استنتاجات كثيرة مهمة يمكن الخروج بها من عملية اكتمال الاكتتاب بأسهم شركة"اعمار المدينة الاقتصادية"السعودية، تطاول الأسواق الخليجية كافة من دون استثناء. يأتي انتهاء هذه العملية بالصورة التي تمت بها والنتائج التي تمخضت عنها، ليشير الى بروز دلالات جديدة تتعلق بالتطورات التي طالت اسواق المال الخليجية في 2005 و2006. الا أننا قبل الدخول في تحليل هذه الاستنتاجات سوف نقوم بإجراء مقارنة سريعة بين بيانات اكتتاب"اعمار المدينة الاقتصادية"واكتتاب شركة"دانة غاز"والذي تم في دولة الإمارات ودول مجلس التعاون الخليجي خلال طفرة الأسهم في العام الماضي. بلغ حجم الاكتتاب في"دانة غاز"نحو 288 بليون ريال، في حين لم يتجاوز اكتتاب"مدينة اعمار" 7.18 بليون ريال، مع الأخذ في الاعتبار ان"دانة غاز"كانت مفتوحة للمستثمرين كافة من خليجيين وأجانب، كما ان المبلغ المطلوب في الحالتين هو بليونا ريال تقريباً، في حين وصل عدد المكتتبين في"المدينة الاقتصادية"الى 10 ملايين مكتتب من السعوديين، أي ما يقارب نصف عدد السكان في المملكة العربية السعودية، وهو عدد ضخم من دون شك. ما يهمنا هنا هو حجم مبلغ الاكتتاب في الحالين، والذي بلغ في"دانة غاز"أضعاف حجم الاكتتاب في"إعمار". والسؤال المهم هنا يتعلق بمئات البلايين والتي هي عبارة عن التزامات من المصارف لتمويل عملية الاكتتاب في"دانة غاز". في الحقيقة لا يوجد نقص في حجم السيولة الخليجية، بل بالعكس، فقد ارتفع متوسط سعر برميل النفط عن متوسط سعره في عام 2005، ضخت سيولة اضافية من خلال زيادة الانفاق الحكومي والخاص. الا ان ما حدث اثناء اكتتاب"دانة غاز"هو قيام المصارف والمؤسسات المالية بتمويل عمليات الاكتتاب الاولية للافراد والمؤسسات بعشرات البلايين، حيث حققت من جراء ذلك أرباحاً خيالية وفي فترة زمنية قصيرة. كما ان المحافظ الاستثمارية ساهمت بقوة في هذه الاكتتابات، في حين شكلت مساهمات صغار المستثمرين في اكتتاب"مدينة اعمار"نسبة كبيرة، كما يتضح من عدد المكتتبين. يرجح ان المصارف ومؤسسات التمويل اتبعت سياسات متحفظة اثناء اكتتاب"اعمار المدينة الاقتصادية"، وذلك بسبب الأوضاع الضبابية التي تمر فيها أسواق الأسهم الخليجية. كما ان المحافظ الاستثمارية لم تجد فارقاً كبيراً بين العوائد التي يمكن ان تحققها من الاكتتاب الأولي او شراء الأسهم من السوق الثانوية بعد ان وصلت أسعار الأسهم في البورصات الخليجية الى ادنى مستوياتها في الشهر الماضي، وهذا توجه صحيح سيوفر لها عوائد مجزية ويجنبها تجميد أموال طائلة في الاكتتاب الأولي او دفع فوائد كبيرة للمصارف التجارية. لذلك، لا علاقة للأمر بحجم السيولة المحلية، بقدر ما هو مرتبط بسياسات المصارف والمحافظ الاستثمارية، التي تحدد عمليا حجم السيولة في الاكتتابات الأولية والتي وصلت الى مبالغ خيالية في عام 2005. دروس التجربة هناك دروس استوعبتها المصارف والمؤسسات المالية والمحافظ الاستثمارية من جهة، والمستثمرين الأفراد من جهة أخرى من تجربة الاكتتابات الأولية في دول مجلس التعاون الخليجي في العامين الماضيين، وهي تجربة برهنت ان ظروفاً غير طبيعية فيها الكثير من عدم الخبرة والمبالغات سادت الفترة السابقة واستفادت منها بصورة موقتة المصارف ومؤسسات التمويل بصورة اساسية. الدرس الأهم الذي يمكن استنتاجه من اكتتاب"اعمار المدينة الاقتصادية"هو ان حجم هذا الاكتتاب يعبر عن حالة طبيعية تميز الاكتتابات في الأسواق العالمية في شكل عام، وبالتالي، فإنه يؤكد استنتاجنا السابق، أي على رغم سلبيات تدهور أسعار البورصات الخليجية والعربية إجمالاً، الا ان ما حدث يعتبر خطوة مهمة نحو استكمال المقومات الصحيحة والنضوج اللازم لعمل هذه الأسواق. وفي الوقت نفسه، تؤكد عملية الاكتتاب الجديدة من انه إضافة الى الأسباب الموضوعية الخاصة بالمضاربات والمبالغات في أسعار الأسهم في عام 2005، هناك أسباب نفسية ساهمت في انهيار تلك الأسعار في عام 2006. يثير حجم الاكتتاب في اسهم"اعمار المدينة الاقتصادية"والبالغ 7.18 بليون ريال، حالاً من الارتياح لدى المهتمين والمختصين بالاسواق الخليجية، وهو يضع الامور في نصابها الصحيح والعقلاني والمتزن والذي يمكن ان يساهم في استقرار هذه الاسواق وتطورها بصورة طبيعية وبعيداً من الطفرات والتقلبات الحادة. * كاتب اقتصادي