه المطاحن مستقبلاً، بل يتدفق اليوم الطحين التركي والإماراتي المفضلين لدى المستهلكين وأصحاب المخابز، وبأسعار تنافس أسعار الطحين الأبيض المنتج في معملي التاجي والدورة والطحين المستورد، كما أنه معفى من ضريبة الاستيراد. 5- أن الطاقة التصميمية اليومية للمطاحن العاملة الآن سواء الحكومية والأهلية وهي 180 مطحنة، تبلغ 25.5 ألف طن حبوب، في حين أن الحاجة المستهدفة للبطاقة هي 15.5 ألف طن، بمعنى وجود فائض في الإنتاج يزيد على الحاجة ويصل الى 10 آلاف طن يومياً. 6- هناك حوالى 80 طلب تأسيس مطاحن قطاع خاص الآن يمكن ان تعوض عن المعامل المقترحة. لا نعرف قيمة المبالغ المنوي استثمارها في المطاحن الحكومية الپ11 . فالدوائر الحكومية هي اليوم مثلما كانت سابقاً، تتستر على المعلومات ولا تفصح عنها بذريعة وتبرير المصلحة العامة! لكن ألم يكن من الأفضل توجيه هذه المبالغ الى قطاع الكهرباء أو التعليم أو الصحة المتردية في المناطق البائسة من العراق؟ قد يقال أن هذه المعامل جرى التعاقد معها منذ العهد السابق، ولكن اذا وجدت القناعة يمكن بأكثر من طريقة العزوف عن الاستمرار في تنفيذ البرنامج المذكور. فهل من يقرأ؟