لم يغادر خليل الخازم منطقة حارة حريك في ضاحية بيروت الجنوبية طوال فترة العدوان الاسرائيلي على لبنان، لكنه ترك المربع الأمني بعد اسبوع من بدء استهدافه. وقف فوق تلة من الركام وراح يلتقط صوراً بهاتفه الخليوي للفراغ الممتد أمام عينيه. هناك كان منزله ومنازل والديه واشقائه، وضع يده على رأسه من الخلف وقال:"صرت أعرف ماذا يشعر الانسان حين يصاب بنزيف في دماغه. كاد رأسي ينفجر كلما سقط صاروخ على المنطقة التي عشت على تخومها طوال شهر لأن لا مكان آخر أذهب اليه. هذه منطقتي وسأبقى فيها لكن الحياة لن تعود كما كانت". ليس خليل وحده الذي لم يتعرف الى الشارع الذي ولد فيه ونشأ، أحياء بكاملها في الرويس وحارة حريك وبئر العبد لا يمكن التعرف اليها الا بصعوبة. كانت هذه حال رجال ونساء وبعضهن اصطحب اطفاله الى احياء الضاحية بعد سكوت المدافع الاسرائيلية بساعة واحدة لتفقد ما سلم من منازلهم ومنازل اقاربهم. شبان بقمصان سود وسلاح ظاهر على الكتف أو على الخصر وكمامات على الوجوه وعيون فارقها النوم منذ اسابيع، يصرون على معرفة هوية كل شخص يريد الدخول الى المربع الأمني، قد تكون الغارات الاسرائيلية المدمرة أطاحت بمعالم هذا المربع لكن الشباب يعيدون رسم حدوده بمجرد وقوفهم عند المفارق بعدما لفوا مداخل الشوارع بأشرطة صفر تحذر من تجاوزها. تسير السيارة ببطء في شارع معوض فيما صوت المذيعة على اذاعة"النور"التابعة ل"حزب الله"تحيي"هذا الشعب العظيم على النصر الذي حققه، قبل أن تحذر العائدين الى المناطق التي نزحوا منها من أجسام غريبة"خلفها العدو الصهيوني وراءه امعاناً في اجرامه". لكن السيارة لا تبطئ سيرها بسبب تلك"الاجسام"انما بفعل الحجارة وحطام الزجاج الذي ملأ الشوارع وباحشاء المحلات التجارية التي تناثرت على الأرصفة واحترقت أو تمزقت. هنا تبدو الدراجة النارية الوسيلة الاسهل لتجاوز الركام وهي عادة متبعة بكثرة من شبان اعتادوا على التجول فيها، ولجأ اليها ذلك الدركي وخلفه زوجته الحامل ووضع بين ساقيه طفله وخلفهم جميعاً ربطوا كيساً من البلاستيك حشروا فيه ما تيسر مما اخذوه من المنزل حين غادروه على عجل قبل اكثر من شهر. قالت المرأة انهم عائدون الى المنزل، بدت متفائلة بقرار وقف النار، فالتشكيك بفاعليته يعيد الى وجهها تعبير الفزع والسؤال:"ليش بعد يمكن يصير شيء"؟ لا أحد يمكنه الاجابة على هذا السؤال في طريقنا الى المربع الأمني سيراً على الاقدام. هنا الناس يصرون على تغليب الشعور بالنصر على أي شيء آخر، ربما كي لا يعترفوا بالمصائب التي حلت بهم. يتحدثون اللغة نفسها ويلفظون الكلمات نفسها، شيء يشبه التعميم. أو كما قال احد مسلحي"حزب الله":"انه الايمان"، قبل ان يجول بعينيه الزرقاوين على المكان وهو يرسم على وجهه ابتسامة المنتصر، قائلاً:"اكتبي، هنا حصلت معجزات آلهية". يتحفظ هذا المسلح عن الافصاح عن"البطولات"التي حققها ورفاقه في المربع الأمني، وهي بطولات حقيقية،"يكفي أن تتحملي العيش بين الصواريخ المنهمرة علينا والتي يشبه انفجارها الزلزال كي تطرحي علينا سؤال كيف بقينا على قيد الحياة". لافتة كبيرة رُبط طرفاها على قضبان حديد هي كل ما تبقى من أساسات بناية تحولت حجارتها الى ما يشبه الحصاة الصغيرة وكتب عليها"حارة حريك ترحب بكم". ورائحة موت تختلط برائحة الدخان المنبعث من بناية دمرها