لا يستقر مشهد العنف على حال واحدة. فهو يدور، أي يعرض الضحايا، ويكثّرها، ويحجبها، على الدوام. والحرب مسرحه الأثير. فإذا انطوى مشهد العنف على معنى، ظهر المعنى على هذا المسرح، أولاً. وقد تكون السياسة استمرار الحرب، وليس العكس، على ما جرى القول ويجري. فالسلطة السياسية هي صورة موازين القوة وتثبيتها، وتجديد هذا التثبيت. وعلى هذا، فپ"السلم الأهلي"يحضن حروباً مزمنة وصامتة. وتندلع حروب ساخنة ومعلنة، في بعض الأحيان، حفاظاً على"السلم الأهلي"، وعلى الحرب التي يبطنها وينطوي عليها. والقرار الأخير إنما يصدر عن الحرب، وعن منطقها"العقلاني"المفضي الى المعركة الحاسمة. ومنذ أواخر سبعينات القرن الماضي الى نهاية القرن، ومطالع القرن الواحد والعشرين، خرج المعسكر السوفياتي عن سننه المستقرة. فاجتاح الاتحاد السوفياتي أفغانستان. وافتتحت الرأسمالية مفصلاً من فصولها. فنقّلت الإنتاج بين البلدان البعيدة، وسعت في عموم الديموقراطية، وعولمت الإنتاج والاستهلاك ومنطق السوق. وفي أثناء العقود الثلاثة طويت صفحة الديكتاتوريات تقريباً في اميركا اللاتينية، وألغت دولة جنوب افريقيا السوداء التمييز العنصري. وللوهلة الأولى، ينتظم الحوادث هذه رد الاعتبار للنموذج المدني، مجتمعاً وضحايا مدنيين عزّل وإصلاحاً اقتصادياً. وبموجب حقوق الإنسان والحق الدولي الإنساني والديبلوماسي صيغت معايير الحرب"الجديدة"، ومراقبة السلطات السياسية والاقتصادية ومثالات سوسها الناس في الحياة العامة والعمل. والأزمات الكثيرة التي انفجرت في عقد التسعينات اضطلعت المنظمات غير الحكومية وهيئات التحكيم والوساطة غير الرسمية، بالخروج من الأزمات هذه وپ"تبريدها". والهيئات نفسها قامت بدور فاعل في عولمة الأسواق وتحفيز التنمية. وخلافاً لمعظم التوقعات، تمخض التقدم عن شيوع الفقر، وتعاظم العنف الاجتماعي، وتكاثر المنازعات المحلية، وانتشار اعمال الإرهاب. واحتل ضحايا المشكلات والآفات هذه كلها مكاناً بارزاً من المشهد. فالمدنيون، والحال هذه، هم الخطوط الأمامية في هذه"الحروب". وبناء على هذا، حُمّل العمل الإنساني مهمات لا طاقة له بها. وتولت الدولة، بواسطة الشرطة وغيرها من اجهزة المؤازرة والضبط الوقائيين، جعل السلطة أقل فظاظة. وأرادت حملها على الرعاية والوقاية والتحكيم، وإحلال الشرطة محلها. وأدى السعي هذا الى انتزاع الذاتية، والقيام بالنفس ومسؤولياتها، من السياسة، واطراحهما منها. وپ"التطبيع"أي الحمل على"الطبيعي"المعياري والمعروف والشائع هو نهاية مطاف هذا النهج، نهج إحلال الشرطة محل السياسة. فإذا بالدولة مزيج غريب من جهاز مراقبة ضخم، وإرادة سياسية مضادة، ورغبة عشوائية في التدمير. ولعل هذا المزيج هو ثمرة إجهاض السياسة، والنكوص عن تولي مسؤولية الجماعة السياسية المشتركة. فخلا الميدان لعملاء السلطة المزدوجين، اهل الاقتصاد وأهل الإعلام وثقافته. عن فيليب مينار استاذ جامعي وباحث "كازيمودو" الفرنسية، ربيع 2006