تعدت الحرب التي تشنها إسرائيل على لبنان حجماً ودماراً، الظروف التي بدأت بها حتى أصبح واضحاً للمشاهد العادي، قبل السياسي، أن حرب إسرائيل هذه ليست إلا استمرار لحرب الإبادة وتدمير روح الحياة والمقاومة عند الفلسطينيين أولاً، وأي شعب أو حزب عربي يبعث و يوقد روح الحياة ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي. إسرائيل لا تقوم عقيدتها على احتلال الأرض فقط، وإنما تقوم عقيدتها أساساً على قمع وتدمير وقتل أي روح أو فكر أو دعوة أو أمل في مقاومة وايقاف توسع الدولة الإسرائيلية وكسر سطوة وجبروت الجيش الإسرائيلي الذي يشكل العمود الفقري في معادلة الأمن والسلام الإسرائيلية. تقوم العقيدة الإسرائيلية على فلسفة مفادها أن الشعب العربي يجب ضربه في كل فرصة سانحة بأقسى الضربات وتدمير مؤسساته وجيوشه وممتلكاته اشد الدمار. الشعوب العربية يجب أن لا تفكر أو تحلم أو تشعر بأي نصر مهما كان ضئيلاً ضد الجيش الإسرائيلي. ومن أجل تثبيت وزرع سيكولوجية الرعب هذه والايمان بسطوة العدو وقوته التي لا تقهر، قامت الدولة الإسرائيلية منذ قيامها ببناء جيش قوي، جندت له كل الإمكانات والطاقات المالية والسياسية، الإسرائيلية والصهيونية في جميع أنحاء العالم. احتلت إسرائيل الأرض الفلسطينية وأضفت عليها الشرعية الدولية منذ عام 1948، وعلى رغم عدالة القضية الفلسطينية وعدم شرعية الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن القوى العربية في معظمها انتقلت من المرحلة الراديكالية التي لا تعترف بإسرائيل الى المرحلة المعتدلة القابلة بوجود دولتين فلسطينية وإسرائيلية تعيشان بأمن وسلام جنباً الى جنب، كما بلغ التسامح العربي درجة قبول فئة منه بالتطبيع مع الدولة الإسرائيلية والبحث عن مستقبل مزدهر اقتصادياً يجمع بين الطاقات العربية والاسرائيلية، وهذا التصور لمستقبل التعايش السلمي، هو الذي يبرر به المؤيدون موقفهم الداعم للتطبيع ومعاهدات السلام مع إسرائيل. الشعب الإسرائيلي وبنسبة أكبر زعماؤه وقياداته السياسية والعسكرية لهم رؤية واستراتيجية تؤسس للعلاقة مع الشعب الفلسطيني والعربي، تختلف جوهرياً عن الرؤية الفلسطينية والعربية. الاسرائيليون ومنذ انشاء دولتهم عام 1948 تقوم عقيدتهم الأمنية على أمرين اساسيين: الأول، احتلال اكبر مساحة من الأراضي العربية في فلسطين ومن الدول المجاورة. الثاني، وهذا الأهم، قتل وتدمير وسحق أي إرادة فلسطينية أو عربية تقاوم من أجل تحقيق شروط للسلام غير تلك التي تفرضها وتمليها الدولة العبرية بمنطق القوة والاستعلاء. ومن أجل تحقيق هذه الاستراتيجية الصهيونية لضمان أمن الشعب الإسرائيلي فقد اعتمدت إسرائيل سياستين رئيسيتين: الأولى، بناء جيش مزود بأحدث آليات الدمار من أسلحة وذخائر لم تبخل الولاياتالمتحدة على إسرائيل في تزويدها بما تحتاج إليه. الثانية، توجيه أعنف وأشد الضربات لإلحاق دمار شامل وقتل أكبر عدد من البشر من أجل غرس الرعب في النفوس العربية. هزمت إسرائيل الجيوش العربية في جميع معاركها باستثناء حرب تشرين الأول/ اكتوبر 1973 واحتلت أجزاء كبيرة من الأراضي