القصف الاسرائيلي قبل ساعتين فقط من سريان وقف اطلاق النار. ينفي مسلح آخر أن يكون ثمة شهداء تحت تلك الأبنية المدمرة، لكن رائحة نتنة نعرف نحن الصحافيون الذين خبروا سابقاً حروباً مرت على لبنان مصدرها. انها تعود لجثث متحللة. خليل الذي لم يغادر المنطقة الى اكثر من شارعين الى الخلف يؤكد أن ثمة مدنيين كثراً لم يتركوا منازلهم ودفنوا تحتها. السير في شارع حارة حريك الرئيسي يصبح عصيّاً حتى على المشاة كلما توغلنا في مفارق أكثر اقتراباً من الدمار. واذا كانت الأبنية في شوارع خلفية ما زالت صامدة في الشكل فإن خراباً كبيراً أصاب واجهاتها ومحتوياتها ما يجعل عودة ساكنيها اليها صعبة للغاية، يكفي تدلي الاسلاك الكهربائية من كل اتجاه وتدمير البنى التحتية في المنطقة للدلالة على استحالة عودة الحياة الى طبيعتها في وقت قريب. ثمة جرافتان ترفعان الانقاض من الشوارع الى جانبيها، إذ لا قرار برفعها الى خارج المنطقة، فقط ما يكفي لعبور الناس. يقول صاحب الجرافتين أحمد انه تبرع بهذا العمل ل"وجه الله". يقف محمد وحيد وهو من مواليد قانا ويقطن في حارة حريك أمام انقاض بناية"دومتكس"متأملاً ما بقي من جنى العمر في الخليج. قال:"كانت الطائرة التي عدت فيها الى بيروت آخر طائرة حطت في المطار قبل قصف اسرائيل لمدرجاته بنصف ساعة". ينظر مجدداً الى المكان الذي لم يتفقده منذ هرب مع عائلته من البناية ويقول:"راح بيتي وبيوت اشقائي و13 محلاً و3 مستودعات". يبحث عن مبرر يعوض به خسارته ويقول:"عندما تفرض عليك أمور توجب المواجهة، هذه ضريبة ندفعها مثل أي شخص يقيم في الضاحية". ويؤكد وحيد انه سيعيد بناء ما تهدم"فلن اغادر الضاحية، أولادي ولدوا هنا وسنبقى". يسرع الشاب علي هاشم في سيره في اتجاه برج البراجنة، وتحديداً منطقة الرادوف، فمنزله في مجمع الإمام الحسن الذي تهدم بفعل غارات لا مثيل لها استهدفته أول من أمس، هو يعلم ان منزله دمر من ضمن الابنية الثمانية، التي تحولت الى ركام، لكن لا تظهر عليه أي مشاعر حزن على خسارته، ويقول:"اخلينا المجمع قبل اسبوعين واخرجنا بعض الأغراض. بيتي مستأجر، ومصابي هو مصاب الناس جميعاً لكنه يأسف لاستشهاد العائلات التي عادت قبل ساعات من قصف المجمع لتفقد منازلها فدفنت تحته. يحاول العائدون الذين يتضاعف عددهم مع تقدم ساعات النهار التعاطي مع خسائرهم من خلال تعميم المصيبة. ويبالغ بعضهم في رد الفعل. فالمعلمة هدى وقفت أمام بناية لم يبق من معالمها سوى أعمدة قليلة وهي تضحك. قالت:"شقتي هذا الفراغ، هذا كان منزلي، اقطن فيه منذ 15 عاماً لم يبق شيء الا الثياب التي علي، الآن اسكن في مارالياس في بيروت". وتصر على الضحك مرة ثانية. لم يبق من منزل العلامة السيد محمد حسين فضل الله إلا بوابته الحديد وشاب وقف فوق الركام رافعاً علامة النصر وصورة للأمين العام ل"حزب الله"السيد حسن نصرالله. وعلى بعد امتار، عانقت هلا زهر الدين ابنتها الصغيرة وهي تنظر بذهول الى ما وراء الركام. قالت:"لا اعرف أين بيتي، لم أعد أميز المكان، هذه اول مرة اعود فيها، كنا نزحنا الى دوحة عرمون. الله يهدهم". هلا لا تملك المنزل انما استأجرته قبل ثلاث سنوات مع عائلتها المكونة من ثلاثة اولاد. هي تعمل في تنظيف المنازل كي تعيل عائلتها، اليوم لم تعد تعرف كيف ستدبر أمورها، قالت:"علي ان انظف المنازل 20 سنة كي