غالباً ما نقلت الصور مشاهد مضخمة للحوادث، فهي لحظة تكثيف للواقعة وحشرها في مشهد واحد. هذه المعادلة تبدو معكوسة في حالة الجنوب اللبناني اليوم. فالصور هي اجتزاء للدمار العام. وهي اختيار لدمار معين وإهمال لدمار مجاور. قرى كثيرة دمرت ولم يأت احد على ذكرها. وهذا ليس تعمداً أو إهمالاً وإنما اضطراراً. فالاختيار لا بد منه للحديث عن دمار شمل مناطق واسعة وأصاب قرى ومدناً كثيرة. هنا تحقيق لا يدعي اكثر من ذلك. ما ان وصلنا الى المنعطف المؤدي الى بلدتي مارون الراس ويارون في آخر بلدة بنت جبيل حتى قال نزار ان السيارة تعطلت. كان ذلك نهار الخميس الفائت، اليوم الذي اعلن فيه الجيش اللبناني بداية انتشاره في منطقة جنوب نهر الليطاني. البلدة مدمرة على نحو شبه كامل والسكان القليلون الذين كانوا يعبرون الطريق لم يكن في وسعهم المساعدة. اذاً علينا العودة مشياً الى منطقة المستشفى في اول البلدة، فهناك من الممكن اجراء الاتصالات والتفكير بحل معضلة السيارة. عبور بنت جبيل المدمرة مشياً مختلف عن عبورها بالسيارة، فالطريق المتعرجة التي شقت بين ركام المنازل والمتاجر المدمرة يتيح عبورها مشياً التدقيق بمحتويات المنازل المحطمة والمختلطة بالأسمنت المفتت والمحترق. يمكن ايضاً ملاحظة طبقة رمادية محترقة تغلف معظم الركام. ثمة شرفة ما زالت قائمة. شرفة واحدة، وتطل منها سيدة. المنزل لم يسلم ولكن شرفته غير مدمرة، مشهد لا ينسجم مع الخراب الرهيب الذي اصاب البلدة. من الصعب إعادة بنت جبيل كما كانت قبل الحرب. الأمر يتطلب سنوات طويلة من دون شك. قال احمد انه لن يرمم منزله في الوقت الحاضر، وهو ربما يبيعه اذا اتيح له ذلك، اما أصحاب محطة الوقود في حي البركة والذين عادوا لتوهم لتفقد منزلهم فقالوا ان لا خيار أمامهم سوى العودة، وان كانت عودة تشوبها وحشة وتبدل كامل في الأوضاع. الأب بدا متفائلاً بدخول الجيش اللبناني الى البلدة والمنطقة، اما أولاده الشباب فكانوا حذرين في إجاباتهم، لا سيما ان وصول الجيش خطوة لم يتضح مدى انسجامها مع رغبات"حزب الله". ما زلنا على قيد الحياة البحث في وجوه الناس وكلامهم عن معنى ولّده الدمار في نفوسهم يبدو ضرباً من العبث الآن. الناس هنا في بنت جبيل يعوزهم وقت حتى يكتشفوا ما حل بهم. اليوم هم مستسلمون لما هم به، او منقادون إليه بصفته الحقيقة والواقع. منزل هوى وحياة تبدلت وجيران غادروا وأقارب ماتوا، فأي شيء ننتظر. عليك وانت تعبر ذلك الطريق المستحدث الذي شق وسط ركام بنت جبيل ان تشيح بنظرك عن تلك الوجوه وإلا أصابتك حيرتها. وعليك ايضاً ان لا تطيل التفكير بسر تلك الابتسامات التي يتبادلها السكان القليلون، فهي ليست ابتسامات، انها تحريك تلقائي لعضلات الوجوه، وهي ايضاً اشارة الى"اننا ما زلنا على قيد الحياة". هذا ليس ضرباً من المبالغة، فالبحث عن الأحياء جارٍ على قدم وساق بين السكان، والحكايات تشبه الخيال على هذا الصعيد. تلك امرأة ما زالت على قيد الحياة على رغم ان خبراً عن مقتلها وصل الى اقاربها في بيروت فأقاموا لها مجلس عزاء، وهنا تحت هذا الركام يرقد رجل بدأت رائحة تحلل جسمه تخرج من بين انقاض منزله. انها بنت جبيل ما بعد 2006، شيء آخر وحياة اخرى. منازل ومبان تداخلت، ولون احتراق البارود يخترقها من أولها الى آخرها. أنواع مختلفة من الدمار. منازل احرقت واخرى وقعت على جهة واحدة وثالثة لم يعد لها أثر، وحين تتأمل قليلاً الأزقة المتداخلة والمحطمة تراودك اسئلة تود لو تعرف على من تطرحها. من هم السكان؟ ومن هو الطيار الذي قصف هذه الأحياء؟ ولماذا اقدم"حزب الله"على خطف الجنديين الإسرائيليين؟. وفي لحظات اخرى تشعر ان هذا الدمار تكرر اكثر من مرة وانك شاهدته هنا او في مناطق اخرى قريبة، وان هذا المنزل الذي هوى على مقدمته سبق ان فعل الأمر نفسه قبل سنوات قليلة. شعور كهذا يأتيك مضاعفاً في بلدة صديقين في قضاء بنت جبيل التي دمرت اليوم على نحو ما دمرت عام 1996. ففي ذلك العام عبرنا البلدة المدمرة بعد يومين من وقف اطلاق النار، ولم نقصدها ثانية الا نهار الخميس الفائت. عشر سنوات تفصل بين تاريخين متشابهين. لا شيء تقريباً تغير. منازل محترقة ومدمرة وسكان قليلون باشروا العودة، واصحاب محال بقالة اخرجوا سلعاً مغبرة وعرضوها في مقدمة متاجرهم المهشمة. عليك اذاً ان تعتقد ان صديقين هي ما تراه الآن، وان لا تطلق العنان لخيالك لاستشراف صورة اخرى للبلدة بين التاريخين، خصوصاً انه لن يكون هناك معنى لأي صورة اخرى اذا كانت تلك بدايتها وهذه نهايتها. ساحة التهاتف الخليوي في منطقة صف الهوا على مدخل بنت جبيل يمكن للهاتف الخليوي ان يعيد ارتباطه بالشبكة وان على نحو ضعيف. عليك ان تقف في تلك الساحة الترابية وتدير وجهك الى بلدة عيناتا وتنتظر ان يلتقط هاتفك اشارة الشبكة، وربما تطلب الأمر اكثر من نصف ساعة عليك خلالها ان تجيل النظر في تلك البلدة المنكوبة، فهي تحتك تماماً، ومن النقطة التي تقف فيها يمكنك ان تتحكم بمشهد عنيف. بيوت مهدمة وطرق مقفلة ومئات من ابناء عيناتا يقفون في ساحة البلدة وعلى مدخل النادي الحسيني فيها يستقبلون معزين بالضحايا الكثر الذين سقطوا جراء تدمير إسرائيل بلدتهم. قالت السيدة ان ابنها الذي يعمل في تصليح السيارات لن يتمكن من مرافقتنا الى بنت جبيل، فهو الآن يرفع انقاض منزل خاله بحثاً عن جثته. وامام هذه الإجابة كان من الصعب ان نلح بطلبنا. عيناتا كلها تبحث عن قتلاها. عثر على الكثير لكن ثمة مفقودين ايضاً من المرجح ان تكون جثثهم بين الأنقاض. طقس مجلس العزاء في البلدة كان جماعياً، اي ان المُعزى ليس اهل فقيد بعينه، فأينما وصلت يمكنك ان تُعزي، وكان ايضاً ثمة من يبارك بالنصر، وعيناتا لم تشعر بأن هناك مفارقة في ذلك لا سيما في الأيام الأولى لانتهاء العملية. ثمة ما يمكن رصده في هذا الخراب في الكثير من القرى، وربما كان عديم الدلالة بالمعنى العسكري، وهو ان الدمار يتكثف عند المنعطفات او في اسفل المنحدرات. يصح هذا في عيناتا كما في بنت جبيل وصديقين وبرعشيت. والمنعطف او المنحدر هنا ليس مفارق الطرق بقدر ما هو انعطاف الحي كله بأتجاه آخر. وعيناتا كثيرة الانحدارات والانعطافات وفي كل واحد من هذه الانعطافات يتكثف الدمار مجدداً. الطرق اعيد فتحها بسرعة وعناصر"حزب الله"تولوا كل شيء بدءاً بمجلس العزاء وانتهاء بفتح الطرق وارشاد السكان اليها. يصل الى تلك الساحة الترابية في منطقة صف الهوا جميع من يريد ان يجري اتصالات هاتفية من ابناء المنطقة. الجميع يتكلم بصوت مرتفع ليصل صوته في قضايا غالباً ما يتحدث فيها الناس بأصوات خفيضة."زوج خالتك لم يستشهد"قالت سيدة لابنها، فيما كان آخرون ينسقون عبر الهاتف ايضاً مع اقارب مواعيد العزاء لأقارب واهل. وفي الناحية الأخرى من الساحة الترابية المشرفة على البلدة المنكوبة عناصر كثر من"حزب الله"يلتقون مجدداً ويتعانقون ويُطمئن بعضهم فلاناً الى ان اخاه ما زال على قيد الحياة، او انه جرح ولكنه بخير، فالمعارك كانت طاحنة والمنطقة ما زالت تعيش سكراتها. "ماكينة""حزب الله"شديدة النشاط في تلك المنطقة. دراجات نارية تنطلق في كل الاتجاهات وعناصر غير مسلحين يقفون عند المفترقات، مع ملاحظة غياب اي دور لحركة"امل"التي من المفترض ان تكون شريكة الحزب في النفوذ في الجنوب اللبناني. فعناصر"حزب الله"هم من يمسحون الأضرار، وبعضهم كان يحمل اوراقاً يدون عليها اسماء يعتقد السكان بأنها اسماء المدمرة او المتضررة منازلهم."