سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
المهجرون في لبنان عنوان مرحلةما بعد وقف النار - تضامن انساني مع المهجرين الى كسروان والمساعدات تتخطى المواد الغذائية . تفاهم "حزب الله" وعون في السياسة لم ينعكس إلفة بين المقيمين والنازحين
لا يبدو على حارة صخر، البلدة الصغيرة الواقعة فوق مدينة جونية، في قضاء كسروان، أنها تستقبل نازحين في مدرستها أو بعض منازلها. فحركة الشارع ونمط المحال التجارية لم يتغيرا، ومرور السيارات أمام المدرسة لم يتعطل نتيجة تحويل وجهة السير. شيء من هذا لم يحدث، بل بقيت الامور على ما كانت عليه قبل أن يدلف 150 نازحاً الى المدرسة. حتى إن الرصيف المحاذي للبوابة الحديد الضخمة، لم يخرج اليه أحد من الرجال أو الأولاد، كما يحدث في بيروت، بل بقي الجميع في الداخل، متنقلاً بين الأروقة أو الصفوف."لا نشعر بوجودهم أبداً"قالت صاحبة دكان قريب،"فهم دائماً في المدرسة، ولا شيء ينقصهم"، تضيف بتعاطف شديد، غير مدركة أن تفضيل البقاء شهراً كاملاً داخل أسوار المدرسة بدلاً من الخروج الى الشارع والاختلاط بالسكان، ليس بحد ذاته أمراً إيجابياً. غير أن النازحين أنفسهم يطمئنون الى تلك الجدران الرمادية والى جيران فرضتهم عليهم الحرب من قرى جنوبية محاذية لقراهم، أكثر مما يريحهم التنزه خارجاً والاختلاط بأبناء المنطقة. وليس مرد ذلك الى انطوائية النازحين أو انغلاق سكان القرى الذين استقبلوهم في كسروان، إلا أن غربة مزدوجة أصابت هؤلاء النازحين من أقاصي الجنوب إلى مناطق جبل لبنان التي لم يزوروها يوماً ولم يحتكوا بأهلها من قبل. هو نوع من التعارف الحقيقي الأول بين جمهور الشيعة وحلفائهم السياسيين من الموارنة، بعد لقاءات سريعة في تظاهرات السنة الماضية التي جمعتهم بصفتهم أنصاراً لپ"حزب الله"أو لپ"التيار الوطني الحر". غير أن تلك اللقاءات لم تكن مقدمة لعلاقات اجتماعية أوسع، واحتكاك يومي أو حياتي بين أفراد الجماعتين. فبقيت أنماط كل كتلة حكراً عليها، من دون أن ينعكس التحالف السياسي بين الزعيمين السيد حسن نصرالله والعماد ميشال عون على النواحي الاجتماعية لجمهورهما. واليوم، مع الحرب، جاء الاختبار الفعلي لهذا التحالف، سوى أنه اختبار على مستوى الأفراد وأنماط العيش وليس الخطاب السياسي. ويمكن لزائر مدرسة حارة صخر مثلاً، أن يلمس بسرعة الحواجز المعنوية التي لا تزال قائمة بين الفريقين. فالعلاقات بينهم يمكن أن تندرج في إطار اللياقات الاجتماعية أو ما يسمى بالانكليزية political correctness، أو استيعاب مجموعة لمجموعة أقل حظاً، كأن تقدم لها المعونة اللازمة في ظرف من هذا النوع، إلا أنها لا ترقى الى الألفة أو الحميمية، كما هي الحال في المناطق المختلطة طائفياً وسياسياً. فعلى عكس المهجرين الى مدارس بيروت، الذين لا يعنيهم كثيراً ما قد يفكر فيهم أبناء الأحياء التي انتقلوا اليها، توقف النازحون الى كسروان عند شكليات لم يخففها بنظرهم وضعهم كنازحين."