نستطيع ان نأكل ونستأجر غرفة واحدة وغازاً صغيراً، أولادي هم رصيدي ومثلنا مثل العالم". تضيق الشوارع او تختفي ويصبح علينا ان نعبر فوق أسطح البنايات التي انقلبت وتهدمت فوق بعضها بعضاً، نقفز فوق هوائيات تلفزيونية ونحيد عن صحون لاقطة وتنحشر أقدامنا بين مربعات البلاط وپ"الدرابزينات"الحديد. انه الشارع العريض ومنه الى شارع راغب حرب، هنا كانت بناية مؤسسة الشهيد، قال كامل عياش:"في البناية الملاصقة لها كانت مؤسستي"فاطمة"لصناعة الملبوسات لم يبق لي شيء". تهدر الطائرات الإسرائيلية فوق رؤوسنا ويحاول عناصر"حزب الله"إبعاد الناس بحجة ان ثمة صواريخ لم تنفجر. لكن الناس يصرون على المضي في تفقد المكان وهم مذهولون، لافتة اخرى كتب عليها"أهلاً بكم في ضاحية العز والإباء"، وامرأة صبت غضبها على الصحافيين:"لا نريد تصويراً وأشبعتونا كلاماً، نزحنا الى الطريق الجديدة، الله يلعنها ويلعن من فيها"، تنهرها زميلة تعمل في إذاعة"النور":"لا يا حجة ما بيصير هيك"، فترد عليها:"أنت لا تعرفين شيئاً، انهم يشتمون فينا"، تصر الزميلة على تهدئتها ويسود الصمت. يحنو احمد عباس بجسده قليلاً ليعاين ما تبقى من بناية ملتوية. قال:"هذا بيتي انه الطابق الخامس لكنه صار متساوياً مع الأرض". يعمل احمد مهندساً في مجال الكومبيوتر ويعيش حالياً مع عائلته في عرمون وهو اصلاً من النبطية التي تهدم منزله فيها ايضاً. هو واثق بأن وقف اطلاق النار سيصمد"لأن اسرائيل لن تتمكن من مواصلة حرب خسرتها". تزكم رائحة الموت هنا الأنوف، لكن الرجل الذي بدا مختلفاً بثيابه ونظارته الطبية لم يكترث لها وهو يمعن النظر الى الركام، إنه الطبيب علي حديب، اختصاصي في الأمراض الجلدية. قال:"هنا كانت عيادتي. أقفلتها بعد ظهر 12 تموز على ان أعود في اليوم التالي لاستقبال مرضاي ولم يعد احد الى المنطقة. لماذا؟ انها بناية سكنية بالكامل، عيادتي فقط كانت هناك، تجهيزاتي، كتبي، ملفات المرضى موسوعاتي الطبية، كلها راحت، الآن"على الأرض يا حكم". ويشير بيده"هنا كان الفرن ومحلات ألبسة ومكتبة، ما هذه الهمجية". يرى صعوبة في تحديد ما إذا كان سيقرر الهجرة ويسارع الى القول:"من الصعب ان أبدأ من جديد وعلى كل حال ما لازم نترك البلد". ويقف نبيل سعد امام ركام آخر محاولاً ان يوازن جسده فوق تلة الحجارة التي شكلت المعبر الوحيد بين جبلين من الردم. قال:"هذا بيتي انه الطابق الرابع لكنه سقط الى مستوى الملجأ، البناية بنيناها أنا وأخوتي من عملي في الخليج، اتصلت بأمي أخبرها ما حصل ردت علي:"بالرزق مش بأصحابه". تتردد اصوات الضرب على الحديد فوق ركام تجمّع حوله شبان. إنهم يحاولون فتح خزنة حديد قال احدهم:"إنها لي، أنا أملك محل صاغة ومجوهرات. في 12 الشهر الماضي وضعت بضاعتي في الخزنة وغادرت كما أفعل كل يوم، عدت اليوم ووجدت البناية تحولت الى ركام وبدت الخزنة سليمة ولا يمكن حملها بسبب ثقلها ونلجأ الى كسرها!". يجن جنون وسام كالوت وهو ينظر الى ما تبقى من بناية شعبان"البارحة كنت هنا تفقدت المنزل وغادرت، اليوم كانت الضربة الأخيرة في هذه البناية". رجال إطفاء يحاولون اخماد النيران التي ما زالت تشتعل فيها، يقول لهم كالوت:"انها من الصيدلية. هذه اسرائيل منذ زمن المسيح نعرف همجيتها". الضاحية المنكوبة غداة العدوان: رائحة بارود... وعناصر"حزب الله"في كل مكان