ماكينة"فعالة على رغم ان فعاليتها لم تخدم نزار الذي طلب من عنصر من الحزب مساعدة لإنقاذ سيارته من امام مدخل مارون الراس فلقي جواباً ودوداً من دون مساعدة فعلية. دمار في كل القرى بلدة بيت ياحون الى الشمال من صف الهوا. آثار جنازير الدبابات الإسرائيلية التي دخلت البلدة ثم انسحبت ما زالت موجودة. دمار واسلاك مقطعة ومتاجر كبيرة تخلعت ابوابها فانكشفت البضائع والسلع للعابرين. وبيت ياحون التي كانت حتى عام 2000 معبراً بين الشريط الحدودي وبقية مناطق الجنوب ازدهرت على ما يبدو في السنوات الخمس الأخيرة بحكم موقعها على مدخل بنت جبيل. اما اليوم فالحرب لم تقتصر نتائجها على ما دُمر، وما ضرب في البلدة هو دورها، وكي نعيد الازدهار اليها علينا ان نعيده الى بنت جبيل وهو أمر لن يتم في المدى المنظور. نكبة برعشيت التي تلي بيت ياحون لا تقل فداحة، فالبلدة التي تخلصت عام 2000 من حصار المواقع الإسرائيلية في محيطها ابتليت مجدداً بحرب 2006. وسط البلدة ونواتها الذي يشكل كتلة اسمنتية متراصة ضُرب على نحو يشعرك بأن ارتجاجاً واحداً جعل من المنازل تهوي وتتخلع بأتجاه واحد عند تلك الانعطافة. عجوز فتحت دكانها المتهاوي كما فعل كثيرون في تلك القرى. عادت لتوها من صيدا التي نزحت اليها وفتحت دكانها. وعندما سألناها عما اذا كانت بقيت في برعشيت طوال هذه الحرب أجابت وكأنها تدفع تهمة"انا خرجت من اجل زوجي المريض". لم تكن تريد افهامنا انها شجاعة، ولكنها اعتقدت بأن نزوحها قد يعني تهمة في معايير عالم لا يبدو ان العجوز تحتفظ بقدرة على استيعاب تقلباته الكثيرة، ثم ان الجنوب على ابواب مرحلة جديدة لم يتمكن السكان بعد من تنشق رياحها، وربما كان النزوح تهمة فيها. حيرة السكان في مرحلة كهذه قائمة في اكثر من وجه في ما تبقى من حياة في تلك القرى. اعتبارات كثيرة تضاعف من هذه الحيرة. من سيعود من الأهالي؟ فحين يتحدث الناس من قراهم الفارغة يتحدثون على نحو مختلف من دون شك. الجميع يدرك ان كثيرين لن يتمكنوا من العودة، وان الخيار اذا ما ترك لكثيرين فسيفضلون الإقامة بعيداً من هذه القرى. هذه الفكرة تقلق عدنان ابن بلدة برعشيت الذي يقول اذا لم يباشر السكان بناء منازلهم على نحو سريع فهو سيغادر البلدة فوراً، ولكن لا يدري الى اين. قد تكون شقرا اقل قرى هذا الشريط تعرضاً للقصف على رغم تدمير عشرات المنازل فيها. الطريق الذي سلكناه اليها من برعشيت خال من تلك الحفر التي تتخلل معظم الطرق التي تفصل القرى في قضاء بنت جبيل. علينا الوصول الى منزلنا الذي طلبت مني امي معاينته فور وصولي الى البلدة. كانت تعلم ان المنزل لم يدمر، فهي اتصلت بقريب قال لها انه شاهده من بعد وان المنزل ما زال"واقفاً". منزلنا في قريتنا بائس اصلاً، وهو على رغم عدم تعرضه للقصف زاد بؤساً بفعل تلك الحرب. هذا ما شعرت به في اللحظات القليلة التي امضيتها ادقق في جدرانه وابوابه. لقد اصيب المنزل بروح هذه الحرب فتضاعفت وحدته ووحشته، وهو امضى ذلك الشهر واقفاً ومرتجاً عند سقوط كل قذيفة. امكنني رؤية ذلك في جدرانه الصامتة تلك. اتصلت بأمي وابلغتها نجاته، لكنني لم ابلغها ان مرضاً اصاب المنازل غير المدمرة في الجنوب.