ساعة الحائط التي لا تزال صامدة على جدار المطبخ المهشم في منزل محمد عبد الرحيم اسماعيل في بلدة بريتال البقاعية تشير الى الحادية عشرة والربع ليلا، انه زمن المجزرة التي ارتكبتها الطائرات الاسرائيلية في اغارتها على المنزل المجاور قبل نحو تسع ساعات من موعد وقف اطلاق النار. ومنذ تلك المجزرة، التي راح ضحيتها ستة اشخاص من آل مظلوم بينهم اطفال، يسير الزمن بطيئا. اذ كيف يمكن لمن جاور الموت ان يستعيد حياته الطبيعية. منطقة بعلبك - الهرمل التي اُدخلت في صلب معادلة الحرب الاسرائيلية على لبنان، بدت ما بعد هذه الحرب خارج معادلات الاهتمام بكل اشكاله. الناس هنا يخرجون من بين ركام منازلهم اكثر احساسا بالتهميش. يتكىء الجريح محمد على بوابة حديقة منزله في بريتال، هي كل ما سلم من بناية من طبقتين متداعية بفعل الغارة الاسرائيلية على هدف مدني، محاولا تجنب حرارة الشمس اللاهبة بظل شجرة، قال إنه ينتظر"مساعدة الدولة،"حزب الله"كشف على المكان وقدم لنا مبلغ عشرة الاف دولار للمنزلين وهي لا تكفي لاعادة البناء ولا للتعويض على السيارات التي احترقت". على اطلال منزل آل مظلوم الذي انتشلت منه الطفلة فاطمة 4 سنوات في اليوم الثاني لوقف النار ارتفعت لافتتان واحدة وضعها اهل الضحايا ترجو"عدم الدخول الى المكان من دون احراج"واخرى لم يعرف واضعوها كتب عليها"الحمد لله الذي اكرمنا الشهادة". السهول الذهبية التي تمتد على جانبي الطريق الى بعلبك تزيد من الاحساس بالعزلة، ظلال اشخاص قلة يعملون في الحقول واغنام ترعى بتثاقل، الرمال تتطاير من ورشة توسيع للطريق معلق العمل فيها حتى اشعار اخر، وهياكل القلعة الرومانية تلمع في فضاء مشارف المدينة ترحب بضيوف كانت تنتظرهم عشية العدوان، ففلشت لهم الزفت ورصفت لهم الممرات والمواقف، لكن السيارات التي تقصد المدينة هذه الايام تحمل ابناءها فقط، الذين بدورهم يسجلون عتبا على شخصيات ابدت حرصا مطلوبا على سلامة قلعة بعلبك لكنها تجنبت تفقد الاحياء التي قصفت حتى الرمق الاخير وبعضها لا يبعد عن القلعة اكثر من عشرات الامتار. الناس في المدينة يسيرون على عجل، المتاجر خالية الا من اصحابها يحيّون بعضهم بعضا وكأنهم يتأكدون للمرة الالف من انهم ما زالوا على قيد الحياة، وحين يُسألون عن الدمار الذي اصاب مدينتهم للمرة الاولى منذ تعاقب الحروب على لبنان، يشيرون الى حي آل اللقيس وحي الشيخ حبيب وحي العسيرة وشارع رأس العين والى محطات الوقود عند مداخل بعلبك ومخارجها. قدر اهالي المدينة ان يكون نصيبهم من العدوان بضع قذائف لكن لم يتوقع احدهم كل هذا الحقد على بعلبك التي تبعد عن الحدود اللبنانية مع اسرائيل نحو 150 كيلومترا. يشير السكان الى المنازل التي استهدفت في هذه الاحياء وبينها ما يعود الى مسؤولين في حزب الله. يقول محمد عواضة وهو احد المصابين في القصف على مزارع آل اللقيس، ان الغارة الاولى على المدينة استهدفت منزل النائب محمد ياغي ثم منزل مسؤول الحزب حسين الموسوي ابو هشام وجرفت الغارات في طريقها عشرات المنازل التي اخلاها اصحابها بعد غارات اليوم الاول، وكرت الاستهدافات، بناية بلوق على طريق رأس العين ومنزل المختار محمد حسن ابو شهاب وهو من الموالين للحزب ومطبخ للحزب ومقر قيادة في حي آل اللقيس وآخر مركز اجتماعي او كما يطلق عليه الناس اسم"القطاع". في حي اللقيس شبان يتنقلون بين الدمار الذي محا معالم الحي بكامله، يسجلون على اوراق حال الابنية المتداعية ويتفحصون امكان الترميم، انهم من وزارة الاشغال ومن الهيئة العليا للإغاثة قالوا ان مهمتهم تنحصر في رفع الانقاض، وقدروا عدد الابنية المدمرة والمتضررة ب 600 وحدة سكنية في بعلبك وحدها ويرجحون ان معظمها غير قابل للترميم انما يحتاج الى الجرف، وهم سيوكلون المهمة الى متعهد يوكل بدوره مهمة الكشف على بقايا قنابل او صواريخ غير منفجرة الى القوى الامنية، فهل يتمكن سكان الحي من العودة في وقت قريب الى حيهم؟ تبدو ماكينة"حزب الله"وكأنها استعدت للحدث قبل حصوله، فما ان توقف اطلاق النار حتى كان عناصرها يتحركون على الارض مع اوراق طلبات مطبوعة ومراكز محددة لتقديم الطلبات واخرى للدفع. الاوراق النقدية من الدولار الاميركي التي سلمت الى المتضررين كانت رطبة وكأنها خرجت بدورها من المخابىء، هكذا شعر الاهالي الذين قبضوا مبلغ العشرة الاف دولار، وهو اقل من قيمة المبلغ الذي خصص لاهالي الضاحية الجنوبية لبيروت ربما لاختلاف الاسعار بين الايجارات في ضواحي بيروت والاستئجار في ضواحي بعلبك في انتظار وعد باعادة البناء، لكن من يعوض على اصحاب المحال المتضررة؟ سأل حسن الذي كان يفتش بين انقاض بناية يقطن فيها وله في طبقتها الارضي محل لبيع السمانة. حسن نجح في انقاذ شهادة تقدير لشقيقه لنيله الشهادة المتوسطة، الورقة تشبه الى حد بعيد تلك التي تصدرها الدولة اللبنانية لكنها مذيلة بختم"حزب الله"قال حسن ان الحزب يحرص على منحها لكل ناجح في الشهادة الرسمية. امام منزل تداعت اساساته وقفت شاحنة يعمل بعض الشبان على نقل ما سلم من البيت اليها قبل ان يصار الى هدمه، المنزل يعود الى علي اللقيس الذي قال انه ما كاد ينتهي من ترميم منزله حتى قصفت الطائرات الاسرائيلية المنزل المجاور له ويعود الى آل مرتضى حيث استشهد فيه الجندي منير الذي كان عاد للتو من الخدمة. علي سيقيم مع عائلته في منزل استأجره من خالته الى حين اعادة بناء منزله من جديد، المنزل ايضا في حي اللقيس. مستشفيات بعلبك لا تزال تعالج عددا من جرحى الحرب الذين حوّل بعضهم الى مستشفيات في بيروت. في مستشفى الريان يرقد نعيم خليل مواليد 1980 الذي خرج للتو من عملية جراحية جديدة في عموده الفقري الذي اصيب بشظية ادت الى التهابات حادة، يذكر نعيم لحظات الموت المحتم الذي قضى على ستة عناصر من قوى الامن الداخلي كانوا يستقلون"الفان"الذي يعمل عليه. كانت الساعة تشير الى السادسة والربع صباحا أي قبل اقل من ساعتين من موعد وقف اطلاق النار، الشبان كانوا مستعجلين للالتحاق بالثكنة في ابلح، استقلوا الحافلة من بلدة الفاكهة لكن احدا منهم لم يصل في الموعد، الغارة الاسرائيلية التي استهدفت"الفان"حولت اجسادهم الى اشلاء وقطعت رجل السائق ولا يزال نعيم يعاني من كسر في الحوض ومن الألام بسبب شظايا مزقت كل جسده. في الغرفة المجاورة رقد الطفل مهدي الفيتروني من دون حراك، رجله اليسرى هشمها صاروخ سقط على سوق بعلبك، كان علي خرج من المنزل لشراء منقوشة، فاذا به يدفع كما قال الممرض الذي يتابع حاله،"اغلى ثمن لمنقوشة". يفتح هاني عواضة سجلا وضعه على طاولة مكتبه ويقلب الصفحات منذ 12 تموز الماضي ويشير باصابعه الى الحجوزات اليومية في فندقه المتواضع قبالة قلعة بعلبك لسياح لم يأتوا. يقول: منذ سبعة اشهر ونحن ننتظر موسم المهرجانات لنعوض خسارة تسبب بها"مشروع الارث"لترصيف مدخل المدينة تراثيا وكانت البلدية تقول لنا اصبروا وتحملوا، وفي الليلة التي نمنا فيها على امل استقبال الزوار في اليوم التالي استفقنا على الحرب، هرب العمال السوريون ونقلت عائلتي الى طرابلس وبقيت صامدا مع اهل المدينة نعد الخسائر بالاف الدولارات، فتحت الفندق امام الهاربين من القصف في الاحياء الاخرى ومن تضررت بيوتهم ولا اعتقد اننا طوينا صفحة الحرب". يخشى عواضة من اسلوب دفع التعويضات بهذه الطريقة وكأن الطرف الذي يعوض يوحي للناس بان يتدبروا امورهم في انتظار جولة جديدة من الحرب. يشفق عواضة على الناس في الجنوب"بعلبك البعيدة عن الحدود عملوا فيها هيك كيف باهل الجنوب، لكنه في الوقت نفسه يشفق على اهل مدينته التي حتى بائع العرانيس يتكل فيها على مهرجانات بعلبك لحفظ قوت الشتاء فماذا سيفعل هؤلاء في الاشهر المقبلة؟". يختم عواضة بامنية يذكرنا قبلها بانه ادى فريضة الحج ولا يحيد عنها بان اهالي منطقة بعلبك لم يزرعوا الحشيشة هذا الموسم التزاما بالقوانين لكن"عالواه لو فعلوا".