العربية، لكن الجيوش العربية في كل معاركها مع إسرائيل لم تكن تمثل إرادة الحياة والمقاومة الحقيقية للشعب العربي ضد إسرائيل. في حرب تشرين الأول 1973، ومع شديد الأسف، قتل الرئيس محمد أنور السادات انتصار القوات المسلحة المصرية في مهده وجيره في نهاية المطاف الى معاهدة صلح وسلام مع إسرائيل، منحه الغرب مقابلها جائزة للسلام، وتمكنت إسرائيل بهذه المعاهدة من إحداث شرخ كبير في الموقف الرسمي العربي تجاه القضية الفلسطينية وإسرائيل على رغم أنه كان تجمعاً واتحاداً ظاهرياً. إسرائيل استطاعت أيضاً إلغاء إرادة الحياة والمقاومة لدى عدد من الحكومات العربية، وكانت هذه اسهل مهماته، فكل الخطب الانشائية الحكومية الداعية الى المقاومة والتحرير والمناداة بعدالة القضية، لم تكن جميعها إلا ظاهرة صوتية، فتقاطرت هذه الحكومات العربية تنادي بالصلح والسلام مع إسرائيل تحت سقف الشروط والإملاءات الإسرائيلية، فمنها من أعلن سلامه مع إسرائيل رسمياً متحججاً بالبراغماتية والواقعية، ومنها من اخفاه ودفن رأسه تحت الرمال. لكن إسرائيل لم تستطع كسر إرادة الحياة والكرامة لدى الشعوب العربية التي ترى في القضية الفلسطينية قضية ذات وهوية لها ارتباط وثيق بالذات والهوية الجمعية العربية والكرامة العربية ومكانة هذه الأمة بين الأمم الأخرى. وتعلم إسرائيل أن المستقبل مرهون بالأجيال المتجددة من الشعب العربي الذي لن يرضى بأن تهان كرامته وتمس عزته ويشوه تاريخه، مهما كان في تاريخها الماضي من شروخ وتصدع، فإرادة الشعوب، وإن أخمد جذوتها الرماد في حقبة من الزمن، فإنها لا تموت وستعود الى الاشتعال مع توالي الزلازل وهبوب الرياح، والشعب العربي في ذلك لا يختلف عن الشعوب الأخرى. المقاومة الفلسطينية المسلحة بالحجارة والبنادق والصواريخ المصنوعة في ورش الصفيح، مارست وتمارس عليها الآلة العسكرية الإسرائيلية اشد أنواع البطش والدمار وقتل الأطفال والشيوخ والنساء، لكن إرادة الحياة والمقاومة لدى الشعب الفلسطيني لم تنكسر على رغم كل الظروف الصعبة والقاسية جداً التي يعيشها هذا الشعب. إسرائيل في كل مرة تحقق فيها المقاومة الفلسطينية أي انتصار ولو كان انتصاراً رمزياً، فإنها ترد بأقسى أنواع العقاب الفردي والجماعي، وذلك حتى لا تصل أي ذرة من الأمل في النصر الى الذاكرة الفلسطينية أو العربية. اسرائيل تحقيقاً لاستراتيجية كسر الارادة الفلسطينية والعربية، لا تسمح بلحظة نصر عربي حتى لا تنبت أملاً وحلماً في مستقبل يطالب فيه الفلسطيني أو العربي بحقوقه العادلة. من هذا المنطلق وبناء على هذه الاستراتيجية في قمع وارهاب الارادة الفلسطينية والعربية، مزقت اسرائيل غزة عندما تم اختطاف أحد جنودها. اسرائيل لم تغفر للذاكرة اللبنانية والعربية انها سجلت انتصاراً على الجيش الاسرائيلي، عام 2000، وكانت تنتظر ظرفاً دولياً واقليمياً وعربياً يتيح لها فرصة اقتلاع تلك الشجرة الصغيرة ومحو تلك الصورة المشرقة من الذاكرة اللبنانية والعربية، فكان ان جاءت عملية اختطاف جنديين اسرائيليين من قبل"حزب الله"الفرصة السانحة لتنفيذ عملية خطوطها الرئيسية محددة سابقاً ومتفق