انظري الى حالنا"تقول أم عدنان وقد جلست في صف مع بناتها وكنتها."خرجنا كما نحن، لم نحضر ثياباً إضافية أو أي شيء يليق بالخروج. فهل نضحك الناس على حالنا؟ بقاؤنا هنا مع من هم مثلنا استر". هذا القول ليس من دون دلالة، فحتى كنة أم عدنان التي تمكنت من تهريب مصاغها ولبسته كله خوفاً من أن يسرق منها، رفعت حذاءها قائلة:"لو كنت مكاني هل خرجت من منزلك بهذا الحذاء المثقوب، أنا لست جائعة في بيتي، ولست فقيرة انظري الى مصاغي، لكن هذه الحرب أذلتني والآن لا اريد شفقة من أحد، سأنتظر هنا الى أن تفرج أمورنا". أم عدنان ونساء عائلتها هربن من صريفا في بداية الحرب وأقمن في هذه المدرسة منذ ذلك الحين. تأقلمن مع حياة الصفوف، ودوامات الطبخ."الشاطر بشطارته"قالت إحدى البنات."ففي المدرسة كلها غاز واحد وأحياناً لا يأتينا الدور في الطبخ... فنعتمد على المعلبات، لكن المساعدات ما عادت تصلنا منذ نحو اسبوع، ولا نعرف كيف سنتدبر أمورنا بعد اليوم". ثم قاطعتها الكنة:"جاءت سيدتان من الحي وعرضتا علينا حمام منزلهما ليستحم الصغار على الاقل بماء ساخن، فأخذت أولادي الثلاثة ووضعتهم في المغطس معاً فراحوا يلعبون بفقاعات الصابون، ولم أتمالك دموعي... فقد مضى وقت طويل لم ينعم فيه أطفالي بحمام فعلي قبل النوم". تلك الهموم الصغيرة إنما الحقيقية، تصغر أكثر عندما يحين وقت الكلام عن صريفا والبيوت التي تهدمت. أخبار البلدة انقطعت عن أم عدنان، فخرج من البلدة من خرج، وما عاد أحد يأتيها بجديد، وليس من جهاز تلفزيون يتابع عبره النازحون الى مدرسة حارة صخر أخبار قراهم. لكن أم عدنان تعلم يقيناً إن منزلها سوي بالارض، وأرزاقها احترقت وبقراتها نفقت."اكثر ما يحزنني تلك البقرات. لا أجرؤ على البوح لأحد بأنني تمنيت لو هربتها معي. فالبنات قد يقتلنني لو تفوهت بذلك، لكنني أتخيلها تجوع وتعطش وتهيم شاردة ثم تموت ببطء بعيداً مني"تقول السيدة بشيء من الخدر أكثر منه الهدوء. ثم تضيف أنها لا تعلم إن كانت ستعود بعد وقف إطلاق النار، فالشتاء على الأبواب، ولا سقف يؤويها لكنها في المقابل لا تعلم أيضاً إلى من يمكنها اللجوء:"اقرباؤنا في الضاحية نزحوا أيضاً، لا أدري، ربما أنصب لي شادراً في مكان ما". الحيرة والخوف من وقف إطلاق النار يبدوان في هذه اللحظات أقوى من خوف القصف نفسه والهرب، في عيني أم عدنان. هو خليط من المشاعر المرتبكة والمتناقضة أحياناً الذي يحس ولا يحكى، لكنه يقض مضاجع المرأة التي شارفت الستين. إضافة إلى أنها لا تعلم شيئاً عن أبنائها الذكور، تقول إنهم في مكان ما، تتمناه آمناً، لكنها لا تعرف أكثر من ذلك، فهي"هربت مع الذين هربوا". صريفا بعيدة الآن، ومثلها جويا التي جاء منها جيران أم عدنان في صف الأول ابتدائي. حمل عبدالله بيضون ابنتيه هبة وزهراء وهرب بهما مع زوجته خديجة