عليها مع الحليف الرئيس لاسرائيل الحكومة الاميركية، والتي هي الأخرى بطاقمها التنفيذي والاستشاري من المحافظين الجدد تتبنى استراتيجية الضربة القاصمة والمسبقة لبسط نفوذها على العالم، خصوصاً العالم العربي. اسرائيل صبت حممها وسلطت كل نيرانها على لبنان هذا البلد العربي الذي يحمل كل معنى للجمال الانساني والطبيعي، ولم يكفها مخزونها من قنابل الدمار، فزودتها الحكومة الاميركية بقنابل ذكية تخترق الحصون وتزلزل الأرض نقلت بالطائرات اليها، وكأن ما الحق بلبنان من دمار لا يكفي. العالم كله ينادي بإيقاف الحرب، الا اسرائيل والولاياتالمتحدة، والسبب بسيط جداً ولم يخفه رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولمرت حيث قال: اننا لسنا على عجلة من أمرنا لوقف الحرب قبل تحقيق الأهداف الرئيسية من عملياتنا العسكرية. أهدافه الرئيسية ليست احتلال جزء من الجنوب فهو يعرف أنه لا يستطيع ان يحتفظ بأي أرض في جنوبلبنان، فقد تركتها اسرائيل وولت الأدبار في عام 2000، وهو لا يريد تدمير المزيد من الجسور والمباني أو محطات الكهرباء والمياه، أما البشر فقد قتل منهم ما يزيد على السبعمئة حتى هذه اللحظة، معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ، ومجزرة قانا الثانية عار وخزي في سجل الدولة الاسرائيلية يضاف الى جرائمها الانسانية السابقة والمتلاحقة منذ بقر البطون وتدمير وتهجير الفلسطينيين في عام 1947. هدف اسرائيل الرئيس الذي لم يتحقق بعد الدمار والقتل الذي ألحقه الجيش الاسرائيلي بلبنان هو تدمير وسحق ارادة البقاء والمقاومة والكرامة لدى الشعب اللبناني ممثلاً بحزب الله، ومحو أسطورة النصر التي حققتها هذه المقاومة في العام 2000 على الجيش الاسرائيلي. هدف اسرائيل هذا لم يتحقق لاسرائيل في فلسطين رغم ما يزيد عن نصف قرن من التدمير والاغتيال ورغم آلاف المساجين وآلاف الشهداء. وحيث ان هذا الهدف هو القاعدة التي تبني عليها اسرائيل أمنها الوطني وسلامها المنشود، فإن أمنها لن يتحقق وسلامها لن يتم ما دام هناك نساء يلدن أجيالاً عربية تستمد هويتها الفردية والجمعية من لغة عربية جامعة وتراث وتاريخ حاضن لماضيها وممتد الى مستقبلها. أمام اسرائيل طريق واحد الى السلام والأمن الدائم. مفرداته هي الايمان بحق الشعب الفلسطيني في العيش في دولته المستقلة حراً كريماً آمناً جنباً الى جنب مع دولة اسرائيلية يعيش شعبها ايضاً حراً كريماً آمناً. وهذا الايمان لن يتحقق الا بتخلي الشعب الاسرائيلي عن النظرة الاستعلائية على الشعب الفلسطيني والعربي، واستخدامه القوة العسكرية في فرض شروط السلام والعيش في المنطقة العربية. ويبقى السؤال الجوهري والأساس في هذه الأطروحة، وهو كيف يمكن إرغام الشعب الاسرائيلي على التخلي عن عقيدته الأمنية المبنية على ارهاب الشعب الفلسطيني والعربي بقوة اسرائيل العسكرية وقدرتها على تدمير أرضه وممتلكاته في أي زمان ومكان، والأخذ بعقيدة الأمن المبنية على الصلح والمعاهدات الدولية واحترام حقوق الطرفين وحسن الجوار وبناء الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية الملائمة لقيام سلام دائم بين الشعب الاسرائيلي والعربي؟ الشعب الفلسطيني قبل بالسلام ووقع عليه وأزال من دستوره الدعوة لإزالة اسرائيل ليتلاءم مع حقبة السلام، والشعب العربي في مجمله قبل بما قبل به الشعب الفلسطيني. أما اسرائيل فمنذ توقيعها اتفاقية أوسلو وحتى تاريخه لا يرى المتابع لسياساتها على الأرض الا تأكيداً وترسيخاً لعقيدة فرض شروط السلام وحدوده بالاستعلاء والتعنت والحصار وبناء المستوطنات وبناء الجدار العازل تحت مظلة وغطاء ولغة القوة العسكرية وتجاهل القرارات الدولية. استثمر العرب والفلسطينيون في مسيرة السلام هذه وقتاً طويلاً، وقدموا تنازلات عدة لم يأخذوا مقابلها الا المزيد من الغطرسة والتجبر الاسرائيلي والخسائر الفادحة. الفلسطينيون والعرب ليس أمامهم الا طريق واحد للوصول الى سلام دائم وحقيقي مع الاسرائيليين وفرض احترامهم على الولاياتالمتحدة الاميركية وبقية دول العالم الغربي كأمة لها تراث وحضارة انسانية. هذا الطريق يتمثل في إعادة ترتيب استراتيجية العمل الراهنة على المستوى القطري والعربي ليكون عمودها الفقري وأساسها العمل الداخلي لإعادة بناء الذات للفرد والقطر والأمة والتخلي عن الاعتماد الكلي على علاقاتنا الديبلوماسية والاقتصادية والأمنية مع الولاياتالمتحدة والغرب لبناء وتأمين مستقبلنا واستعادة حقوقنا. وأهم عناصر المشروع الداخلي هو: 1- إعادة الثقة في الذات الفردية للمواطن العربي من خلال الاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وذلك بتضافر جهود كل الطوائف والفرق والأحزاب، تجمعها هوية مشتركة تقوم على اللغة والتراث والتاريخ ماضياً، والأمل والحلم والوحدة مستقبلاً. ولن يكون ذلك الا باستيعاب الحكومات الحالية حتمية وضرورة هذا التطور. 2- إعادة الثقة والإيمان بالوحدة أو الاتحاد بين الأقطار العربية القائم على الهوية العربية المشتركة كقاعدة لهذه الوحدة أو الاتحاد اولا، وعلى أن الوحدة والاتحاد بين أي عناصر متجانسة أو متوائمة أو ذات عناصر مشتركة، فيه تعظيم لقوة كل قطر من الأقطار المتحدة ثانياً. بتطوير الذات العربية وإعادة بنائها على أسس سياسية واقتصادية واجتماعية سليمة تؤدي الى تعظيم الموارد والقدرات البشرية والطبيعية لكل قطر، وبإحياء مشروع الوحدة أو الاتحاد أو أي نوع ملائم من أنواع التجمع العربي ليعظم الموارد والقدرات القطرية بالتكامل والتعاضد سيكون من الصعب جداً، بل من المستحيل، على اسرائيل أن تستمر في فرض معادلة السلام على الفلسطينيين والعرب بالقوة العسكرية والاستعلاء والجبروت، ولن يكون أمامها أي مجال للعيش في الوطن العربي إلا باحترام حقوق شعبه والعيش معهم في سلام دائم. وسيفرض العرب أفراداً وأقطاراً وأمة احترامهم على الدول والشعوب الأخرى. الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني بمقاومتهما واصرارهما على القتال والوقوف في وجه عدوان اسرائيل الغاشم، استطاعا تحقيق نصر وان كان صغيراً في حجمه، الا انه كبير اذا ما قيس بالفرق بين الأمكانات المادية والقدرات المتاحة، واذا ما قيس بالتشرذم والإحباط وضعف القيادات العربية. * كاتب سعودي