واستقرت العائلة في ذلك الصف، فقطعته غرفاً بواسطة شراشف نشرت على حبال. وقالت خديجة التي جلست في"الصالون"مع بعض الجارات يتناولن مربى المشمش والزعتر ويحتسين الشاي، إن تقطيع الصف الى غرف صغيرة أفضل من أن يبقى كله مفتوحاً على المارة في الرواق، وتضيف بعفوية القرويات إن ذلك"أستر لخلوات الزوجين"وتضحك النساء"بخبث"، وتقول إحداهن:"لكن بعد زيارة نانسي عجرم، تغيرت الامور، فما عدنا نعجب رجالنا"وتعلو قهقهاتهن. نانسي عجرم؟ لم تذكر أم عدنان المغنية الشابة، ربما لم تتعرف إليها، أو ربما شردت عنها، لكن عبدالله الذي دخل الغرفة مسرعاً فور سماعه الاسم انخرط بالحديث مباشرة فقال:"يا الهي ما أجملها، وهي متواضعة، وحساسة إذ راحت تبكي عندما رأت أوضاعنا السيئة"، ثم اضاف ممازحاً"التهجير حلو إذا فيه نانسي، لكننا في انتظار ابنة الجنوب... هيفا". فقاطعه شاب استوقفه الحديث وطلب نشر"شكر خاص للفنانة نانسي باسم أبناء حارة صخر"، فصرخ به الجميع:"لا لا بل باسم النازحين الى حارة صخر، لا نريد مشاكل". وعبد الله الذي جلس على كومة فرش اسفنجية وجد لنفسه عملاً في معمل للغاز في جونيه منذ وصوله الى البلدة. قال إنه كان يعمل في نقل الغاز في الجنوب، وهو لا يقوى على الجلوس طيلة النهار"مثل النسوان وانتظار المساعدات، فتوجه إلى أول موزع للغاز وطلب عملاً. وقال"غادر العمال السوريون ووصلت في الوقت المناسب، فقد كان صاحب العمل حائراً بأمره". وعبد الله ليس الوحيد الذي وجد عملاً فمعامل صغيرة ومطابع ومؤسسات وظفت شباباً ورجالاً من الوافدين الجدد برواتب أسبوعية تبلغ مئة دولار. وقال عبد الله:"ربما ابقى هنا مع عائلتي إلى أن اعيد بناء بيتنا في الجنوب ويمكنني أن اسجل هبة وزهراء في هذه المدرسة ريثما نرى ما ستؤول اليه الامور". هذا الكلام لم يعجب خديجة، فقالت:"والله إذا أوقفوا النار اليوم، غداً صباحاً أكون في طريقي إلى البيت، حتى لو نصبت خيمة فوق ركامه". ثم اضافت:"لا أريد أن يفهمني أحد خطأ، فهنا لم يتركنا الأهالي ولم نحتج الى شيء، حتى إن بعض الناشطات الاجتماعيات جئن يلعبن مع الأولاد، وأخذوهم مرة في رحلة الى مزار السيدة العذراء في حريصا، وأمس حضروا عيد ميلاد لإبنة الجيران، وأكلنا جميعاً حلويات وسهرنا، لكن لا شيء يضاهي البيت". صمت عبد الله ونكس رأسه، وأظهر وشماً على ذراعه يمثل دبابة اسرائيلية وقلباً ينزف وتحتها قطرات حمر تشكل اسم قانا، وتاريخ المجزرة الاولى 18 نيسان 1996، قال:"على ذراعي اليسرى، هنا لجهة القلب سأرسم الوعد الصادق، وكنت بدأت أرسمه بالقلم لكن القصف باغتنا قبل أن أدقه بالحبر، لكنه سيكون أول ما سأقوم به فور عودتي". غربة مزدوجة تلك التي يعيشها النازحون الى قرى كسروان. فهناك، حيث الكنائس تجاور الملاهي الليلية والتشدد المسيحي الجبلي ينفتح على أفق بحرية غربية، لا مكان مريحاً لأم عدنان وكنتها، أو لخديجة وابنتيها.